شهادات ومذكرات

نوبي محمد حسن عبد الرحيم.. المُبدع المعماري

محمود محمد عليما زلت أومن بل ربما أكثر من أي وقت مضي، بأن الإبداع يتجسد في تلك الأفكار الجديدة والمفيدة والمتصلة بحل مشكلات معينة، أو تجميع وإعادة تركيب الأنماط المعروفة من المعرفة في أشكال فريدة، ولا يقتصر الإبداع على الجانب التكنيكي، لأنه لا يشمل تطوير السلع والعمليات المتعلقة بها وإعداد السوق فحسب، بل يتعدى أيضاً الآلات، والمعدات، وطرائق التصنيع، والتحسينات في التنظيم نفسه، ونتائج التدريب، والرضا عن العمل بما يؤدي إلى ازدياد الإنتاجية؛ فالإبداع في نظري ليس إلا رؤية الفرد لظاهرة ما بطريقة جديدة، لذلك يمكن القول إن الإبداع يتطلب القدرة على الإحساس بوجود مشكلة تتطلب المعالجة، ومن ثم القدرة على التفكير بشكل مختلف ومبدع، ومن ثم إيجاد الحل المناسب

والإبداع كلمة جميلة ورائعة، ولكن لم يتوصل إلي علماء اللغة إلي تعريف جامع مانع لها بصددها، ولكن الذي يهمنا هنا في هذا المقال هو الإبداع المعماري، وهذا الإبداع حدده الكثير من الباحثين والدراسين بأن له أكثر من وجه، فأحياناً يُقصد به الاختراع، وأحياناً أخري يُقصد به اكتشاف شئ موجود غير واضح للناس، ولكن أبدع في إظهاره علي الواقع، وأحياناً يُقصد به كونه، يمثل عملية اختزالية لممارسة المهنة، أو عملية تراكمية للعمل في ذلك المجال من خلال التجارب، والبحوث، والاطلاع، وبلورته بشكل جديد يواكب العصر، وأحياناً يُقصد به توظيف المشروع لما خُصص له مع ربط عناصره جميعها لخدمة الوظيفة الأساسية.

وهناك مهندسون مبدعون في التصميم المعماري ساهموا بقدر استطاعتهم الارتقاء بفن العمارة إلي أعلي درجاتها ؛ حيث استطاعوا أن ينقلوا البحث في مجال التصميم المعماري من مجرد التعريف العام به، أو الحديث الخطابي عنه، إلي مستوي دراسته دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كانوا في هذا صارمين إلي أبعد حد، فهم الذين قال الله عنهم في كتابه العزيز :" وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ (الأعراف: 74).. فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية يحدثنا عن الأقوام أنهم اتخذوا من السهول قصورًا، ونحتوا الجبال بيوتًا.

ويعد الأستاذ الدكتور نوبي محمد حسن عبد الرحيم (أستاذ التصميم المعماري وعميد كلية الهندسة بجامعة أسيوط بجمهورية مصر العربية ) واحداً من كبار الأساتذة المصريين الذين ساهموا في وضع قواعد للتفكير الإبداعي في عملية التصميم المعماري، حيث استطاع من خلال بحوثه في فن العمارة إلي أن يرسم لنا صور جميلة عن التصميم المعماري الذي يوصف بالجمال، الاكتمال، والتناسق، ويدفعه هذا التصور إلى تجسيده واقعًا حيًّا في مفردات حياته اليومية فيما يتعلق بالبناء والعمران.

علاوة علي أنه يعد واحداً من كبار المهندسين المعماريين المصريين الذين يؤمنون، بأن التصميم للمعماري هو حجر الأساس في مهنته، ويتعدى مجرد تجميع الأحيزة الفراغية معا أو تشكيل عناصر المبنى فقط، بل هو آلية ومنهجية ونشاط ذهني.. وهنا نجد الدكتور نوبي يذكرني بقول المعماري ليبوس وودز: "إن عِلم الجمال تندر مناقشته في كليات الهندسة المعمارية".

والأستاذ الدكتور نوبي الرحيم من مواليد محافظة قنا – مركز قوص، وتدرج في مراحل التعليم الإبتدائي والثانوي والجامعي، حيث دخل كلية الهندسة – قسم "العمارة"، جامعة أسيوط، وحصل منها علي درجة البكالوريوس فى "العمارة" بتقدير عام "ممتاز"، حيث كان الأول علي دفعته عام 1988م، وفي السنة التي تليها عُين معيداً بقسم العمارة عام 1991، ثم حصل علي درجة الماجستير في العمارة تحت عنوان" التوافق بين أطراف العمل المعماري" عام 1991، وبعد ذلك حصل علي دكتوراه الفلسفة في العمارة، وذلك في موضوع بعنوان " التفكير الإبداعي في عملية التصميم المعماري"، ثم أخذ بعد ذلك يتدرج  في المناصب العلمية والإدارية، فحصل علي درجة الأستاذية عام 2014م، واستمر في عملية الترقي في العمل الإداري، حتي أصبح عميداً لكلية الهندسة من 2017 وحتي الآن .

وله مؤلفات كثيرة نذكر منها : كتاب "الإلهام المعماري"، وكتاب "الوقف والعمران الإسلامي"، وكتاب دور الوقف في إدارة موارد المياه والحفاظ على البيئة بالمملكة العربية السعودية، وكتاب "البيوت الذكية"، وكتاب "لمحات إبداعية من فنون العمارة الإسلامية"، وكتاب "تصميم البيت الحديث"، وكتاب "الدروس المستفادة من دراسة تاريخ العمارة - الجزء الأول: العصور القديمة والعصور الوسطى الأوربية"، وكتاب "الإبداع في العمارة (المفهوم - المرتكزات - التطور التاريخي)"، وكتاب "العمران الرأسي وأمراض الإنسان"، وكتاب "كيف تكون معماريا مبدعا"،  وكتاب "البحر وعلاقته بالحياة في الكويت"، وكتاب "عمارة المسجد في ضوء القرآن والسنة"، وكتاب "نظريات العمارة  جزآن".. علاوة علي قيامه بنشر العديد من الكتب (ضمن فريق عمل) في عمليات الابداع المعماري مثل "النظم المعماري"، و"الإسكان التنموي"، و"دليل المسكن الميسر".

كما قام بنشر أبحاثه في دوريات علمية محكمة، ونذكر منها "الفراغ المعماري من الحداثة إلى التفكيك - رؤية نقدية"، و"المدى الزمني لبقاء المعلومات في ذاكرة طلاب العمارة (دراسة تطبيقية على طلاب مقرر نظريات العمارة  بجامعة الملك سعود)"، و"قيم الإبداع في التصميم المعماري"، و"تنمية قدرة الطلاقة الفكرية في مراحل توليد الأفكار المعمارية (دراسة تجريبية على طلاب التعليم المعماري بجامعة الملك سعود)"، و"الإلهام في العمارة - رؤية للتبسيط والفهم"، و"الوقف والنظرية المعمارية - صياغة معاصرة"، و"طرق التغلب على حالة الكف الفكري في التصميم المعماري"، و"مبادئ التصميم المعماري لنمط المباني ذات الأفنية الداخلية"، و"دور مواد البناء الحديثة في تطور الفكر المعماري في القرن العشرين"، "التصميم الاجتماعي للمجمعات السكنية العالية"، و"تجميع النفايات المنزلية الصلبة، رؤية مستقبلية"، والمنظور الإسلامي لتعزيز النشاط البدني للإنسان"، و"الوقف الإسلامي والاستدامة (بيمارستان قلاوون بالقاهرة –حالة دراسية)"، و"تصميم البيئات التعليمية للأطفال والشباب: صياغة منظومية معاصرة في إطار الثورة الرقمية"، و"الثورة الرقمية ومباني المكتبات – الأنشطة والتصميم (المكتبة المركزية لجامعة الملك سعود بمدينة الرياض - حالة دراسية"، "المساكن الذكية (نموذج للمسكن الميسر في القرن الواحد والعشرين)"، و"منظومة الحكومة الإلكترونية"، والمدينة المعلوماتية (رؤية مستقبلية لعملية التنمية العمرانية بالمناطق الصحراوية)"، و"تقنية المعلومات في الخدمات البلدية"، و"النمو الرأسى للعمران وفقدان التماسك الأسرى والاجتماعى"، و"البعد المعلوماتى: ودوره في صياغة استراتيجيات تنمية المدن فى القرن الحادى والعشرين"، و"العمارة المعلوماتية: رؤية لإشكالية الإبداع المعماري في القرن الحادي والعشرين"، و"أسس الإبداع المعمارى"، وهلم جرا..

وقد نال عدة جوائز منها: جائزة التميز العلمي لأفضل كتاب مؤلف من جامعة الملك سعود (مناصفة) عن كتاب الوقف والعمران الإسلامي، وتاريخ منح الجائزة مايو 2013م، وجائزة الشيخ خليفة بن سلمان بن محمد آل خليفة العلمية لعام 2001م، مركز معلومات المرأة والطفل، عنوان البحث "منظومة العلاقات الاجتماعية في عصر المعلوماتية (رؤية لبنية المجتمعات الإسلامية في عصر المعلوماتية"، مدينة عيسى، البحرين، وجائزة الشيخ عبد الله المبارك الصباح للإبداع على مستوى الوطن العربي لعام 2001م، عن موضوع "البحر وعلاقته بالحياة في الكويت"، دار سعاد الصباح، الكويت.. وجزائز أخري كثيرة.

ونحاول في هذا المقال أن نبرز الجوانب الإبداعية في فكر الدكتور نوبي عبد الرحيم، حيث نجده في بحثه في "الفراغ المعماري من الحداثة إلى التفكيك - رؤية نقدية" يركز علي الطروحات المعاصرة على دراسة مفهوم وعملية التصميم من زوايا عدة تميزت اغلبها بالتزام جانباً علمي واحد في الدراسة كالإبداع والمنهج وعناصر التصميم أو غيرها. وهذا ما أبعد النتاج الفكري والمعرفي بالمحصلة عن الشمولية في تحديد وفهم خصائص وملامح هذا المفهوم وفي نفس الوقت وسع القاعدة المعرفية عن جانب لوحده دون الاخر بشكل جعله ينفصل عن بقية الجوانب ويفقد العلاقة المعرفية والفكرية التي يمكن أن توجد في حال درس بشكل مرتبط مع البقية. هذا كله شكل الأساس والحاجة الحقيقية لانطلاقة البحث والسعي لفهم وعرض الشمولية المتأتية من دراسة مفهوم التصميم باعتماد علاقة جانبين أساسيين فيه هما الجانب الإبداعي والجانب المنهجي.

وأما "الإبداع في العمارة (المفهوم - المرتكزات - التطور التاريخي)"، فيسعي الدكتور نوبي إلي إيجاد نوع مـن العلاقة بين أفعال التفكير التي يقوم بها الذهن، وما بين عمليات الإنتاج في العمارة، واتضح لنا ذلك حين كشف لنا أن عملية التصميم تتضمن تداخل ثلاثة أنماط فكرية تتمثل في التخيل، والعرض، والاختبار مع نوعين من المعلومات هما المعلومات المحفزة للخيال مع جسم معرفي للتحقق وتسير بشكل لولبي يمثـل تقدم الفعل التصميمي، ويتم عن طريق سلسلة من تطابق المفـاهيم بالانتقالات الإبداعية وتتعمق فيه مسؤولية المصمم تباعاً.

وفي كتابه التفكير الإبداعي في عملية التصميم المعماري أوضح لنا الدكتور نوبي أن التداخلات الفكرية في أثناء العمل التصميمي، تحدث لتشكيل ما أطلق عليه اسم فعاليات التقييم التحليلي وفعاليات التقييم التركيبي بشكل مستمر، وبصورة يكون الفصل فيما بينها غير ممكن من الناحيـة العمليـة وإن السلوك التصميمي يتفاوت في مقدار ما يحويه من نسب لإنجاز هذه الفعاليات عبر الزمن المخصص لإتمام المهمة المناطة بالمصمم.

وأما في كتابه "الوقف والعمران الإسلامي"، فقد أكد الدكتور نوبي أن المصمم غالباً ما يلجا إلى إجراء الفعاليات التصورية، أو عمليات خلق الأشكال في مخيلته عندما يحاول فهم أو إدراك المعضلات البصرية، وأن تلك الصور الذهنية غالبا ما تقوم بالنسبة له مقام اللغة المحكيـة بالنسبة للآخرين.

وفي دراسته عن "العمارة المعلوماتية"، أكد الدكتور نوبي عن تحتاج النظريات العلمية والفنية إلى خيال لكي تخرج بصورتها المتناسقة والمترابطة، فالإنسان هو المصدر الأساس والمنبع لكل المكتشفات العلمية والفنيـة، ويمكن القول أن المنبع الذي ينبثق منه الكشف العلمي الجديد والعمل الفني الجديد هو منبع واحد، وأن الجذور الاولى والعميقة للعلم والفن واحدة وجذورها الأصلية ترجع لمصدر الإبداع في الإنسان.

كذلك في دراسته عن "قيم الإبداع في التصميم المعماري"، أكد الدكتور نوبي أن الجدة والحلول غير المكررة على مستوى البناية ككل هي من علامات العمارة المتميزة. كما وصف العمل المبدع بأنه واقعي ويساعد في حل المشكلة، علاوة علي أنه لا بد من التعرف على مصدر الجدة وصيغ تحقيقها لأن مصدر الجدة فـي الفكرة هو ليس التوغل باتجاه اعماق المشكلة التصميمية، وليس فقط باتجاه الحل فحسب، بل مدى التوغل المـرتبط بحساسية التقاط ما هو صميمي وغير مباشر مقارنة مـع ما هو عرضي وسطحي.

وفي دراسته عن "تنمية قدرة الطلاقة الفكرية في مراحل توليد الأفكار المعمارية"، أكد الدكتور نوبي تركز الدراسة على أسس المدرسة الإدراكية في علم النفس المعرفي في تفسير العمليات التي تحدث في ذهن المصمم عند إنجازه للمهمات التصميمية، وأن العمل التصميمي يؤسس بعدد من المحددات الداخلية والخارجية التي تشكل المولد الأساس للحل، فالمحددات الداخلية هي ما يمليه المحتوى الضمني للمشكلة التي غالباً ما يحددها المستفيد لتشكل جسد الخلاصة التي يعتمدها المصمم في الحل في حين تشكل المحددات الخارجية المحتوى الظرفي للمشكلة التي تغطي المؤثرات العامة للحل كما أنها تزود بالإمكانيات المكانية والزمانية لمجال تأثير المشكلة، ولذلك فهي تكون مؤثراً ملهماً في تأليف الحل.

ويتبنى الدكتور نوبي في دراسته عن "الإلهام في العمارة"، فكرة أن التصميم مجال يندمج فيه الحدس بالمنطق، وأن الحدس يسير تدريجياً ليتحول إلى مقدمات عقلانية، ويحاول التقدم بمنهج يزود المصمم بآليات منتظمة لحفظ معلوماته خارج الذاكرة، دون الحيلولة ضد حرية انتقال الأفكار لديه.. وفي دراسته عن "مبادئ التصميم المعماري" يتبنى الدكتور نوبي أيضاً أن التصميم يتمثل بمحاكاة ما موجود مـن أشكال الطبيعة والأشكال المصطنعة من خلال توجيه طريقة تفكير المصممين مع وجود تباين بحسب الحقل المتبنى لحل أي مشكلة تصميمية ليؤشر ذلك اعتماده جانبين أساسيين متعاشقان في سبيل منحه الفاعلية للأداء همـا الجانب الإبداعي والجانب المنهجي.

أما في دراسته عن "دور مواد البناء الحديثة في تطور الفكر المعماري في القرن العشرين"، فيتبنى الدكتور نوبي كذلك أن الجانب الإبداعي التخيلي يعتمد على أساس سمة الانطلاق للوثبة الفكرية الإبداعية باعتماد علاقة النتاج بمرجعه من أجل تحديد درجة الجدة والأصالة في النتاج مع مراعاة السياق المعتمد للعمل والمدى الزماني والمكاني.. وفي دراسته عن "التصميم الاجتماعي للمجمعات السكنية العالية"، فيوصي الدكتور نوبي في هذ البحث بضرورة التأكيد على أهمية فهـم ودراسة دور التلقي في تعريف العلاقة بين الجانب الابداعي والجانب المنهجي لمفهـوم التصميم المعماري... وفي بحثه الذي نشرة الدكتور بعنوان "المدينة المعلوماتية" .

وأخيراُ وعلي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقدمات شخصية الدكتور نوبي عبد الرحيم بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمهندس مبدع في أعمال كثيرة ومتنوعة، ونموذج متفرد لأستاذ جامعي نذر حياته لخدمة الوطن.

تحيةً لنوبي عبد الرحيم الذي  لم تستهويه السلطة، ولم يجذبه النفوذ، ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً .

بارك الله لنا في نوبي عبد الرحيم قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه "أشباه المعماريين"، وأمد الله لنا في عمره قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاه الله لنا إنساناً نلقي عليها ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم