شهادات ومذكرات

ماركوس أوريليوس.. إمبراطور بدرجة مفكر!!

يسري عبد الغنيماركوس أوريليوس، كان مولده في روما عام 121 م، وتوفي والده وهو صبي صغير، فكفلته أمه، وقام على تربيته خيرة الأساتذة على أيامه، ولقد أثنى ماركوس أوريليوس في خواطره على جميع الذين اشتركوا من قريب أو من بعيد في تربيته وتعليمه، تعلم في صباه البلاغة، والآداب، والرياضيات، والفلسفة، وتبناه الإمبراطور أنطونينوس بأمر الإمبراطور إدريانوس عام 138 م، فأصبح ماركوس أوريليوس من أمراء الرومان، ولما مات الإمبراطور أنطونينيوس عام 161 م، أصبح ماركوس أوريليوس إمبراطورًا على البلاد الرومانية، وله من العمر أربعون سنة .

وكانت أيام حكم الإمبراطور ماركوس أوريليوس مملوءة بالقلاقل والفتن والاضطرابات، إذ كانت الدولة الرومانية نفسها مهددة بالغزو، فاضطر الإمبراطور الفيلسوف إلى تعبئة الجيوش، وإعداد عدة الحرب، وقام بنفسه على رأس الجيش الروماني الذي توجه لصد هجمات البرابرة الذين قدموا من جهة نهر الدانوب، واضطر أيضًا إلى أن يبيع ما كان يملك من حلي وجواهر، ليدفع من ثمنها أجور الجنود، حتى لا يضطر إلى فرض ضرائب جديدة على الشعب الذي كان يعاني العديد من الصعوبات في يومه المعاش .

ماركوس أوريليوس قضى منذ ذلك الحين حياته كلها في جهة نهر الدانوب، على مقربة من فينا النمساوية، ولم يكن الرجل محبًا على الإطلاق للحرب الذي يعلم جيدًا أنها شؤم وخراب ما بعده خراب، ولكنه اضطر إلى خوض عمارها، ونراه في كتاب (الخواطر) يخلو إلى ضميره ويحاسب نفسه، فيبدو له أن كل شيء باطل لا قيمة له، وأن الحروب التي استبسل فيها قليلة الجدوى والنفع، قال: " العنكبوت فخور حين يأخذ ذبابة، وهذا الرجل فخور حين يأخذ أرنبًا صغيرًا .. وذاك فخور حين يستولى على بلاد غيره أو يبيع أرضه، والجميع من حيث المبدأ لصوص ... " .

توفي الإمبراطور الفيلسوف بمرض الطاعون الأسود في فينا عام 180 م، فكان يوم وفاته، كما قال الكاتب والمؤرخ / إرنست رينان: يومًا مشئومًا على الفلسفة وعلى المدينة .

وقد خلف الإمبراطور الفيلسوف مجموعة من التأملات الفلسفية اسماها (خواطر)، كتبها باللغة اليونانية في ساعات الفراغ التي كان يقتنصها من حياة مليئة بالمشاغل والمتاعب والمخاطر، ليخلو إلى نفسه فيخاطبها ويحاسبها أشد   الحساب، وتعد هذه الخواطر من روائع الكتب الإنسانية، التي تستحق أن نتأملها وننهل مما فيها من دروس مستفادة .

وماركوس أوريليوس آخر ممثل للفلسفة الرواقية في العصور القديمة، ويلقب عادة بلقب (الفيلسوف على العرش )، ولقد جعله القدر إمبراطورًا  فيلسوفًا، فلم ينس واجباته كإمبراطور وحاكم، كما لم تفارقه لحظة واحدة شيمة  الفيلسوف .

آثر ماركوس أوريليوس الفلسفة على الخطابة التي كانت شائعة في عصره ومتقدمة بشكل كبير لم يسبق له مثيل في أي عصر، واختار المذهب الرواقي فاعتنقه بصدق وإخلاص، ولكن موقفه من الرواقية أدنى إلى موقف القاضي من موقف المحامي، نراه يرفض الكثير مما اتخذته المدرسة الرواقية من القضايا المسلمة، ومن أجل ذلك نجده قد طرح شطرًا كبيرًا من تفاصيل المذهب   الرواقي، فأغفل منه دراسة المنطق والطبيعيات الرواقية، بل وشكر الله إذ أعانه على ذلك الخير.

ولعل في ذلك الموقف عوضًا ومغنمًا، فإن ماركوس أوريليوس استطاع بهذا أن يبرز من تلك الفلسفة بعض خصائصها التي استجابت لها قلوب الناس في زمانه، والتي أصبحت بهذه المثابة آخر رسالة بعث بها العالم القديم إلى الأجيال المقبلة .

ولم يكن الإمبراطور الفيلسوف في رواقيته متشددًا ولا جافيًا، بل كان في مذهبه لين ويسر وإنسانية، وفي الواقع أن كل ذلك خصائص مهمة ومطلوبة لم تعرفها الرواقية القديمة، وكان الرجل يتحاشى قدر الطاقة والإمكان ذكر الاصطلاحات الرواقية البحتة المعقدة، فكان قوله أيسر على السمع، وفكره أجرى إلى القلوب المتعطشة إلى كلمة مفيدة نافعة .

قد تسفر الحياة عن وجه عبوس مكفهر، وطبيعي عند ذلك أن يلتمس المرء ملجأ ومقامًا وادعًا، ولكن أين يجد المرء هذا الملجأ الأمين ؟، يجده في النفس ولا شيء غير النفس، يقول ماركوس أوريليوس: إنهم يبحثون عن أماكن العزلة، ويفتشون عن الريف، ويرتادون الجبال وشواطئ البحار .. ولكنهم في هذا كله يجاوزون الصواب: " إذا شئت أن تجد مكانًا منيعًا فاطلبه في نفسك التي بين جنبيك، فليس في العالم موضع أهدأ ولا أبعد عن السآمة مما يجد المرء حين يخلو إلى نفسه .."، ويقول أيضًا: " لتعلم أن نفسك منبع الخيرات جميعًا: هي منبع لا ينضب على شرط أن تزيده كل يوم تعميقًا " .

يقول الملك الإمبراطور الفيلسوف: لا يغيبن عنكم أن الناس جميعًا متساوون، وأن لهم من العقل أنصبة متساوية، وهم من أجل هذا يحبون الاجتماع، ذلك أن الموجودات كلما ارتفعت في المنزلة، زاد ائتلافها وانجذابها بعضها إلى بعض .

ويؤكد لنا على أن الواجب على الناس بحسب قانون الطبيعة أن يتحابوا، وأن يتواصلوا، وهم مندوبون إلى أن يتعاونوا أوثق تعاون في سبيل العمل الجاد الشامل والخير العميم للناس أجمعين .

لقد أوصت الرواقية أن يعامل الناس بعضهم بعضا معاملة الإخوان، إذ الناس على اختلاف ألوانهم وشعوبهم، تجمعهم وحدة العقل والجوهر .

ولا ينسى الإمبراطور المفكر أن يلفت نظرنا إلى رابطة القربى التي تصل بين كل فرد من أفراد الناس، وبين الجنس البشري عامة، وليس يعدل هذه القرابة، في نظره، قرابة الدم ولا قرابة المولد، لأنها قرابة قائمة على شرف الانتساب إلى عقل واحد، وإذن فواجب التعاون وحُسن المعاملة يقتضي الوئام والاتحاد .

ويذهب إلى أنه لربما امتاز الإنسان بأنه قد يحب حتى من اعتدى عليه أو أساء إليه، على أن الناس إذا كانوا يأتون الشر ويسيئون إلى غيرهم في حياتهم المعاشة، فذلك في الحقيقة على الرغم منهم، ولأنهم يخطئون، فعلينا أن نعمل بقدر الطاقة والإمكان إلى أن نبين لهم خطأهم ونحتمل مساءتهم .

هذا ما يذهب إليه ماركوس أوريليوس، وهو فيه على اتفاق مع سقراط ومع الرواقيين الأقدمين، وعليه يرى الإمبراطور المفكر أنه إذا أخطأ إنسان في حقنا فينبغي علينا أن نلتمس له المعذرة، وأن نكون به من المترفقين، فالرفق فعال قوي الأثر في النفوس، على شرط أن يكون بريئًا لا يشوبه عبوس ولا نفاق ..، فإذا أخطأ مخطئ، فاقبل عليه بنفس راضية، وتحدث إليه في رفق ومودة، من غير إعنات، ولا لوم، ولا ضغن، ولا استهزاء .

ويطلب منا أن لا نكلم من أخطأ في حقنا أو أساء إلينا، لا نكلمه كما نكلم تلميذًا في المدرسة، ولكن لكي تشرئب أعناق الحاضرين إعجابًا بك، بل تحدث إليه وكأنه وحده من غير شهود ...

حقًا هذا الإمبراطور المفكر الفيلسوف يستحق منا أن نعرفه وأن نتأمل أفكاره، لعلنا نستفيد منها، ونفيد الآخرين إذا استطعنا إلى ذلك سبيلا .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم