شهادات ومذكرات

حكاية الجنرال!!

يسري عبد الغنيفي يوم الحادي والعشرين من شهر يوليو عام 1771 م، أقيمت الاحتفالات المقدسة والصلوات على رأس نابليون، الابن الشرعي الذي جاء ثمرة لزواج السيد / كارلو بن المرحوم جوزبي بونابرت، والسيدة / ماريا ليتيز قرينته، والمولود في الخامس عشر من أغسطس لعام 1769 م ".

بهذه الوثيقة التي تم بها تعميد هذا الطفل، وفقًا للتقاليد التي كانت مرعية تحت نظام الحكم القديم في فرنسا، وهي الوثيقة التي تعتبر في ذات الوقت شهادة ميلاد، لا تبدأ حياة إنسان فحسب، وإنما تبدأ كذلك ملحمة شعرية، وأسطورة لا يمكن أن تنسى، فحتى اليوم، لا يزال نابليون بونابرت واحدًا من أشهر رجال التاريخ .

رجل ذكي، صلب الرأي، شديد الطموح:

ولو كان نابليون قد جاء إلى الدنيا قبل مولده ببضعة أشهر، لكان قد ولد إيطاليًا، والواقع أنه عندما اكتحلت عيناه بنور الحياة في الخامس عشر من شهر أغسطس عام 1769 م، كان الصراع الذي خاضه سكان جزيرة (كورسيكا) ضد القوات الفرنسية المحتلة قد توقف منذ أيام معدودات، ومن هنا ولد نابليون فرنسيًا، ولو أنه جاء من أبوين إيطاليين، ينحدر كلاهما سواء والده كارلو ماريا بونابرت، أو والدته ماريا ليتيزيا رامو رينو، من أسرتين إيطاليتين عريقتين عاشتا في إقليم (توسكانيا) .

وقد ولد نابليون في بيت قديم في قلب مدينة (أجاكسيو)، عاصمة جزيرة (كورسيكا)، وكان ترتيبه الثاني من بين ثمانية أبناء، وكانت أمه تكاد تذوب حبًا وحنوًا على أبنائها، ولكنها لم تكن متسامحة معهم، ومن ناحية أخرى فإن نابليون كان منذ نعومة أظفاره طفلاً لا يطاق، إذ كان مستبدًا يكثر من استعمال يده، ولو أنه كان في غاية الذكاء، إلى جانب أنه كان مرهف الحس إلى درجة مفرطة، ولم يلبث أن بدت عليه ميول قوية لعلوم الرياضيات والتاريخ .

وقد درس نابليون في (أجاكسيو)، ثم التحق في شهر مايو 1779 م بالمدرسة العسكرية في (بريان) بمقاطعة (شامبانيا)، وقرر والده أن يصبح جنديًا، فالتقى بذلك مع رغبة الطفل، الذي لم يكن قد جاوز العاشرة من عمره، والذي كان يتحرق شوقًا لهذه المهنة .

وظل الغلام القادم من جزيرة (كورسيكا) في (بريان) منطويًا على نفسه، يملؤه العناد والاعتداد بالنفس، وبقى فيها خمسة أعوام، تكونت خلالها طباعه، وعثر على الطريق الذي اختار أن يسلكه في الحياة، وهو الطريق الذي حمله فيما بعد إلى بعيد، ووصل معه إلى علو كبير.

الضابط الشاب:

وفي عام 1784 م، حصل نابليون على مكان في الكلية الحربية في باريس، وظل بها عامًا واحدًا، رقي بعده في 28 من أكتوبر 1785 م، وكان حينئذ في السادسة عشرة من عمره، إلى رتبة الملازم في المدفعية، وفي الشهادة التي حصل عليها في نجاحه، وجدت ملاحظة تقول: " طموح يتطلع إلى كل شيء " .

وهكذا بدأ وجوده الرتيب في الحامية التي عمل بها، وتنقل خلال ذلك بين العديد من مدن فرنسا، بينما كانت الثورة الفرنسية آخذة في الانتشار، كما تنتشر النار في الهشيم .

جنرال في الرابعة والعشرين:

وفي السادس والعشرين من شهر سبتمبر عام 1793 م، كتب عضو في مجلس النواب الفرنسي أوفدته الحكومة الفرنسية لكي ينظم الحصار الذي ضرب حول مدينة (طولون)، التي كانت قد تمردت على قوات الثورة، كتب يقول: " حدث أنه نتيجة للجراح التي أصيب بها الكابتن دو مارتان، أن وجدنا أنفسنا وليس لدينا من يستطيع أن يتولى قيادة سلاح المدفعية، لولا أن وقعت معجزة، وصادفنا حسن الطالع، وذلك بالتقائنا بالمواطن بونابرت، وهو ضابط برتبة كابتن، شديد البراعة، ويعمل في ذات السلاح، فطلبنا منه أن يتولى القيادة بدلاً من دو مارتان " .

كانت مدينة (طولون) الفرنسية التي يؤيدها الأسطول البريطاني، تبدو وكأنها يستحيل استردادها، لكن الضابط الشاب نابليون وضع خطة عبقرية قوية، سقطت على أثرها مدينة (طولون) واستسلمت، وبدأ نجم نابليون يلمع، إذ ما كادت تنقضي سنة على نجاح خطته، حتى رقي إلى رتبة جنرال (قائد فرقة)، وكان عمره إذ ذاك أربعة وعشرين عامًا .

وبهذه الرتبة العالية، اشترك نابليون في عام 1794 م في الحملة العسكرية على إيطاليا، فلفت إليه الأنظار بما قام به، وعُرِفَ بما كان يريد أن يُعرف به، فلما جاء عام 1795 م، كان هذا هو العام الذي بدأ فيه صعوده إلى القمة، ففي ذلك العام وبالتحديد في شهر أكتوبر، تمرد جانب من سكان (باريس) بتحريض من أنصار الملكية، سخطًا على الطريقة التي كانت تدار بها شئون البلاد السياسية، وأعلن تمرده على حكومة الثورة .

وانفجرت الثورة المسلحة في الرابع من أكتوبر، وما كاد يحل مساء ذلك اليوم، حتى أخذت الأمور تسير في غير صالح القوات الحكومية، التي حاصرتها جماهير شرسة، ومن حسن طالع الحكومة، أن ألقى نابليون بنفسه في المعمعة، ومعه بطارية من المدفعية بشجاعة منقطعة النظير، مما مكنه أن ينجح في البداية من شل حركة المتمردين، ثم بعد ذلك في فك الحصار، وبدأ حظه المذهل في ليلة الخامس من أكتوبر، فلما حل اليوم السادس والعشرون، صدر قرار عين بمقتضاه قائدًا عامًا للجيش الفرنسي الداخلي .

أول زواج:

تعرف نابليون في الأيام التي تلت ثورة باريس على سيدة شابه، وهي (جوزفين بوهارنيه)، وكانت أرملة لضابط برتبة جنرال، أعدم بالمقصلة خلال الثورة الفرنسية، فلما انقضت على هذا التعارف خمسة شهور، تزوج نابليون من (جوزفين)، وكان ذلك يوم التاسع من مارس 1796 م، وبعد الزواج بيومين، إذ به يكلف بالسفر ليشترك في الحملة على إيطاليا .

وعند هذا الحد، تحولت حياة نابليون إلى سلسلة متتابعة، مما يمكن أن يوصف بأنه ملحمة شعرية حقيقية، ويأتي السؤال: ما الذي جعل نابليون يصبح نابليونًا ؟!، إنه عندما وصل إلى إيطاليا في عام 1796 م، لكي يتولى القيادة، كانت في انتظاره مجموعة من الجنرالات الأفظاظ الذين يفوقونه سنًا، راحت تنظر إليه في غير ثقة .

كانوا يقولون:كيف يمكن لهذا الرجل أن يصبح قائدًا عامًا، وهو لا يزال شابًا في السابعة والعشرين من عمره ؟، كانوا يزمجرون قبل أن يلقوه، فلما التقى بهم حبسوا جميعًا أنفاسهم، وقد أسر الجنرال (أوجنرو)، وهو أشدهم عداءً لنابليون، إلى زميل له بقوله: " إن هذا الجنرال القصير القامة القادم من جزير (كورسيكا)، قد أدخل الخوف على قلبي " !!.

أجل إنه كان يعرف كيف يخيف الخصم، ولكنه كان يعرف إلى جانب ذلك كيف يجعل من حوله يحبونه بشكل لا يخطر على البال، ولم يكن نابليون طويل القامة، إذ كان طوله 1.68 متر، فضلاً عن أنه كان شاحب الوجه، إلا أن عينيه كانتا حادتين، وكان يجيد النظر بهما إلى أعماق النفس، وكانت نظراته هذه تثير فيمن تقع عليه انفعالاً لا ينسى.

كان نابليون بونابرت يعرف كذلك كيف يتحدث، وكان يعرف أيضًا كيف ينتقي أبسط الكلمات وأسهلها ليخاطب بها جنوده، وأيضًا أعنفها وأشدها جفافًا ليوجهها إلى الجنرالات والملوك .

أعظم فترات حياته ومولد ملك روما:

وبعد الحملة على إيطاليا، جاءت الحملة الفرنسية على مصر، ثم كانت أمجد فترات حياته، هي فترة الحروب الأوربية فيما بين عامي 1799 م ـ 1804 م، التي قادت نابليون إلى تأسيس الإمبراطورية .

وفي عام 1809 م، انفصل عن زوجته جوزفين، وتزوج في عام 1810 م، من الأميرة ماري لويزا النمساوية، ابنة فرنشسكو الثاني، وفي العشرين من مارس سنة 1811 م، رزق نابليون بابن ولد في قصر (التويلليري)، وسماه نابليون فرنشسكو، وقد حصل على لقب ملك روما، ولكنه لم يجلس على العرش قط، وكانت حياته قصيرة تعسة، وهناك صورة تحمل عنوان (ملك روما) لهذا الصبي، رسمها الفنان الفرنسي / لورانس في القرن الـ 19، وهناك صورة أخرى مشهورة لنابليون وهو في زي الإمبراطور، وعلى رأسه التاج، وفي يده الصولجان، بريشة الفنان     الفرنسي / جيرار .

السقوط العظيم:

وانقضى عام في هدوء نسبي، كان نابليون خلاله أبًا حنونًا، وكان يعتقد أنه بمولد ولي عهده قد دعم أسس سلطانه، في حين أن أفول نجمه كان قد بدأ بالفعل، وصدق من قال: ما طار طير وارتفع، إلا كما طار وقع !!

في عام 1812 م، كانت الحملة الفاشلة على روسيا بما استتبعها من أحداث أدت إلى هزيمة (ووترلو) الشهيرة، وفي 22 من يونيو سنة 1815 م، نزل نابليون عن الحكم، وأعلن ابنه إمبراطورًا لفرنسا، ولم يكن قد جاوز الرابعة من عمره .

وغادر الجنرال باريس الفرنسية يوم 29 من نفس الشهر، واستقل عربة انطلقت به إلى (روشفور) في خليج (جاسكانيا)، التي كانت تحاصرها سفن الأسطول البريطاني، وصعد نابليون إلى الفرقاطة (بلليرفون)، وبعث إلى الوصي على عرش بريطانيا رسالة ينبئه فيها أنه قادم ليضع نفسه تحت حماية قانون ضيافته .

كانت بريطانيا قد وضعت يدها أخيرًا على عدوها اللدود، فقررت أن تنفيه وتعزله بعيدًا عن العالم المتحضر، فنقلته إلى جزيرة (سانت هيلانة)، وسط المحيط الأطلنطي، فوصلها نابليون مع حاشية صغيرة يوم 16 من أكتوبر 1815 م، حيث أقام في منطقة (لونج وود)، في بيت ريفي متواضع، حيث قضى فيه ست سنوات .

وأفل نجم الجنرال:

وفي خريف 1819 م، بدأت صحة الجنرال نابليون في التدهور، نتيجة المناخ السيئ في الجزيرة، وفي يوليو عام 1820 م، ظهرت عليه أزمات الكبد والمعدة، بعد إصابته بقرحة حادة، وإن قال البعض أن الجنرال مات مسمومًا بمادة الزرنيخ التي كانت توضع له في الطعام بكميات قليلة جدًا، حتى يموت ببطء، ولا يكتشف أحد تسممه، على كل حال فهذا موضوع يكتب بمفرده .

أعود لأقول لك: في شهر أبريل 1821 م ساءت حالته، حتى إذا كانت الليلة الواقعة بين 3، 4 مايو، بدأ يدخل في مرحلة الخطر، وفي صباح يوم 5 مايو، كان الإمبراطور فاقد الشعور، وظل طوال اليوم بلا حراك، وعيناه ثابتتان في محجريهما، من حوله الجميع يعتصرهم الحزن، لنتذكر جميعًا الصورة التي رسمها الفنان الفرنسي / استوين، والتي كان عنوانها (نابليون يحتضر) .

ونتذكر صور قديمة لمنظار الميدان الخاص بنابليون، الذي أخذه نابليون معه إلى الجزيرة التي نفي إليها، وكذلك ساعة بيته في (سانت هيلانة) وقد وقفت على الوقت الذي مات فيه، و مجموعة الخرائط التي كان يحتفظ بها، ومجموعة الأوراق التي عليها توقيعه، وقبعته الخاصة، وحقيبته، والصور العديدة التي رسمها نخبة من الفنانين الفرنسيين لنابليون وهو في منفاه بجزيرة (سانت هيلانة)، وأيضًا صور للبيت الذي ولد فيه نابليون بونابرت في (أجاكسيو)، وصورة الإمبراطورة جوزفين، التي رسمها فرانسو جيرار، في القرن التاسع عشر .

الرحلة الأخيرة والمثوى الأخير:

وبأمر من الإنجليز، دفن نابليون في جزيرة (سانت هيلانة)، حيث ظل حوالي عشرين عامًا، وأخيرًا، وفي عام 1840 م، أعاد الملك لويس فيلب جثمانه إلى أرض الوطن الفرنسي، فاستقبلته باريس استقبالاً رائعًا حافلاً، وأحاطت المظاهرات بجثمان الإمبراطور، وحملته الجماهير في باخرة صعدت به طول نهر السين الفرنسي .

وفي 15 ديسمبر من نفس العام، أقيمت مراسم جنازة عظيمة فخمة ضخمة، ثم أودع الجثمان في مثواه الأخير، في مقبرة نابليون في قصر الأنفاليد في باريس .

 

د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم