شهادات ومذكرات

إبراهيم محمد إبراهيم صقر.. عاشق الفلسفة الإسلامية

محمود محمد عليلا يمكن كتابة سيرة النهضة الثقافية والأكاديمية بجامعة الفيوم بجمهورية مصر العربية، دون الوقوف أمام اسم الأستاذ الدكتور إبراهيم محمد إبراهيم صقر (أستاذ بقسم الفلسفة الإسلامية المتفرغ بكلية الآداب جامعة الفيوم)  الفيلسوف الأكاديمي، الذي تعود ألا يضع أحدًا فوق النقد، لم يستثن ذاته من النقد، لعدم قدرته على إحداث التغيير، وعدم التفات السلطة إلى أمثاله من المفكرين، ولا تزال أطروحاته الفكرية تشغل بال العديد من المهمومين بحال العقل العربي، حتى اليوم.

لم يكن إبراهيم صقر ( مع حفظ الألقاب ) يُلقن طلبته النصوص الفلسفية، وإنما كان على التفكير الحر يحرضهم ويدربهم، فيبدأ محاضراته مخاطباً طلبته بالقول:" لا تعتقدوا أني أُعلمكم الفلسفة بمعنى المذاهب والمدارس والأفكار التي يزخر بها تاريخها، إنما أُعلمكم التفلسف، فكروا بأنفسكم، قفوا على أقدامكم».

ويعد إبراهيم صقر أحد الرواد القلائل في ميدان دراسات الفلسفة الإسلامية بمصر، وتعد أعماله مراجع رئيسية للباحثين في المشكلات الفلسفية، والاستشراق،وامتلك مهران قدرة هائلة في تحليل الفلسفة الخلقية عند فلاسفـة الإسلام، كما تمكن إبراهيم صقر من الفلسفة، من تاريخها ومادتها ومناهجها ومدارسها، وهو تمكنٌ لم يبلغه إلا القلة من الأكاديميين في عالمنا العربي، وعلى يديه تخرج العديد من أساتذة الفلسفة في مصر، ونجح فيما لم ينجح فيه إلا القلة أيضاً، وهو تلك البساطة الساحرة في لغته، البساطة العميقة، مهما بدا هذا التعبير منطوياً على مفارقةٍ ما.

كما يعد إبراهيم صقر واحدا من الرعيل الثالث لرواد الفكر الفلسفي الغربي في مصر في العصر الحاضر حيث تسلم الراية بمصر بما كتبه وبما حققه في ميادين الفلسفة الإسلامية، وكذلك بتخريجه لجيل كامل من الأجيال التي تولت الدراسات في التراث الفلسفي الغربي سواء بإشرافه علي أبحاثهم أو بالاشتراك في مناقشات أبحاثهم أو بمساعدتهم بالمشورة والنصح.

عاش إبراهيم صقر مؤمناً بقيمة العقل الإنساني، وقدرته علي مواجهة مشكلات الواقع رغم صعوبتها وشراستها . والعقل منحة من الله تعالي لكل البشر تماما مثل الوحي الذي يتنزل علي بعض المصطفين منهم، لذلك فإن التعارض الذي يفتعله البعض بين العقل والوحي، أو الفلسفة الحقة والشريعة : تعارض مصطنع، وغير حقيقي، ويكاد يكون لفظياً في معظم الأحيان . وما دام المصدر واحدا وهو الله، فمن المستبعد تماما أن يتعارض العقل مع الشرع .

قال عنه أستاذنا الدكتور عاطف العراقي :" بأنه من أبرز تلاميذه الذين درسوا المشكلات الفلسفية بأسلوب موضوعي هادئ، فلم يلجأ إلي اللغة الخطابية الإنشائية، كما لم يلجأ إلي المبالغة والتهويل، علي النحو الذي نجده عند أناس لا صلة بينهم وبين الروح الفلسفية، من قريب أو بعيد . لقد كان إبراهيم صقر ملتزماً بالتواضع ولم يكن كهؤلاء المصابين بنوع من تضخم الأنا" .

ولد إبراهيم صقر في الرابع والعشرين من شهر ديسمبر لعام 1954م، في محافظة القاهرة، حيث حصل علي ليسانس أداب من قسم الفلسفة بكلية الآداب – جامعة القاهرة – بتقدير جيد جدا دور مايو 1977م، ثم ماجستير الآداب فى الفلسفة الإسلامية من كلية الآداب – جامعة القاهرة بتقدير ممتاز عام 1986 وموضوع الرسالة:" المصادر اليونانية فى فلسفة ابن سيناء الإلهية"، ثم دكتوراه الفلسفة فى الآداب بمرتبة الشرف الأولى من كلية أداب سوهاج – جامعة أسيوط عام 1991م وموضوع الرسالة: "مشكلة السببية وعلاقتها بوجود العالم عند فلاسفة الإسلام".

عُين إبراهيم صقر مدرساً مساعداً بقسم الفلسفة بكلية دار العلوم – جامعة القاهرة – فرع الفيوم فى الفترة من 14/6/1990 وحتى 26/3/1991، ثم عمل مدرساً بذات القسم بالكلية اعتبارا من 27/3/1991 وحتى 24/10/2001، ثم عمل أستاذ مساعد بذات القسم بالكلية اعتبارا 25/10/1995 وحتى 27/2/2001، كما عمل أستاذا بذات القسم بالكلية اعتبارا من 28/2/2001 وحتى تاريخه، ثم عين قائم بعمل وكيل الكلية لشئون التعليم والطلاب وحتى 7/10/2003، كما عين وكيل للكلية لشئون التعليم والطلاب وحتى 7/10/2003.، ثم عين عميداً لكلية دار العلوم – جامعة القاهرة – فرع الفيوم وحتى 7/10/2006م، وفي 9 بتاريخ 2005م أصدر السيد الأستاذ الدكتور جلال مصطفى السعيد رئيس جامعة الفيوم قراراً لسيادته بالعمل عميداً لكلية دار العلوم – جامعة الفيوم – لحين استكمال مدة العمادة فى 7/10/2006م.

استطاع الفيلسوف المصري، على مدار حياته، أن يقدم للمكتبة العربية تراثًا ثريًا، سواء من جهة مؤلفاته كتاب الفلسفة الخلقية عند فلاسفة الإسلام – القاهرة 1994م، و كتاب دراسات منطقية عند فلاسفة الإسلام – القاهرة 1994م.، كتاب دراسات فى علم الكلام – القاهرة 1995م، مشكلات فلسفية تصدير د/ عاطف العراقى – القاهرة 1997م.، النفس الإنسانية بين الفناء والبقاء عند مفكرى الإسلام – القاهرة 1998م، قضية التأويل عند ابن رشد – القاهرة 1999م، الإستشراق والفلسفة الإسلامية بين التجديد والتبديد – القاهرة 2000م، ل إلى الفلسفة الإسلامية – القاهرة2000م، محاضرات فى الفلسفة العامة دار العلم بالفيوم 2003م، حى بن يقظان بين الثوابت الدينية والنظريات الفلسفية مكتبة دار العلم بالفيوم 2004م، محاضرات فى التصوف الإسلامى دار العلم بالفيوم 2005م,

علاوة علي العديد من الدراسات والبحوث التي ألقاها في مؤتمرات عديدة منها : بحث عن الإنسان عند الدكتور ذكى نجيب محمود تقدم به فى المؤتمر العلمي الأول المنعقدة بالكلية 1995م، بحث عن مشكلة الحرية عند الشيخ محمد عبده تقدم به فى المؤتمر العلمي الثانى بالكلية عام 1997م، بحث عن الفلسفة السياسية عند ابن رشد تقدم به إلى المؤتمر العلمي عن ابن رشد تحت إشراف المجلس الأعلى للثقافة – بمصر 2002م.، شارك فى المؤتمر العالمي للفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة تحت عنوان ابن رشد (نهاية قرن وبداية قرن) فى الفترة من 11-14 مايو 2002م، شارك فى المؤتمر العالمى لابن رشد المنعقد بكلية الأداب – جامعة عين شمس عام 1999-2000م، شارك فى المؤتمر الرابع المنعقد بالكلية تحت عنوان "المعارضات وجدلية المعرفة" – نوفمبر 2000م، مقرر عام للمؤتمر العلمى الخامس للكلية تحت عنوان "الثوابت الثقافية والمتغيرات الحضارية" فى نوفمبر 2002م، رئيسا للمؤتمر العلمى السادس للكلية تحت عنوان "الفكر الإسلامى فى القرنين الثامن والتاسع الهجريين – بين التجديد والتقليد – نظرة توظيفية للتراث الإسلامى فى العصر الحاضر" فى الفترة من 13-14 مارس 2004م، رئيسا للمؤتمر العلمى الثامن للكلية تحت عنوان "العلوم العربية واستشراف المستقبل نحو رؤية علمية منهجية حديثة" فى الفترة من 13-14 مارس 2006م.

أما عن مقالاته فنذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر : نيروزية ابن سينا - مجلة الدراسات العربية والإسلامية العدد الخامس العشر عام 1995م، فكرة الألوهية عند الإمام محمد عبده ضمن الكتاب التذكاري للإمام محمد عبده إصدار المجلس الأعلى للثقافة، الأخلاق عند ابن سينا ضمن الكتاب التذكارى للدكتور توفيق الطويل إصدار المجلس الأعلى للثقافة، الإلهيات عند الإمام محمد عبده حولية دار العلوم العدد الثامن عشر 1994م، دراسة عن "خير الدين النساج" موسوعة إعلام الفكر الإنسانى إصدار المجلس الأعلى للثقافة، دراسة عن بعض الشخصيات ضمن موسوعة إعلام الفكر الفلسفى العربى إصدار الشركة المصرية العالمية للنشر "لونج مان"، الاستشراق عند د/ عاطف العراقى ضمن الكتاب التذكارى للدكتور عاطف العراقى القاهرة 2002م، موقف ابن رشد من ابن حزم فى تهافت التهافت 2001م، الدين والوحى والإسلام عند الشيخ مصطفى عبدالرزاق بحث نشر فى الكتاب التذكارى للشيخ مصطفى عبدالرزاق (المجلس الأعلى للثقافة).

إن قيمة الدكتور إبراهيم صقر لا تكمن في عدد الدراسات التي كتبها ولا المقالات والبحوث التي سطرها قلمه الرائع قلمه الرائع، وإنما تكمن قيمته الحقيقية  بوصفه مفكرا رفيع المستوي وصاحب رؤية صوفية تنويرية؛ ليس هذا فحسب بل إنه يدافع عنها بكل ما أوتي من قوة في كل دراساته الجادة الرصينة، وفي كل مشكلة تناولها، وكل شخصية عرض لها، وكل قضية فكرية أو مجتمعية تصدي لها ودافع عنها في كل فترة من فترات حياته .

امتاز أسلوبه بالدقة العلمية المتناهية والرصانة التي لا يمتلك معها قارئ مؤلفاته إلا اليقظة والانتباه لما عرض أمامه من أفكار وآراء ومذاهب درسها مفكرنا بعناية فائقة ويعرض لها في أقصر وأدق عبارة ممكنة، كما التزم إبراهيم  صقر في منهج أفكاره بمنهج عقلي صارم، وإن كان ملفوفا بغلالة روحية رقيقة، فهو يري أن المثل الأعلى للتفلسف وللآراء الفلسفية الناصعة هو أرسطو فيلسوف اليونان الأشهر، ممزوجا برؤية دينية ترفض كل ما يتعارض مع الدين خاصة في موضوع إنكار العلم الإلهي والمعجزات . إنه يحدد بنفسه مذهبه الفلسفي بأنه المذهب الذي يؤمن بالعقل ولكنه المذهب العقلي المعتدل، ويؤمن أيضا بالوجود ويقدر تعقله عليه، سبق أفلاطون إلي بعض لمحات منه، ولكن أرسطو هو زعيمه الأول الذي استخلص معانيه الأساسية ومبادئه المنطقية والميتافيزيقية وصاغ تعريفاتها واستخرج نتائجها، وأن الفلاسفة الإسلاميين؛ وبخاصة ابن سينا وابن رشد قد أسهموا فيه باللسان العربي المبين . فنحن نعود إلي هؤلاء جميعا ونؤيد شروحهم ونبين تهافت الذين حادوا عنها من الفلاسفة المحدثين.

إنه يؤمن إذن بذلك العقل الذي وضع أسسه كلا من أفلاطون وأرسطو وابن سينا وابن رشد، والذي حاد عنه بعض الفلاسفة المحدثين، ويحاول الرد علي دعواهم بأن العلم قد نسخ كل تلك الآراء ليؤكد بأن الحق مكنون في القديم الذي نبعثه.

علي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقدمات شخصية الأستاذ الدكتور إبراهيم صقر بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكر فلسفي وعالم لغوي، ونموذج متفرد لأستاذ جامعي نذر حياته بطولها وعرضها لخدمة الفلسفة واللغة والثقافة العربية، وأثري حياتنا الفكرية بكل ما قدمه من جهود .

تحيةً لأخي وصديقي الدكتور إبراهيم صقر الذي لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ، ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطنى يقظ وشعور إنسانى رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً متألقاً راضياً.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم