شهادات ومذكرات

إبراهيم بيومي مدكور ومنهجه في دراسة تأريخ الفلسفة الإسلامية (1)

محمود محمد عليما زلت أومن بل ربما أكثر من أي وقت مضي بأن هناك رواد في تاريخ الفكر العربي الحديث والمعاصر لا يهتمون بالشهرة رغم عظم ما يقدمونه لهذا العالم، وهؤلاء هم من امتلكوا عظمة العقل والقلب معاً لأنه كلما صغر الإسهام علا الصوت ليلفت النظر إلى هذا الإسهام الصغير؛ أما عظائم الإسهامات فتتحدث عن نفسها وعن صاحبها حتي بعد أن يموت ولسنوات عديدة... وحديثنا اليوم عن أحد هؤلاء العظماء: إبراهيم بيومي مذكور... فمن هو؟ وماذا فعل؟ ولماذا استحق  العظمة عن جدارة؟

وهنا نقول: يعد الأستاذ الدكتور إبراهيم بيومي مدكور (1902- 1995م) واحداً من كبار رجال الفلسفة والفكر وعلماء اللغة في مصر والعالم العربي، وأحد أهم العقليات المنهجية، وصاحب شخصية لها جوانب متعددة، ومن أبز قادة الإصلاح الاجتماعي والسياسي فيه، علاوة علي أنه يمثل أحد أهم المؤلفات الرائدة خلال النصف الأول من القرن العشرين في حقل الفلسفة الإسلامية وتاريخها، الحقل الذي تأخَّر الاهتمام به في المجال العربي الحديث، وقلَّ فيه الابتكار والإبداع، ولم يشهد فيما بعد تراكماً متصلاً يتسم بالتطور والتجدد. وقد كانت له مشاركاته في الحركة الوطنية في مصر، "اعتقل في فجر شبابه وسجن لدوره في ثورة 1929".

ويمكن أن نقسم مسيرة حياة الدكتور مدكور إلي مراحل ثلاث طبقا لتصنيف الدكتور أحمد هيكل وذلك علي النحو التالي:

أولاً: مرحلة النشأة والتكوين اللغوي والفكري: وخلاصة هذه المرحلة، أنه وُلد فى عام ١٩٠٢ بأبى النمرس بمركز الجيزة، وأتم مراحل المدرسة الأولية، ثم التحق بالأزهر، فمدرسة القضاء الشرعي، حيث اجتاز قسمها الأول، ثم بدار العلوم حيث حصل على دبلومها وتخرج سنة ١٩٢٧م

وبعد تخرجه عمل بالتدريس في إحدى المدارس الابتدائية بالقاهرة . ولتفوقه حين تخرج اختير لبعثة علمية حكومية إلي إنجلترا، ولكن الخلافات السياسية، وكذلك الاضطهادات الحزبية آن ذاك ؛ حالت دون سفره إلي إنجلترا، وسلبته حقه في البعثة، بل كانت سببا في نقله من القاهرة إلي إدفو ؛ فقد كان هو وكبار أسرته، ينتمون إلي حزب لا يرضي عنه الحزب الحاكم في ذلك الوقت ..

وفي تحد للظلم، وبرغبة ملحة في تحقيق الحلم ؛ استقال مدكور من عمله في وزارة المعارف، وسافر إلي فرنسا علي نفقته سنة 1929م؛ ليكمل دراسته العليا، وليظفر بما كان يطمح إليه، من الجمع بين الثقافة الغربية والثقافة العربية .

ومن حسن الحظ، أنه بعد عام رد إليه حقه، فضم إلي البعثة المصرية الرسمية في فرنسا التي قضي بها ست سنوات، وتزود خلالها وفير من الثقافة الغربية في مجالات شتي ؛ فأتقن اللغة الفرنسية، كما درس الفلسفة والقانون، بل تجاوزت ذلك إلي علوم ومعارف أخري، وحصل علي أربع إجازات، في المنطق والفلسفة، والاجتماع والأخلاق، والتربية وعلم النفس، ثم في الاقتصاد . وكذلك نال ليسانس الآداب من السوربون سنة 1931م، ثم ليسانس الحقوق من جامعة باريس، سنة 1933م، وأخيراً نال درجة دكتوراه الدولة في الفلسفة من السوربون سنة 1934م.

وفي مارس ١٩٣٥م، عاد إلى القاهرة وانضم إلى هيئة التدريس بكلية الآداب بجامعة القاهرة، واُنتدب للتدريس فى بعض الكليات الأزهرية، وتتلمذ على يديه عدد غير قليل من أضحوا أساتذة ورؤساء أقسام فى المواد الفلسفية والاجتماعية بكليات الجامعات العربية المختلفة، بدأت بعدها المرحلة الثانية من مسيرة حياته المباركة، وهي:

ثانياً: مرحلة النشاط السياسي والإصلاحي: وهذه المرحلة وإن بدأت باختياره عضواً في مجلس الشيوخ سنة 1937م ؛ فإن لها جذوراً منذ 1919م، حيث اشترك مدكور في ثورة ذلك العام، واعتقل بسبب ذلك بعض الوقت .. ولكن هذه النزعة السياسية الإصلاحية تجلت بشكل واضح عند مدكور، بعد اختياره عضواً بمجلس الشيوخ، الذي رأي في عضويته به فرصة لتوسيع دائرة عطائه، حتي لا ينحصر هذا العطاء خلف أسوار الجامعة، وحتي لا يقف عند دائرة التأمل الفكري والبحث الفلسفي، ورأي بطبيعته النضالية الإصلاحية، أن يوظف علمه وثقافته في المشاركة في خدمة الحياة العامة، والإسهام في الإصلاح السياسي والاجتماعي . وحين تعذر لمدكور الجمع بين العمل في الجامعة وعضوية مجلس الشوري – لأن القانون كان في ذلك الوقت لا يسمح بهذا الجمع – استقال من الجامعة، ووجه معظم نشاطه إلي متطلبات العضوية، وإلي هذا الميدان العلمي من ميادين الخدمة الوطنية.

وفي مجلس الشيوخ، تجلت مواهب مدكور السياسية والإصلاحية الفذة، كما اتضح عطاؤه بشكل يستحق الإعجاب والإكبار ؛ فقد ظل عضواً بجلس الشيوخ نحو خمسة عشر عاماً، اهتم خلالها بالعمل العام في المجالات السياسية والاقتصادية، والاجتماعية والإصلاحية؛ فعمل مقررا للجنة المالية، كما عمل مقرراً للجنة الأوقاف والمعاهد الدينية، وعني في كثير من اقتراحاته بالجوانب الإصلاحية التي تتصل بالأداء الحكومي، كما تصدي لمحاربة الفساد الذي يتورط فيه الرسميون، ولو أدت هذه المحاربة إلي الاصطدام بأعلى رأس في البلاد، ولهذا تبني استجواب الأستاذ مصطفي مرعي، الخاص بالأسلحة الفاسدة، الأمر الذي كان من عوامل تفجير ثورة يوليو سنة 1952م ..

كذلك كان من أوائل المنادين بتحديد الملكية الزراعية، تلك القضية التي التفتت إليها الثورة فيما بعد، وكان حسمها من أهم إنجازاتها .. وقد خُتمت مرحلة النشاط السياسي والإصلاحي لدي مدكور، باختياره وزيراً بعد الثورة، وذلك في التعديل الوزاري الذي أجراه علي ماهر علي وزارته في السادس من سبتمبر سنة 1952م وهي الوزارة التي كان قد ألفها في اليوم التالي للثورة أي في الرابع والعشرين من شهر يوليو سنة 1952م ؛ ففي هذا التعديل الذي أجراه علي ماهر علي وزارته، اختير الدكتور مدكور وزيرا للإنشاء والتعمير ..

ولكن هذه الوزارة لم تستمر إلا يومين اثنين ؛ حيث حلت محلها وزارة محمد نجيب يوم الثامن من سبتمبر، سنة 1952م .. وكأن الأقدار قد أرادت بهذا الحديث الفريد أمرين : الأول – أن تكرم مدكورا السياسي، وذلك بسعي الوزارة إليه . والأمر الثاني – أن الأقدار أرادت أن تصرف مدكورا إلي مجاله الأساسي، وذلك بصرف الوزارة سريعاً عنه..

ومن الجدير بالتسجيل، أن عمل مدكور في مجلس الشيوخ – الذي ظل به نحو خمسة عشر عاماً- لم يقطع صلته بالحياة العلمية والأكاديمية، فقد كان يحاضر في بعض الكليات منتدباً، كما يشارك في بعض المؤتمرات العلمية عضواً بارزاً .. وما لبث أن شد أكثر إلي ميدان العطاء العلمي، وذلك حين اختير عضوا بمجمع اللغة العربية، سنة 1946، وهو ما زال عضوا في مجلس الشيوخ . وبهذا الاختيار، تبدأ طلائع المرحلة الثالثة من حياته المباركة، وهي:

ثالثاً: مرحلة العطاء العلمي والمجمعي: وهكذا نري أن هذه المرحلة الأخيرة، لم تبدأ منفصلة تماما عن المرحلة السابقة، وإنما تتصل أولياتها بأخريات المرحلة الثانية، مرحلة النشاط السياسي والإصلاحي .. ومهما يكن من أمر فقد تجلت معالمها أكثر، بعد ترك مدكور لمجلس الشيوخ، وانصرافه بكل نشاطه وعطائه، إلي الميدان المجمعي الاكاديمي.

وقد كان اختياره لعضوية المجمع في الرابعة والأربعين من عمره، وكان بذلك أصغر الأعضاء سناً، وكان ضمن العشرة الذين عينوا بمرسوم ملكي، ليتم بهم عدد أعضاء المجمع أربعين، وهؤلاء العشرة، هم الذين داعبهم المرحوم الأستاذ أحمد أمين في حفل استقبالهم فسماهم " العشرة الطيبة " .. ورغم أن مدكورا كان أصغر الأعضاء سناً، قد أنابوه عنهم لإلقاء كلمتهم، التي يردون بها علي ما كان من تكريم لهم، وحفاوة باستقبالهم ..

وقد ظل مدكور عضوا عاملا بالمجمع، حتي سنة تسع وخمسين، حين اختير خلفا للدكتور منصور فهمي " كاتب سر المجمع "، وهو اللقب الذي أصبح " أيمين عام المجمع " سنة إحدي وستين .. وظل رحمه الله أميناً عاما إلي سنة أربع وستين حين اختير بجدارة رئيسا للمجمع، وبقي رئيسا إلي أن لقي ربه في ديسمبر، سنة خمس وتسعين وتسع مئة وألف .. رجمه الله رحمة واسعة .

وكانت الحصيلة العلمية لدكتور مدكور، سواء في المرحلة السابقة – مرحلة النشاط السياسي والإصلاحي – أو في مرحلة التفرغ للعمل المجمعي والعلمي ؛ حصيلة موفورة الثراء والعطاء .. وقد تجلي هذا فيما يلي:

أولا: في مجال تأليف الكتب: في هذا المجال تتألق كتبه: "الفلسفة الإسلامية – منهج وتطبيق"، و" في الأخلاق والاجتماع"، " في الفكر الإسلامي " – فصل في كتاب " صلة العرب والإسلام بالنهضة الأوربية"، " مجمع الخالدين في ثلاثين عاما"، " مع الخالدين"، " بحوث وباحثون" .. وهذه الكتب الثلاثة الأخيرة تتصل اتصالا مباشرا بالمجمع، الذي كان يمثل حبه الكبير .. هذا في مجال تأليف الكتب.

ثانيا: في مجال البحوث والدراسات: في هذا المجال نري للدكتور مدكور كثيرا من العطاء، ممثلا فيما كان يلقيه في دورات المجمع المتلاحقة، وما كان ينشره في مجلته، منذ العدد الرابع والعشرين .. ومن اهم بحوثه ودراساته ما يلي: بحث عن " نشأة المصطلحات الفلسفية في الإسلام "، بحث عن " منطق أرسطو والنحو العربي"، بحث عن " مدي حق العلماء في التصرف في اللغة "، بحث عن " لغة العلم " .

ثالثا: في مجال الإشراف: وفي هذا المجال، نري أن الدكتور مدكورا أشرف علي إخراج عدد من الأعمال العملية القيمة، سواء في مجال التأليف أو مجال التحقيق .

واستطاع مدكور من خلال رئاسته للمجمع لمدة 21 سنة في أن يضع بصماته في المجمع عبر انجازات ملموسة بشكل حقق له الريادة فقد شهد له الجميع في أنه كان في عهد ازدهار لحركة المطبوعات؛ وخاصة المعجمات فأخرج المعجم الوسيط في جميع طبعاته، ومعظم ألفاظ القرآن الكريم، وأصدر بحثا له أهمية كبيرا حول مدي حق العلماء في التصرف في اللغة ومجموعات المصطلحات لتعريب التعليم الجامعي في شتي الميادين والفنون وتنشيط المجمع بالحركة العملية والثقافية الدولية والمحلية وبذلك اتخذ المجمع وضعه الطبيعي بين مراكز الإشعاع الثقافي والحضاري في مصر ..

كما أشرف المجمع في عهده علي تحقيق كتاب الشفاء لابن سينا، ثم الموسوعة العربية الميسرة التي اخرجتها الجامعة العربية بالتعاون مع مؤسسة فرانكلين الأمريكية، والمعجم الفلسفي، وتحقيق كتاب " الشفاء " لابن سينا، وتحقيق كتاب " الفتوحات المكية" لابن عربي.

واشترك مدكور في عدة مؤتمرات علمية وفلسفية في أوربا وآسيا وساهم مساهمة كبيرة في إحياء الذكري الألفية لابن سينا في بغداد عام 1951، وطهران وباريس عام 1954 وستهم في مهرجان الغزالي بدمشق عام 1962 وابن خلدون بالقاهرة عام 1962،واشترك كذلك في إحياء ذكري طه حسين القاهرة عام 1979 وحافظ وشوفي بالقاهرة عام 1982 وطه حسين بمدريد 1983 .

علي أن جهود مدكور تجلت بشكل معجب في دفع عجلة العمل في المجمع، فبفضل حماسته، وحسن إدارته وتفانيه في أداء رسالته ؛ عمل علي أن يُنجز المجمع كثيرا من الأعمال القيمة، التي جعلت له مكانة رفيعة في الأوساط العملية، وبين جميع المجامع العربية... واعتزازا به وبعلمه علي المستوي العالمي، منحته جامعة برنستون" درجة الدكتوراه الفخرية.. ... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

...................

1- مدكور، إبراهيم بيومي: من قرن إلى قرن، مجلة اتحاد الجامعات العربية، اتحاد الجامعات العربية - الأمانة العامة، ع 1،.1980.

2- مدكور، إبراهيم بيومي: التعليم الديني والمدني، دراسات تربوية، رابطة التربية الحديثة،مج 3, ج 1، 1988.

3-عيسي فتوح: رحيل الدكتور إبراهيم مدكور رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة 1902 - 1995م، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق،: مج 71 ,ج 3، 1996، ص 653.

4- د. أحمد هيكل: كلمة الاستاذ الدكتور أحمد هيكل في حفل استقباله عضوا جديدا بالمجمع المصدر: مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، مجمع اللغة العربية، ج 88، 2000م، ص 287-291.

 

 

في المثقف اليوم