شهادات ومذكرات

د. مصطفى محمود وأول لبنة لأدب الخيال العلمي في أدبنا العربي الحديث

يسري عبد الغنيعرفه المشاهد العربي من خلال برنامجه التلفازي الشهير (العلم والإيمان)، الذي اكتسح الشاشات العربية في وقت قصير، وانطبعت صورته أي الدكتور / مصطفى محمود (ولد في 25 / ديسمبر / 1921، وتوفي في 31 / نوفمبر / 2009)، بأنه العالم والمتحدث بلسان العلم دائمًا، أما الخاصة منهم يعرفون مصطفى محمود الأديب الذي بدأ حياته كاتبًا للقصة القصيرة، والمقال بأنواعه: الاجتماعي والسياسي والفلسفي، ومن ثم كاتبًا للرواية والمسرحية، وبعد ذلك أدب الرحلات الذي برع فيه سواء في الصحراء أو المدينة أو الغابة، أو رحلته الشهيرة التي أثارة جدلاً ولغطًا كبيرًا، والمعروفة بـ (من الشك إلى الإيمان)، وهي رحلة نفسية لهذا الكاتب المبدع في ذاته الشخصية ناقلاً لها من أغوار الشك والمجادلة إلى ظلال اليقين والتصوف العميق والعقل، وفي كل الأدوار تطل شخصية الأديب متعمقة في فلسفة متناهية وبساطة متواضعة، من أجل تقديم الحياة في أكمل صورها، العلم سلاحه، والكلمة مصباحه في هداية الساري في الطريق .

الانطلاق من التخصص:

وإذا كنا نتحدث عن القصة عند مصطفى محمود فاللتميز الذي عرف به هذا الأديب عن كل أقرانه من الأدباء المعاصرين، هذا التميز يكمن في علمية هذه الشخصية أو بالأصح الطابع العلمي الذي صاحب نمو هذه الشخصية، وهذا ما لا نراه في أديب آخر وفقًا لعلمنا المتواضع، فلم تكن العلمية نهج أو منهج يوسف إدريس ولا نجيب محفوظ، رغم علو كعب الأخير في الرواية العربية، ولا آخرين كما هي لمصطفى محمود .

فمن لقب (المشرحتجي) أو (المشرحاتي) الذي عرف به عندما كان طالبًا في كلية الطب / جامعة القاهرة، لكثرة وقوفه على الجثث المتراصة في مشرحة الكلية، باحثًا عن سر الحياة، ولعل هذا الموقف أثمر لنا كتابين ألفهما، هما: (لغز الحياة)، و(لغز الموت)، إلى برنامجه الشهير (العلم والإيمان)، مرورًا بتخصصه في الأمراض الصدرية والقلبية كطبيب ممارس، وكل ذلك نجده في قصة (منتهى النجاح)، في مجموعته (عنبر 7 )، أو في قصة (حلاوة السكر) في مجموعته ( أكل عيش ) .

يحكي لنا مصطفى محمود بلسان دكتور أو طبيب شارحًا التفاصيل التي تجري في عيادته الخاصة من حضور المرضى والكشف عليهم وخلافه، أو حاكيًا على لسان مريض من مرضاه، كما في قصة (لا أحد)، ضمن مجموعته (عنبر 7)، حيث جاء: " إلى جوار فراشي تراصت عشرات زجاجات من أقراص الويميتال والفيرونول " .

أو في قصة (مدام / س) في مجموعته (شلة الأنس)، حيث جاء: " أخرج من جيبه حزمة من الروشتات القديمة المهملة .. إنها خبرة أربعة عشر عامًا من مرض لا يبرأ روماتيزم في القلب في الصمامات لا علاج لها "

ولنقرأ معًا قصته (قتيل بدون قاتل) ضمن مجموعته (الذين ضحكوا حتى البكاء)، حيث جاء: " وأي غرابة في وجود أمبولة مورفين عند رجل مثل منصور الجبيلي مصاب بالتهاب مزمن في الكلى يعاوده المغص الكلوي بين حين وآخر "

وهكذا سارت الأمور لدى مصطفى محمود في أغلب قصصه القصيرة، وكأنه حمل عيادته وآلاتها وأسماء الأدوية ووزعها على أبطال قصصه من مرضى وأطباء، وحتى المشرحة لم تتوار عن قصصه، فليس غريبًا أن يخرج القارئ لقصصه بثقافة متواضعة في أسماء الأدوية والعقاقير، وهو يرى صيدلية متنقلة في حنايا هذه القصص .

ويبدو إن إخلاص مصطفى محمود لتخصصه في الطب، وهو الأمراض الصدرية والقلبية طاغيًا بحيث أصبحت هذه الأمراض هي محور تلك القصص، شارحًا فيها أعراضها، ومثال على ذلك نقرأ هذه العبارات: " كان التشخيص سرطان الثدي من الدرجة الثانية "، ومثال آخر قوله: " يقول الباثولوجي: إنه كان بها سرطان وليد في أول مرحلة " وكقوله: " وحينما تيقظ في صباح اليوم التالي كانت قدماه وارمتين، وكان الورم المائي يسري إلى أعلى ساقيه ببطء، وكان معنى هذا أنه يعاني نوبة قلبية حادة " .

مجالات وفروع أخرى:

ولم يكن تخصص مصطفى محمود للطب فقط، الذي يتضح في إبداعه القصصي، بل انضمت إليه باقي فروع ومجالات الطب الأخرى، التي تخدم قصصه، وذلك كما نلاحظ في قصة حكاية الدكتور / اسكندر، في مجموعته (نقطة الغليان)، الذي يتحدث فيها عن ردود الفعل والأفعال المنعكسة في الطب النفسي .

ويحدث في بعض القصص أن يشرح الموضوع بشكل علمي صرف بحيث تحس أنك أمام مقال علمي أقرب منه إلى عمل أدبي مرتكز على العلم، ونستمع إلى ما يقول: " لو أمكن استنساخ الجنين البشري بهذه الطريقة فإنه يمكن الحصول على الأجنة المتماثلة ... سيظل الاستنساخ Cloning " حلم العلماء بسنين .

وأما عناوين القصص فهي الأقرب إلى الطب بكثير، مثل: حكاية الدكتور اسكندر، دواء منوم، مخ، خانكة (إحدى مستشفيات القاهرة لعلاج الأمراض العقلية والنفسية والعصبية في الخمسينات) .. إلخ ..

وللعلم وجوه أخرى:

وبعيدًا عن الطب استثمر مصطفى محمود اطلاعه على العلوم فيما أراد أن يعبر عنه، وبمعنى آخر فيما أراد به أن يجعل قصصه مميزة عن إبداعات أبناء جيله، وهذا ليس غريبًا على رجل العلم في تلك الآونة، فنجد الفيزياء والكيمياء وعلوم الإحياء والتاريخ بأنواعه متراصة في قصص مصطفى محمود بشكل ملفت للنظر، وتجده يفضل الأسلوب العلمي في كتاباته بديلاً عن الأسلوب الأدبي، وهذا يساعده بوجه عام في توضيح بعض الأحوال النفسية لشخصيات قصصه، ففي قصة ذرة اليورانيوم، والتي يشرح فيها علاقة متوترة بين رجل وزوجته، وتنامي هذا التوتر بينهما، يختتم القصة قائلاً: " وانسحق الجبروت بالهوان كما تنسحق المادة بالمادة المناظرة وتتبدد في فضاء الكون، وانفجرت ذرة اليورانيوم" .

وفي قصة (نهاية شبح ) التي تختتم بهروب الابن الثالث بالنقود إلى الصحراء الغربية، وهي نفس الصحراء التي ذهب إليها مصطفى محمود في مغامرته في الغابة، يمزج بين ما شاهده في تلك الصحراء، وعلوم الأحياء والطب، فيقول: " إنه يعلم ماذا ستفعل لدغة الطريشة (اسم ثعبان) من ثعبان الحجم الذي يراه .. يبدأ السم يسري في دمه، ليصل إلى مراكز التنفس، ويصيب عضلات التنفس بالشلل " .

وغير ذلك الكثير والكثير مما نشاهده من قصصه العلمية المحضة، وكأمر طبيعي بعد هذا كله أن نجد لمصطفى محمود قصة تتخذ العلم محورًا لها، وليس تطعيمًا شكليًا كما في القصص التي أشرنا إليها سابقًا، وهذا ما نصفه ونسميه بأدب الخيال العلمي، فكانت أولى روايته العلمية رواية (رواية العنكبوت) التي تندرج تحت هذا اللون من القصص التي يعرف بالقصص العلمي .

وقيمة هذه الرواية أنها فاتحة لهذا اللون القصصي في أدبنا العربي، وهذا اللون يحتاج إلى ثقافة علمية صحيحة إلى جانب الموهبة الأدبية، ومن يستطيع أن يجمع بين هاتين الميزتين مثل مصطفى محمود ؟ !

والرواية تدور أحداثها حول بطلين رئيسيين، الأول هو الدكتور / داود صاحب المذكرات التي تكشف أحداث الرواية، أما الآخر فهو راغب دميان، المريض الذي تدور حوله الأحداث .

وفكرة هذه الرواية معتمدة علميًا على دور النخاع المستطيل في المخ الذي يفترض مصطفى محمود أنه يقوم بدور التوليفة العصبية التي تمكن المخ من تجميع الأصوات مثل الراديو، وخلاصة التجارب أنه يستطيع أن يسلط على الإنسان أشعة معينة، ويحقنه بسائل معين فيتحول الإنسان الواحد إلى أكثر من واحد، ويتمدد في مجرى الزمن وتيار التاريخ، ليعيش أكثر من حياة، وفي أكثر من عصر .

نرى أن هذه الرواية تمكن مصطفى محمود من خلال إبداعها أن يستفيد من تخصصه في الطب وعلوم الفيزياء، وفكرة التناسخ التي يقال بأن أصلها يعود إلى الهند، نسمعه وهو يقول عنها: " وسيطرت علي فكرة التناسخ مدة طويلة، وظهرت في روايات لي مثل العنكبوت، والخروج من التابوت " .

وتظهر الرواية المزج الجميل بين هذه العلوم، أما روايته الأشهر فهي (رجل تحت الصفر)، والتي فازت بجائزة الدولة المصرية في عام 1970، وتدور أحداثها بعد مائة عام من كتابتها، كما نقرأ في أولها: " صباح السبت أول الأسبوع أول يناير بداية شهور السنة عام 2067 " .

وقبل أن نلج إلى هذه الرواية نريد أن نوضح أن ما ذهب إليه الأستاذ / جلال العشري في تعليقه على الرواية في كتابه (مصطفى محمود شاهد عصره) حيث يقول: إن عام 2067، إشارة إلى عام النكسة (هزيمة مصر والبلاد العربية في حرب 1967)، والذي كان عامًا فاصلاً بين عصرين بل بين حضارتين، حضارة الطائرة وحضارة الصاروخ، ما ذهب إليه الأستاذ/ جلال ليس صحيحًا ـ من وجهة نظرنا ـ لأنه يفترض أن الرواية كتبت في عام 1967، أي عام النكسة، ولكن مع الاستقصاء الببليوجرافي يتضح لنا أنه تم طبعها في عام 1966، أي قبل النكسة بعام .

وعليه نؤكد على أن هذه الرواية ليس لها أية علاقة بالنكسة من قريب أو بعيد، كما أنه ليس هناك في داخلها أية إشارة لأحداث النكسة، فالرواية تتمحور حول تجربة رهيبة للدكتور / شاهين في التحول إلى إشعاع يستطيع اختراق أي مجالات، ومنافسة المهندس / عبد الكريم له في حب (روزيتا) التي اختارت الدكتور / شاهين، وتأثير ذلك على مجريات الأحداث التي صاغها مصطفى محمود بحبكة متقنة، حيث نجح في أن يجمع بين البعد الاجتماعي والتركيز على الأمور العلمية، كالاستنساخ والنسبية والديناميكا الحرارية .... وغيرها من العلوم .

نستمع إليه في بداية الرواية وهو يقول: " في مقعدين متقابلين جلس الدكتور / شاهين والمهندس عبد الكريم، كل واحد منهما يبدو كأنه نسخة من الآخر، وكأنهما توأمان مع أن أولهما مصري، والثاني عراقي، وكذلك كان ركاب الصاروخ نسخًا متشابهة من صورة واحدة، وكأنهم أخوة أشقاء " .

فظهور الاستنساخ كفكرة علمية محضة لدى مصطفى محمود في زمن كتابة الرواية عام 1966، هو الإبداع الحقيقي حيث لم تتم أول تجربة على الاستنساخ إلا في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، وكانت على الضفادع والحشرات، ويبدو أن اطلاع مصطفى محمود على بدايات هذا العلم هو الذي أمده بهذه الرؤية .

كلمة خاتمة:

الرؤية العلمية لمصطفى محمود كانت ذخيرته في قصصه القصيرة أو رواياته وجعلته مميزًا عن غيره من الكتاب، ولكن مما يؤخذ عليه في ذلك تناثر الأسماء الطبية بشكل ملفت كأننا أمام روشتة علاج أكثر مما هي قصة، ومع هذا تظل حقيقة بناء مصطفى محمود أول لبنة لأدب الخيال العلمي في أدبنا العربي الحديث، هو الإنجاز العظيم الذي قدمه للقصة والرواية العربية حتى يومنا هذا، بحيث أنار الطريق لمن تلته من أقلام تبنت هذا النوع من الأدب، نذكر منهم ليس على سبيل الحصر: نهاد شريف، ونبيل فاروق، ورؤوف وصفي، وغيرهم ..

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم