شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: وداعا شاكر عبد الحميد.. المثقف الشامل

محمود محمد عليبالأمس تلقيت ببالغ الحزن والأسى نبأ وفاة العالم والمفكر والناقد البارز، وزير الثقافة الأسبق، الدكتور شاكر عبدالحميد، عن عمر يناهز الـ69 عاما، إثر اصابته بفيروس كورونا، وشيع جثمانه بمسجد الشرطة بالشيخ زايد، عقب صلاة الجمعة، ودفن بمقابر العائلة بطريق مصر- الإسماعيلية.

ولا شك أننا جميعا قد فجعنا برحيل أحد الوجوه البارزة على الساحة الثقافية المصرية والعربية، ولكن ما يخفف من وقع الفجيعة على قلوب أصدقاء الفقيد ومحبيه، وتلامذته وعارفي فضله، أنه باق بيننا بسيرته العطرة، خلقا وعلما ونزاهة، في سائر ما تولاه من أعمال وشغله من مناصب، سواء على الصعيد الأكاديمي أو الثقافي.

ويعد شاكر عبد الحميد (رحمه الله) واحداً من كبار علماء النفس الذين يطلق عليهم لقب المثقف الشامل الذي ضرب بسهام وافرة في فروع العلوم الإنسانية والآداب والفنون علي اختلافها: الشعر، والقصة القصيرة، والرواية، والسينما، والفنون التشكيلية، والفلسفة، وعلم النفس، وعوالم التصوف والنقد الأدبي.

وقال عنه الدكتور محمد السيد إسماعيل في مقال نشره عنه بعنوان " شاكر عبد الحميد قارئاً لعفيفي مطر: ثراء المعرفة وفطنة التأويل:" .. لقد تجاوز د. شاكر عبد الحميد ثنائية المناهج الخارجية: التاريخية – الاجتماعية – النفسية والمناهج الداخلية: اللغوية – الأسلوبية –البنائية مقترناً مما يسمي الآن بعلم النص الذي يدرس بنية النص وكل ما يتعلق بها من أفكار المؤلف وتاريخ الكتابة وسياقها الاجتماعي والثقافي وهو نهج يقترب بشموليته مما يعرف بالنقد الثقافي .

غاية  القول أن هناك صعوبة في تصنيف د. شاكر عبد الحميد وإذا شئنا توصيفاً مقارباً نستطيع القول إنه يتبع ما يمكن أن أسميه بالمنهج "المعرفي" التأويلي الذي يؤصل الظاهرة ويعرض تطورها التاريخي ويجعلها مدخلاً لقراءة النص، وبهذا فإنه يتحرك في مساحة  واسعة من النص إلي الواقع، ومن الواقع إلي النص، ومن النص إلي صاحبه، وإلي النصوص المناظرة أو الرافدة في حركة دائبة مستندة علي ثراء معرفي باذخ وفطنة نافذة في التأويل ".

وقال عنه الدكتور رمضان بسطاويسي في مقاله  " المشروع العلمي للدكتور شاكر عبد الحميد (دور الفلسفة في رؤيته): "إن المشروع الفكري والجمالي لشاكر عبد الحميد متعدد الجوانب، فقد قدم عبر مشواره العلمي والإبداعي رؤية الفن والحياة وقدم تطبيقات مختلفة لهذه الرؤية في دراساته النقدية المتنوعة، تتبع النظريات الفلسفية، من زمن أفلاطون وأرسطو،إلي كانط وسارتر، وغيرهم، وصولا إلي الفلاسفة الذين يحيون الآن، مقتديا بتصورهم عن عملية  التذوق للفن.. وشاكر عبدالحميد من مواليد 20 يونيو 1952 بأسيوط بصعيد مصر، عمل أميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة، وكان سيادته قد حصل على درجة الليسانس تخصص علم النفس من جامعة القاهرة عام 1974م، كما حصل علي درجة الدبلوم تخصص علم النفس التطبيقي تخصص علم النفس الإكلينيكي من جامعة القاهرة عام 1976م، كما حصل على درجة الماجستير تخصص علم نفس الإبداع من جامعة القاهرة عام 1980م، كما حصل علي درجة الدكتوراة تخصص علم نفس الإبداع من جامعة القاهرة عام 1984م، وعقب ذلك أخذ يباشر حياته العلمية والاكاديمية إلي أن تولى منصب وزير الثقافة بوزارة كمال الجنزورى في ديسمبر 2011، وهو أستاذ متخصص في دراسات الإبداع الفني والتذوق الفني لدى الأطفال والكبار وله مساهمات في النقد الأدبي والتشكيلي أيضا، ثم تولى منصب وزير الثقافة بوزارة كمال الجنزوري في ديسمبر 2011.. عمل أستاذا بجامعة الخليج العربي – مملكة البحرين (كلية الدراسات العليا، مديراً لبرنامج تربية الموهوبين).

ومن الجوائز التي حصل عليها: «جائزة شومان للعلماء العرب الشبان في العلوم الإنسانية»، والتي تقدمها «مؤسسة عبد الحميد شومان» بالمملكة الأردنية الهاشمية عام 1990، و«جائزة الدولة للتفوُّق في العلوم الاجتماعية» - مصر 2003.

وقد لا يعلم الكثير أن شاكر عبد الحميد (رحمه الله) دخل قسم الفلسفة في كلية الآداب – جامعة القاهرة، وحين فتحت شعبة علم النفس دخلها، وعين معيدا بالجامعة في بداية حياته، وقد انتبه لدور الفلسفة في التأسيس لأي رؤية فكرية بشكل مبكر في حياته، مما جعل في كل أعماله يهتم بالبعد الفلسفي لتأسيس رؤيته، ونجد هذا واضحاً في جل أعماله  وذلك حسب ما ذكره أخي وصديقي رمضان بسطاويسي.

ومن مؤلفاته نذكر لي سبيل المثال لا الحصر: العملية الإبداعية في التصوير، السهم والشهاب (دراسات في القصة والرواية العربية)، الطفولة والإبداع (سلسلة في خمسة أجزاء)، في علم النفس العام (بالاشتراك مع آخرين)، دراسات نفسية في التذوق الفنى (كتاب يشمل على ستة أبحاث حول تذوق الأدب وتذوق الفنون التشكيلية، إضافة إلى مقدمة نظرية)، الأسس النفسية للإبداع الأدبي في القصة القصيرة خاصة، الآثار السيئة للمخدرات من الناحية العلمية، الأدب والجنون، علم نفس الإبداع، المفردات التشكيلية ـ رموز ودلالات، الاكتشاف وتنمية المواهب، الحلم والرمز والأسطورة، دراسات في حب الاستطلاع والخيال والإبداع بالاشتراك مع أد. عبد اللطيف خليفة، التفضيل الجمالى ـ دراسة في سيكولوجية التذوق الفنى، الفكاهة والضحك، عصر الصورة، الإيجابيات والسلبيات، الفكاهة وآليات النقد الاجتماعى (بالاشتراك)، آليات الإبداع ومعوقاته في العلوم الاجتماعية، الفنون البصرية وعبقرية الإدراك، الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضي، الفن والغرابة. القاهرة، الغرابة المفهوم وتجلياته في الأدب، الفن وتطور الثقافة الإنسانية، التفسير النفسي للتطرف والإرهاب، مدخل إلى الدراسة النفسية للأدب، الحلم والكيمياء والكتابة - في عالم محمد عفيفي مطر.. وهلم جرا.

هذا بالإضافة  إلي الكتابات النقدية، وهي تشتمل علي مجموعة من الكتابات التي قام خلالها بتوظيف علم النفس ودراسات الإبداع في مجالات النقد الأدبي والتشكيلى والسينمائي منها، تمثيلاً لا حصرًا.

علاوة علي أنه قدم ترجمات كثيرة نذكر منها: الأسطورة والمعنى، تأليف: كلود ليفى شتراوس، بدايات علم النفس الحديث، تأليف: و.م.أونيل، العبقرية والإبداع والقيادة دراسات في القياس التاريخي، تأليف: د.ك. سيمونتون، الدراسة النفسية للأدب، النقائص، والاحتمالات والإنجازات، تأليف مارتن لنداور سيكولوجية فنون الأداء، تأليف: جلين ويلسون، قبعة فيرمير، تأليف: ثيموتي بروك، بيولوجيا السلوك الديني: الجذور التطورية للإيمان والدين، تأليف: جي.آر. فيرمان، ثلاث أفكار مغرية، تأليف: جيروم كاجان، الحرية والانضباط في الإبداع، تأليف: فيليب جونسون ليرد، دستويفسكى وجريمة قتل الأب، تأليف:  سيجموند فرويد.. وهلم جرا.

وفي تلك الكتب نود الإشارة إلي أن شاكر عبد الحميد قد بدأت حياته العلمية كما يقول رمضان  بسطاويسي بدراسات في النقد الأدبي حيث أصدر كتابا لافتا هو السهم والشهاب واستكمل بعد  ذلك دراساته في التخصص في مجال علم النفس كان يهتم بالأدب والفن، ولكن  اهتمامه بهما كان من قبيل الهواية وبحكم دراسته للإبداع في القصة القصيرة في مرحلة الماجستير بدأ يهتم بالنقد للقصة القصيرة والرواية، وكان منهجه أن كل عمل يفرض طريقة تناوله، فمثلا في بعض أعمال إدوار الخراط، ومحمد مستجاب، وغبراهيم عبد المجيد، وعفيفي مطر، وعبد المنعم رمضان، ومحمد سليمان، وسعيد الكفراوي، ويوسف أبو رية، كان يستخدم  المنهج الأسطوري الذي يعتمد علي أفكار جاستون  باشلار، ونور ثروب فراي، مع مزجها بأفكار كارل يونج، وفوريد لتفسير الأساطير،  والأحلام، والرموز في هذه الأعمال . وفي أعمال أخري ليوسف إدريس، ويحيي الطاهر عبد الله، وأحمد الشيخ وغيرهم، كانت بعض المفاهيم النفسية، مثل صورة الذات، وصورة الآخر هي المدخل لتفسير هذه الأعمال . وفي أعمال أخري من الممكن استخدام مناهج أخري، مثل إبراهيم أصلان، ومحمود الورداني وغيرهم، وهي أعمال تستحضر فكرة المكان وتجلياته وخصائصه . ففي أعمال محمد البساطي استوقفته فكرة المتاهة، وهو له منهج محدد ولكن هناك تركيز علي الأبعاد السيكولوجية،  ولذلك يعتبر نفسه واحدا من الذين نقلوا المنهج السيكولوجي في دراسة الأدب من مجال الدراسات الأكاديمية المتخصصة التي تتم علي المبدعين كأشخاص إلي مجال الاهتمام بالتفسير النفسي لأعمال هؤلاء المبدعين، ولديه أكثر من ستين دراسة في هذا الاتجاه لم يتم تجميع معظمها في كتب، فالاهتمام بالأدب والفن كان من فائض الطاقة، أو هو التطور الطبيعي للاهتمام بالإبداع كتخصص أكاديمي . وفي دراساته النظرية يقدم نقداً للحياة اليومية فمثلا حين يقدم ثقافة الصورة فقد أصدر كتابا جديدا يعد رائدا في مجاله في اللغة العربية هو "عصر الصورة"، والكتاب صدر في طبعته الأولي عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت، ثم صدر مؤخرا عن مشروع مكتبة الأسرة في طبعة شعبية . يتناول الكتاب تطور مهوم الصورة من أرسطو حتي عصرنا هذا، الذي تحولت فيه الصورة عبر التقنيات الحديثة إلي قوة قادرة علي تشكيل ذاكرة العالم وتدشين فلسفة  جديدة تنتمي إلي ما بعد الحداثة تحل فيها الصورة محل الأصل، وتقوم في أحيان كثيرة بدورها .

وشاكر عبد الحميد أحد أبرز النقاد والاكاديميين الدين اجتهدوا في سحب علم النفس إلي مناطق موغلة في الأهمية، وتعد القراءة النفسية للإبداع والجنون من أهم الموضوعات التي تناولتها بحوث شاكر عبد الحميد،فضلا عن  قراءاته النقدية المستندة علي خلفية الدراسات النفسية، وفي كتابه " التفضيل الجمالي، يبين كما يقول بسطاويسي أن الجمال يقوم علي التماثل والانسجام، ويبين  ذلك من خلال بيان أن  فكرة التماثل أو  التناسق أو الانسجام فدرة قديمة تعود إلي أيام فيثاغوس، وأفلاطون، وأرسطو، لكنها فكرة نسبية أيضا. وقد حاول بعض علماء النفس، أمثال عالم النفس " فيختر" أن يخضع هذه المسألة للتجريب،  والبحث،  أو القياس، فكان يسأل بعض رواد المتاحف في ألمانيا عن الأسباب التي تجعلهم يفضلون هذه اللوحة عن  تلك، وقام بهذه المسألة علي أشياء أخري غير اللوحات، مثل أحجام الكتب، وبطاقات البريد،  والتماثيل الفنية وغيرها، وقال بوجود ما يسمي بالقطاع الذهبي،أي نسبة معينة بين ارتفاع التمثال وعرضه، وقال إن هذه النسبة ثابتة، لكن التطور العلمي بعد ذلك أثبت عدم قدرة هذه الأفكار رغم استمراها، أو استمرار وجودها حتي الان في مسابقات اختيار ملكات الجمال وجراحات التجميل وغيرها.

كذلك قدم شاكر عبد الحميد إسهاما حول الجنون والعبقرية، وربط بينهما، وبين أن هناك عدة نقاط في هذا الجانب أن النظرة التي تربط بين الإبداع والجنون، تقوم علي أساس الربط السطحي بينهما في حين أننا لو تعمقنا في المسألة سنجد فروقاً كثيرة بينهما منها تمثيلا لا حصرا: أن الإبداع يقوم علي أساس النظام سواء كان هذا النظام ظاهرا أو خفيا، سواء كان موجودا في تفكير المبدع أو في أعماله، فيما الجنون هو نوع من الفوضي والتفكك الذي يفتقر للنظام . النقطة الثانية أن الإبداع في جوهره نوع من التواصل مع الآخر في حين يفتقر المجنون لهذا الدفاع، أو لهذه القدرة . النقطة الثالثة أن الإيداع به قدر كبير من الاستمرارية والمثابرة والسعي وراء أهداف معينة وهذه أمور ليست موجودة في حالة الجنون  وذلك حسب قول بسطاويسي.

والمتصفح لكتاب التفضيل الجمالي للدكتور شاكر عبد الحميد يجد أنه قد جمع بين العديد من المناهج، وذلك عائد إلي طبيعة لموضوع كما يقال طبيعة الموضوع هي التي تحدد نوعية المنهج . بما أن الموضوع – الجمال – شائك فلا غرابة أن يستعمل في تقصي المفاهيم والمنهج التاريخي لتعقب النظريات الفلسفية لمفهوم الجمال منذ أفلاطون إلي الوقت الحالي، وذلك حسب ما قاله عنه الدكتور أحمد عبد الحليم في مقال له بعنوان " مفهوم الجمال عند شاكر عبدالحميد" .

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي الدكتور شاكر عبد الحميد هذا المثقف الشامل حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ الاكاديمي، فتحية طيبة للدكتور شاكر عبد الحميد الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله شاكر عبد الحميد، الذي صدق فيه قول الشاعر:

رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.... شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ

وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ..... وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ

وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ

فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا ... بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء

وداعًا مفيدُ وليتً المنايا....... تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي

فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو...... لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

***

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم