شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: وداعاً فوزي العمدة.. ركن المثقفين وملجأ السوسيولوجيين

محمود محمد عليبقلوب حزينة وأعين ذرفت منها الدموع، ودعنا بالأمس (الموافق 4 أغسطسر 2021) بعد صراع شجاع ومثالي مع المرض أخاً وصديقاً وأستاذاً عزيزاً علينا، ألا وهو الأستاذ الدكتور فوزي العمدة -عضو مجلس الشورى الأسبق وعميد معهد الخدمة الاجتماعية بسوهاج – بجمهورية مصر العربية.. رحل الدكتور فوزي العمدة بعد صراع مع المرض خلال السنوات الأخيرة.. غادرنا جسداً لكن ذكراه ستبقي طيبة، مثمرة ما بقيت الجامعة بين طلبته وزملائه وبين محبي الثقافة والمعرفة. عرفناه لطيفاً، خدوماً، عميقاً في بحثه، جدياً في عمله، موسوعياً في اطلاعه، والله لهو في نظري نعم الرجل المتميز، والمنهل الثر، والمفكر الناصري التقدمي، والمنظومة المتكاملة من العطاء، وهو أيضاً أحد الرموز السياسية والثقافية بمصر الحبيبة .

والدكتور فوزي العمدة كان قد لمع نجمه، وبرز اسمه، وهو تاريخ حافل بالعطاء، وتمثيل مشرف في مختلف المواقع السياسية فى رحلة عطاء، امتدت عبر أربعون عاماً شغل فيها مواقع مختلفة محلياً، وعربياً، وأفريقيا، ودولياً، ولم تأتى من فراغ، فقد بدأ حياته عضو مجلس إدارة النقابة العامة للعاملين بالسكة الحديد، والسكرتير العام المساعد للنقابة عام 1964 م؛ ثم عضوا بمجلس محلى محافظة سوهاج عام 1966م، وعضو باللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي لمدة دورتين، كان يرأسها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وقد اختاره الرئيس "جمال عبد الناصر" ضمن لجنة المائة سنة 1968، التى كلفها بإعادة تنظيم الاتحاد الاشتراكي، وهذه اللجنة تضم أهم 100 شخصية على مستوى جمهورية مصر العربية.

كما عمل الدكتور فوزي العمدة فى اللجنة المركزية مع الرئيس "أنور السادات" وقت أن كان نائباً للرئيس فى لجنة الشئون الداخلية واتجاهات الرأي العام ومتابعة لجان المحافظات باللجنة المركزية بالاتحاد الاشتراكي، فقد اختاره الرئيس السادات ضمن لجنة المائة التي قامت بتطوير الاتحاد الاشتراكي ووضع دستور 1971م، وعقب ثورة التصحيح أجريت انتخابات مجلس الشعب عام 1971 .

وقد انتخب الدكتور فوزي العمدة عضو بمجلس الشعب عن دائرة أخميم عام 1971م وفى أول اجتماع لمجلس الشعب انتخب الدكتور فوزى العمدة وكيلاً لمجلس الشعب وكان ذلك أول نصر حققه للصعيد بصفة عامة وسوهاج بصفة خاصة، فهو أول وكيل لمجلس الشعب من الصعيد، وكان أصغر وكيل فى تاريخ الحياة البرلمانية، وكان عمره وقتها 34 عاماً فقط، ثم تولى رئاسة لجنة الشئون العربية بمجلس الشعب دورتين متتاليتين دورة 1971، 1976م.

كما تم اختياره أميناً عاماً للحزب الوطني بسوهاج عام 1978م لمدة أكثر من عشر سنوات وعين عضواً بمجلس الشورى سنة 1989، و1992، و1998 م، حتى انتهيت عضويته بالمجلس سنة 2004، وأما عن دوره في مجال التنمية في سوهاج فقد شارك في : تأسيس شركة سوهاج الوطنية للتنمية، وكذلك تأسيس البنك الوطنى للتنمية، وأيضا تأسيس شركة سوهاج الوطنية للسياحة والفنادق، ثم اختير الدكتور فوزى العمدة، ثم عضواً بمجلس إدارة البنك الوطنى للتنمية لمدة عشر سنوات.

عشق الدكتور فوزي العمدة العمل الاجتماعي ووضع أمامه هدف عظيم، وهو حصوله على درجة الدكتوراه فى فلسفة علم الاجتماع، ولم يكن الأمر مجرد الحصول على الدرجة العملية ولكن ليبنى صرحاً علمياً ضخماً ليشار إلية بالبنان، ويعد بحق قلعة علمية ومعمارية فى قلب الصحراء فى قلب حى الكوثر بسوهاج (المعهد العالى والمعهد المتوسط للخدمة الاجتماعية) الذي شارك الدكتور فوزى العمدة .. فى تخطيطه وإنشاءه منذ أن كان تلال وصحراء جرداء لا نبات فيها ولا ماء؛ وهي قلعة علمية يقصدها كل أبناء مصر من شماله إلى جنوبه .. تخرج منه آلاف وأصبح هذا الصرح شامخ يضم أكثر من 17 ألف طالب كل عام - وشاهد على العصر - بأن الدكتور فوزي العمدة رائد العمل الاجتماعي في محافظة سوهاج . لذلك أنتخبه السوسيولوجيين بالإجماع نقيباً لهم بمحافظة سوهاج منذ عشر سنوات .

وكان الدكتور فوزى العمدة قمة في التواضع، فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها للجامعة: تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي وسياسي بارع يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة الثقافية وستظل أفكاره السوسيولوجية تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة .

تميز الراحل الكريم الدكتور فوزى العمدة خلال رحلته السياسية والعلمية الطويلة بالاخلاص والتفانى فى أداء الواجب الوطنى، وأنه رحمه الله كان دائما فى خندق الدولة الوطنية مدافعا عن كل قضايا المواطن والوطن، وأقسي ما في الحياة أن يودع الإنسان عزيزا عليه، وداعا ليس بعده لقاء، ولكن تلك هي إرادة الله وسنته في خلقه، ويتعين علينا أن نرضي بقضائه عز وجل .. وعزاءنا أن أديبنا الكبير الراحل – يرحمه الله – سيظل يعيش في قلوبنا وعقولنا طوال حياتنا، بل أطول كثير في حياتنا، فجهوده في الإعلاء بقدر العلم والمعرفة ستظل خالدة عبر الزمن تضيئ عقولنا، وتثري أفكار أفكارنا .. وأدعو الله أن يتغمد فقيد الوطن الكبير بواسع رحمته ويسكنه الفردوس الاعلى من غير حساب، ولا سابق عذاب، وأن يلهمنا وأهله، وزملائه، وتلاميذه، ومحبيه، الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون ..

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الأستاذ المثقف والسياسي وعالم الاجتماع حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الرجل المرموق، فتحية طيبة للدكتور فوزى العمدة الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر والسياسي المبدع الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله الدكتور فوزى العمدة، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم