شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: يوسف إدريس.. أمير القصة المصرية وتشيخوف العرب (2)

محمود محمد عليفي الأعمال ظهر اهتمام يوسف إدريس بالعالم الداخلي لأبطاله والأجواء النفسية المحيطة بأحداث قصصه القصيرة ومسرحياته ورواياته ، ولعل تميزه بالمونولوج الداخلي لشخصياته جعلته متفردا ورائدا بين أدباء مصر والعالم العربي، وبلا شك أن تأثيره ما زال محسوسا ومؤثرا داخل المشهد الأدبي المصري والعربي، سواء في مجالي القصة القصيرة والمسرح، أو في مجال الرواية، وما زالت إبداعاته محورا لأبحاث ودراسات عنه، وعن المؤثرات التي ظللت تجربته، وأدبه ما زال حيا ينبض، وكتبه ما زالت تحظى بشعبية بين القراء، لا يمكن فهم مصر وتاريخها إلا بقراءة أدبها، وأدب يوسف إدريس.

وقد يوسف إدريس "بأمير القصة العربية"؛ فالأقصوصة في العالم العربي قبل سنوات الخمسينيات كانت لا تزال في مراحلها وخطواتها الأولى، ثمّ جاء يوسف إدريس ونقلها من برجها العاجي إلى لغة التخاطب اليومي، ورسّخها ونقلها بعد ذلك من المحليّة إلى العالميّة.

وقد لقب يوسف إدريس "بأمير القصة العربية"؛ فالأقصوصة في العالم العربي قبل سنوات الخمسينيات كانت لا تزال في مراحلها وخطواتها الأولى، ثمّ جاء يوسف إدريس ونقلها من برجها العاجي إلى لغة التخاطب اليومي، ورسّخها ونقلها بعد ذلك من المحليّة إلى العالميّة؛ كما حمل لقب "تشيخوف العرب" نسبة إلى الروائي الروسي أنطوان تشيخوف، لاقتراب كتاباته من الشخصية الريفية بكل تفاصيل حياتها ومعاناتها، خاصة المرأة الريفية التي نذر حياته للدّفاع عنها وللكتابة من أجلها.

ويوضح يوسف إدريس لماذا اختار القصة القصيرة بالقول: "إخترتها لأني أستطيع بالقصة القصيرة أن أصغّر بحرا ًفي قطرة، وأن أمرر جملا ًمن ثقب إبرة، أستطيع عمل معجزات بالقصة القصيرة، إنني كالحاوي الذي يملك حبلا ًطوله نصف متر، ولكنه يستطيع أن يحيط به الكون الذي يريد. القصة القصيرة طريقتي في التفكير ووسيلتي لفهم نفسي، والإطار الذي أرى العالم من خلاله، إنه الإطار الذي وجدني ولم أجده".

يقول أيضا ً"إن القصة القصيرة هي أصعب شكل أدبي وأسهل شكل أدبي في وقت واحد، إنه شكل سهل لا بد أن يمارسه كل شخص ولو في جانبه الشفوي ولكنه فن صعب، يحتاج إلى قدرة للأخذ بتلابيب لحظة نفسية خاطفة، والتعبير عنها في كلمات. لقد اخترع بيكاسو ذات مرة طريقة لرسم لوحة فوسفورية تختفي بعد دقيقة. هذه الدقيقة هي القصة القصيرة هي اقتناصي لحظة كشف خارقة".

وقد قال عنه الأستاذ عاطف بشاي:" إذا كان «يوسف إدريس» هو أمير القصة المصرية القصيرة وأعظم كتابها، وأهمها في تاريخها كله دون منازع، فإن السينما ظلمته ظلما بينا، رغم أن إبداعاته هي الأكثر تجسيدا للبيئة المصرية الأصيلة. والأعمق تعبيرا عن واقعنا المعاش.. ورغم أنه ساهم في عدد من سيناريوهات القصص والروايات المأخوذة منها مثل "حادثة شرف" و"لا وقت للحب".. لكن للأسف لم تستطع السينما أن تنهل- كما وكيفا- من بحر أدبه الفياض وعمق رؤيته للعالم الفريدة.. ولم تقدم السينما، فى معظمها، إبداعاته بنفس مستواها الروائي، بل شوهت أكثرها مثل "العيب" و"قاع المدينة" و"حادثة شرف".. والأخيرة درة من درره الثمينة، والتي تدور أحداثها في عزبة صغيرة، التي يبدأ نهارها قبل مشرق الشمس وينتهى بعد مغيبها.. وفى استهلال مثير ينشق الفضاء الساكن فيها عن صرخات مرعبة ومستغيثة صادرة عن فاطمة التي يقول الرواة إنهم وجدوها مع «غريب» فى «الذرة» وهى ليست فتاة لعوبا.. ولكنها مجرد أنثى جميلة تثير الرجال، و"غريب" أكثر الذكور ذكورة، والذى كان يغوى النساء، وينجح دائما في الإيقاع بهن.. وكان لابد أن تقع فاطمة في العيب معه.. ذلك تصور أهل العزبة دون أن يروا الواقعة.. وفى سبيل أن تثبته أخضعت الأنثى الجميلة المحبوبة لأقسى ما تتعرض له أنثى.. وها هو الموكب التعس يتجه لبيت الناظر كي تفحص امرأته عذريتها، ويصور "يوسف إدريس" لحظات كشف أم جورج زوجة الناظر عليها تصويرا بديعا عميقا في محتواه الإنساني والاجتماعي والنفسي فكانت مقاومة فاطمة هي مقاومة الخجل الفطري.. ولكنهن تكاثرن حولها وأرقدنها على السرير، وتولت إحداهن تقييد يديها.. وأمسكت امرأتان كل بساق من ساقيها.. وامتدت عشرات العيون الصادقة في بحثها عن الشرف والمحافظة عليه.. وانغرزت وقلبت وتفحصت والشد والجذب والصرخات المكتومة تدور في صمت وسكون.. الترقب قد خيم على الحجرة وعلى المتناثرين خارج المنزل.. وفجأة انطلقت زغرودة.. والألسنة تردد: سليمة إن شاء الله.. والشرف مصان".

وقد شهد نهج يوسف إدريس في كتابة القصّة القصيرة تغيّرًا جذريًا، في نهاية الخمسينيات وأوائل الستينيات، فالتصوير الواقعي، البسيط، للحياة كما هي في الطبقات الدنيا من المجتمع الريفي، وفي حواري القاهرة، بدأ يتلاشى، ويظهر نمط للقصّة أكثر تعقيدًا، وتدريجيًا، أصبحت المواقف والشخصيات أكثر عموميّة وشموليّة، إلى أن قارب نثره تجريد الشعر المطلق، ويشيع جو من التشاؤم، وينغمس أبطال القصص في الاستبطان والاحتدام، ويحل التمثيل الرمزي للموضوعات الأخلاقية والسياسية محل الوصف الخارجي والفعل المتلاحق.

كان للأديب الراحل يوسف إدريس تاريخا كبير مع المعارك الثورية والتاريخ النضالي الكبير، فحسبما يذكر الكاتب المسرحي الكبير محمد سلماوى في مذكراته "يوما أو بعض يوم" إن الأديب الراحل سافر عام 1961م، وحين ذاع صيته ككاتب قصة قصيرة، سافر إلى الجزائر وانضم الثوار هناك، وحارب معهم من أجل الاستقلال وأصيب أثناء المعارك بالجبل، فكان مثل الكاتب الأمريكي الشهير "إرنست همنجواى" الذى شارك في الحرب الأهلية الإسبانية وكتب عنها بعض أجمل رواياته وقصصه القصيرة، على حد وصف الكاتب.

وانضم يوسف ادريس إلى المناضلين الجزائريين في الجبال واشترك معهم وحارب في معارك الاستقلال لمدة ستة شهور وأصيب أثناء المعارك في الجبل، وأهداه الجزائريون وساماً إعراباً عن تقديرهم لجهوده فى سبيلهم وعاد إلى مصر، وحصل على وسام أخر من الرئيس جمال عبد الناصر.

وقد حصل إدريس على جوائز عديدة، مصرية وعربية، ويعتبره البعض أنه كان من العرب الذين يستحقون جائزة نوبل في الآداب. ولإدريس حكاية مهمة مع الجائزة، إذ كان أحد الذين ترشحوا لها أكثر من مرة،  وفي 1963 حصل على وسام الجمهورية واعترف به ككاتب من أهم كتّاب عصره، ولكن لم يشغله النجاح والتقدير  اهتمامه بالقضايا السياسية، وظل مثابراً على التعبير عن رأيه بصراحة، ونشر في 1969 المخططين منتقداً فيها نظام عبد الناصر ومنعت المسرحية،

وفى بداية فبراير سنة 1978 وصل إلى منزل البروفيسور عطية عامر خطاب من الأكاديمية السويدية لترشيح أديب عربي لنيل جائزة نوبل، كانت فرحة الرجل كبيرة لأن الأكاديمية تسأل أستاذا مصريا، هذه المرة كانت الأولى التي تطلب فيها الأكاديمية منه، ولكنه يؤكد أنه تبرع عام 1967، ورشح عميد الأدب العربي طه حسين لنيل الجائزة دون أن يطلب منه ذلك. الوقت لم يكن مناسبا لأن الغرب كله كان ضد مصر وضد عبدالناصر.

تعرض الكاتب الكبير رغم مكانته ورصيده الأدبي لآرائه الجريئة ومنهجه السياسي والأدبي للتهميش وخاض معارك كبيرة أثرت عليه وقد روي الكاتب السويدي شل أسبمارك أحد الأعضاء المسؤولين عن الاختيار النهائي للفائزين بجائزة نوبل في حديث له مؤخرا أن سياسيا سويديا كان في زيارة للقاهرة واقترح على يوسف إدريس أن يقتسم جائزة نوبل مع كاتب إسرائيلي إلا أنه غضب وصرخ معلنا رفضه.

عاش أمير القصة العربية يوسف إدريس حياته يتلمس الألغام الاجتماعية والسياسية ويشخصها بطريقة إبداعية ورحل ليخلده الوجدان العربي والمصري في صفحاته الخالدة لعقود قادمة.

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط .

..............

مراجع المقال

1-وسيم أحمد : الدكتور يوسف إدريس أمير القصة القصيرة (1)، الأيام، العدد 9063 السبت 1 فبراير 2014 الموافق غرة ربيع الثاني 1435.

2- مى إسماعيل: أمير القصة العربية.. يوسف إدريس، جريدة الأهرام، نشر بتاريخ الثلاثاء 24 من ذي الحجة 1439 هــ 4 سبتمبر 2018 السنة 143 العدد 48119

3- محمد الشماع: فى ذكرى رحيله.. لماذا لم يحصل يوسف إدريس على جائزة نوبل؟، جريدة مبتدأ ، نشر بتاريخ 2021-08-01 12:26.

4-عاطف بشاي: يوسف إدريس بين الأدب والسينما، المصري اليوم، الثلاثاء 03-08-2021 01:33

5- محمد علي فقيه: الأديب يوسف إدريس.. تشيخوف العرب، المصدر: الميادين نت 1 اب 2017 20:26.

6-  مني احمد: يوسف إدريس حكاية مصرية جدا، صوت الأمة، الخميس، 26 أغسطس 2021  09:12 ص.

 

في المثقف اليوم