شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: علي أحمد باكثير.. القامةٌ السامقةٌ في الشعر العربي الحر (1)

محمود محمد عليتعد قضيَّةُ الشعرِ التفعيلي (أو الشعر الحُر كما يُعرف اليوم) من القضايا المهمة التي شغلت حيزًا كبيرًا من اهتمام الدارسين والباحثين، حيث لم يتَّفِق النقاد ولا الشعراء على تسمية موحَّدة لشعر الشكل الجديد الذي لا يَلتزِم بالوزن والقافية، فرأى البعض تسميتَه “بالشعر الجديد” و”الشعر المعاصر” و”الشعر الحديث”(1)، كما عُرِف أيضًا بـ”الشعر التفعيلي”؛ لاعتماده على التفعيلةِ الواحدة المتكررة، ولكن شاع إطلاق اسم “الشعر الحر” على هذا الأسلوب من الشعر حتى أصبح عَلمًا عليه، وكانت هذه التسمية هي المحور الأساسي الذي دارتْ حوله معظمُ الدراسات التي صدرت عن هذا اللون من الشعر، وقد أقرَّت الشاعرة نازك الملائكة بهذه التسمية، واتخذت منها اصطلاحًا مُطلَقًا لا يمكن أن يُرَد (2)، على أن هناك مَن يرفض هذه التسمية؛ على أساس أن كلمة “الحر” ينبغي أن تُطلَق على شعر النثر الذي “يتحرَّر” من الوزن، خاصَّة أن مصطلح (Free Verses) في الإنجليزية يُطلَق على الشعر الذي يتخلَّص من أي نَمطٍ إيقاعي مُطَّرِد، وهو الذي نُسمِّيه “القصيدة النثرية” (3).

والشعر الحر شعرٌ يجري وفق القواعد العروضية للقصيدة العربية، ويلتزم بها ولا يخرج عنها إلا من حيث الشكل، والتحرُّر من القافية الواحدة في أغلب الأحيان؛ فالوزن العروضي موجودٌ، والتفعيلة مُوزَّعة توزيعًا جديدًا ليس إلا، فإذا أراد الشاعرُ أنْ ينسج قصيدةً ما على بحرٍ معيَّن، وليكن "الرمل" مثلاً، استَوجَب عليه أنْ يلتزم في قصيدته بهذا البحر وتفعيلاته من مَطلَعها إلى مُنتهاها، وليس له من الحريَّة سِوى عدم التقيُّد بنظام البيت التقليدي والقافية الموحَّدة، وإنْ كان الأمر لا يمنع من ظهور القافية واختفائها من حينٍ لآخَر حسب ما تقتضيه النغمة الموسيقيَّة وانتهاء الدفقة الشعوريَّة (4).

والدارس لشعر علي أحمد باكثير (1901 ـ 1969م)، يجد ظاهرةً تَستحِقُّ الاهتمام، هي أن شعره مرَّ بثلاث مراحل تمثَّلت فيها ثلاث مدارس شعريَّة، هي: المدرسة الاتباعيَّة (الإحيائية)، المدرسة الإبداعية (الرومانتيكية)، ومدرسة الشعر الحر، والمراحل الثلاث هي مرحلة البدايات ومرحلة جامعة القاهرة ومرحلة انكسار التجديد، ولأن مرحلة البدايات ليست ذات أهمية ولم تقدم من النتاج الشعري شيئاً يذكر سوى مسرحية (همام أو في بلاد الأحقاف).

وقد أشاد العديد من الشعراء العرب المعاصرين الذين اعترفوا لباكثير بالريادة في الشعر الحر، مثل: الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، الذي أقرَّ بريادة باكثير في مقال له بمجلة الآداب البيروتية، وأقرَّت له بالسبق التاريخي الشاعرة نازك الملائكة، إلا أنها اشترطت شروطًا أربعة لتُعطي نفسَها الريادة الفنيَّة، عِلمًا بأن الشروط الأربعة – رغم تعسُّفها – تَنطبِق على باكثير، كذلك أقرَّ له بالريادة الشاعر صلاح عبدالصبور في مقال له في مجلة المسرح، كتبه بعد وفاة باكثير، والشاعر عبدالرحمن الشرقاوي في مقدمة مسرحيَّته الشعرية “مأساة جميلة”، وأشاد الدكتور لويس عوض بموهبة باكثير في مقدمة ديوانه (بلوتو لاند)، وإن كان لم يُشِر إلى ريادته للشعر الحر بشكل مباشر.

وقبل أن نكشف عن ذلك مظاهر الشعر الحر في أعمال باكثير، فلابد من أن نبرز مكانته الأدب العربي، فهو كاتب متنوع الإبداع والمتفرد في الشعر والرواية والمسرح فضلاً عن كونه مترجماً للإبداع العالمي (1)، أثرى الساحة العربية بالروايات والمسرحيات الشعرية والنثرية، فكان "باكثير" نموذجا للأديب الملتزم بالرؤية الإسلامية للكون والحياة والوجود دون ضوضاء ولا افتعال. وفي مجال الرواية التاريخية، يُعدّ - بحق - أحد أعلامها الكبار الذين استطاعوا استلهام التاريخ الإسلامي، وتوظيفه في قراءة الواقع المعاصر، ولذلك، فإن أعماله الروائية التاريخية تثير التأمل في الواقع الراهن، أكثر مما تثير التأمل في الواقع القديم (2).

علي أحمد باكثير قامةٌ سامقةٌ في دُنيا الأدب العربي الحديث، ترك بصْماتٍ واضحةً في عددٍ من حقول هذا الأدب، امتدّ تأثيرها إلى أجيال من أدبائنا المُحْدَثين والمعاصرين. بل إنه “كان، وسيظل إلى أن يشاء الله، ظاهرة إبداعية متفرِّدة” في أدبنا الحديث (3).

أثرى باكثير المكتبة الأدبية العربية بروائعه الخالدة التى تمسك من خلالها بقيم دينه ورفض السير فى ركاب الأدب المزيف؛ ومن أشهر أعماله التي ذاع صيتها وتم تحويلها لفيلم سينمائي كما يتم تدريسها في بعض المناهج المدرسية رواية وإسلاماه، كما ترجم العديد من أعماله الأدبية إلى اللغة الفرنسية والإنجليزية (4).

ولد على أحمد باكثير عام 1910، في جزيرة سوروبايا في إندونيسيا لعائلة من منطقة حضرموت، ثم عادت أسرته إلى حضرموت لينشأ نشأة إسلامية، وتلقى هناك تعليمه بمدرسة النهضة العلمية، ودرس العلوم العربية والشريعة على شيوخ وشعراء وفقهاء القرآن، وقد بدت عليه مواهب الشعر والكتابة وهو في الثالثة عشر من عمره، حتى أنه عين للتدريس بالمدرسة قبل أن يبلغ العشرين من عمره (5).

سافر باكثير بعد وفاة زوجته إلى عدن، الصوال، الحبشة، والحجاز ثم مصر، حيث التحق بجامعة فؤاد الأول - جامعة القاهرة حاليا - وحصل على ليسانس الآداب قسم اللغة الإنجليزية، قام باكثير بترجمة مسرحية رميو وجوليت الشهيرة، ثم ألف مسرحية إخناتون ونفرتيتي بالشعر الحر عام 1938، ويعد باكثير رائد الشعر الحر في الأدب العربي (6).

إلتحق باكثير بعد تخرجه من الجامعة بمعهد التربية للمعلمين وحصل على الدبلوم عام 1940، ثم عمل مدرسا للغة الإنجليزية واستمر لمدة 14 عام، ثم سافر في بعثة دراسية حرة إلى فرنسا عام 1954، عاد بعدها إلى مصر وبدأت علاقاته مع العقاد، توفيق الحكيم، المازني، نجيب محفوظ، صالح جودت وغيرهم من عظماء الأدب العربي، ثم حصل باكثير على الجنسية المصرية عام 1951 (7).

أجاد باكثير عدة لغات غير العربية وهي الإنجليزية، الفرنسية، والملايوية، ثم تفرغ لمدة عامية منذ 1961- 1963 ليكتب الملحمة الإسلامية عمر بن الخطاب في 19 جزء، والتي تعد ثاني أطول عمل مسرحي عالمي، وكان قد حصل على منحة تفرغ لإنجازها وأخرى لكتابة ثلاثية مسرحية عن غزو نابليون لمصر وهي الدودة والثعبان، أحلام نابليون، مأساة زينب (8).

توفي باكثير في مصر في نوفمبر 1969 إثر إصابته بأزمة قلبية حادة ثم دفن في مقابر الإمام الشافعي في مصر .

لقد كانت حياة باكثير حافلة بالعطاء الفكري والأدبي؛ ذلك بأنه خلّف لنا مجموعة كبيرة من النصوص الإبداعية والأدبية التي توزّعت بين المسرحية والرواية والشعر وغيرها. ولكنّ الملاحَظ أنه بدأ مسارَه الأدبي بنظْم الأشعار، قبل أن ينتقل إلى ربْطها بالمسرح في إطار ما يُعرَف بـ”المسرح الشعري”، وكتب أيضاً المسرحية النثرية والرواية والدراسات والمقالات الأدبية، علاوة على ترجمة نصوص من لغات أجنبية كان يُجيدها. بيد أن المسرح، بنوعيْه، شكل المجالَ الأدبي الذي برع فيه الرجل، وتميّز "باكثير" في إبدع عشرات الأعمال الروائية والمسرحية والشعرية، فله العديد من الروايات المتميزة من أشهرها الرواية التاريخية "وإسلاماه" التى أصدرها عام 1945 والتى يسرد فيها سيرة حياة السلطان قطز منذ ولادته وحتى مماته وأحوال البلاد التى عاش فيها وملوكها وصراعهم مع التتار والصليبين ورواية "الثائر الأحمر" والذى يروى فيها أحداث حقبة من التاريخ الإسلامى، تقع بين 200- 300ه، ومن أشهر أعماله أيضاً المسرحية "سر الحاكم بأمر الله" و"سر شهر زاد" التى ترجمت إلى الفرنسية و"مأساة أوديب" التى ترجمت إلى الإنجليزية (9).

كما كتب "باكثير" العديد من المسرحيات السياسية والتاريخية ذات الفصل الواحد وكان ينشرها فى الصحف والمجلات السائدة آنذاك، والتى حصل على اثرها على العديد من الجوائز والاوسمة، منها جائزة وزارة المعارف عام 1944 عن مسرحية "السلسلة والغفران" التى تشبه إلى حد كبير مسرحية شكسبير "واحدة بواحدة" وجائزة وزارة الشؤون الاجتماعية عام 1950 عن مسرحية "أبو دلامة" وجائزة وزارة الشؤون الاجتماعية عام 1943 عن مسرحية "سر الحاكم بأمر الله" وجائزة وزارة المعارف عام 1945 عن رواية "وإسلاماه" وجائزة السيدة قوت القلوب الدمرداشية عام 1944 عن رواية "سلامة القس"، وغيرها؛ كما منحه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى عام 1963، ومنحته هيئة رئاسة مجلس الشعب الأعلى فى اليمن الجنوبية –سابقاً- وسام الآداب والفنون عام 1985 (10).

ولـ "باكثير" العديد من الريادات فى الشعر والرواية والمسرح، فهو أول كاتب عربى يرمز رمزاً إيجابياً للحركة الإسلامية فى الرواية التاريخية العربية، وأول من عالج قضية فلسطين فى المسرح العربى و أول من كتب مسرحية شعرية بالشعر المرسل فى اللغة العربية مثل مسرحية إخناتون ونفرتيتي، كما انه أول من نشر مسرحية شعرية اجتماعية وكانت المسرحيات الشعرية قبله ذات مواضيع تاريخية، مثل مسرحية "همام فى بلاد الأحقاف" (11).

نُشر عن "باكثير" العديد من الكتب منها كتاب " الخروج عن النص فى علاقة باكثير والمسرح المصرى" للكاتبة عبير سلامة وكتاب "على أحمد باكثير ناقدا أدبيا"، تأليف الدكتور أحمد باحارثة، وكتاب "اشراقات عن باكثير" للكاتب "عبد القوى الحسيني" وغيرهم، كما سمُيت على اسمه الكثير من الشوارع والمدارس والجمعيات مثل شارع "على أحمد باكثير" المتفرع من شارع الرصافة بالإسكندرية وجمعية أصدقاء باكثير الثقافية بالقاهرة ومؤسسة باكثير للآداب والفنون (12).... وللحديث بقية.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.........

1- د. عبدالعزيز شرف: كيف تكتب القصيدة، مؤسسة المختار، القاهرة، 2001، (ص:120).

2- المرجع نفسه والصفحة نفسها.

3- المرجع نفسه، ص 121

4- د. سليمان علي عبدالحق: إرهاصات الشعر الحر عند علي أحمد باكثير - دراسة فنية.. شبكة الألوكة.. رابط الموضوع:

https://www.alukah.net/sharia/0/40311/#ixzz74o5iBiuB

5- د. يسري عبد الغني: على أحمد باكثير.. رائد القص التاريخي.. Dec 20, 2020.

6- بلال أحمد شاه: علي أحمد باكثير في مسيرة الرواية الإسلامية التاريخية.. إسلام أون لاين.

7- د. فريد أمعضـشو: علي أحمد باكثـير ومسْـرحُه الشعريّ: الشاعر والربيع نموذجاً، جامعة وجدة / المغرب،2015.

8- عبد الحكيم الزبيدي: علي أحمد باكثير، تقديم: عمر عبد العزيز، من منشورات مجلة “الرافد”، الشارقة، ع.6، يونيو 2010، ص 8.

9- علي أحمد باكثير: النشأة الأدبية في حضرموت” لمحمد أبي بكر حميد، مجلة “الأدب الإسلامي”، ع.29، مج.8، 2001، ص 16.

10- محمد أبو بكر حميد: علي أحمد باكثير رائد التنوير السلفي الإصلاحي في حضرموت، مجلة “الأدب الإسلامي”، ع.62، مج.16، ربيع 2009، ص 42.

11- عبد الحكيم الزبيدي: علي أحمد باكثير، من منشورات مجلة “الرافد”، ع.6، يونيو 2010، ص 245.

12- حسين جمعة: الرؤى الحضارية في أدب باكثير وحياته، مجلة “الموقف الأدبي”، اتحاد الكتاب العرب بدمشق، ع.471/472، س.40، يوليو/ أغسطس 2010، ص 9.

 

في المثقف اليوم