شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: صلاح عبد الصبور.. رائد التجديد في الشعر العربي الحديث

محمود محمد عليمرت علينا في الأيام الماضية دون أن ندري الذكرى الأربعين على رحيل الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور، إذ رحل عن عالمنا في 14 أغسطس من عام 1981، بعد مسيرة عطاء ثرية وحافلة شعرًا ونثرًا ومسرحًا، وهذه الذكري جاءت لا لتذكرنا بصلاح الغائب، بل لتذكرنا بأنه على الرغم من غيابه حاضر على الدوام. ونحن نرى أن الأيام تمضى ونحن في ذكره على الدوام نكتب عنه ونتحدث ونقرأ شعره كأنه حاضر معنا، ليس فقط نحن أبناء جيله الذين امتد بنا العمر، بل أيضا أبناء الأجيال التالية من الشعراء والكتاب والقراء المثقفين، وربما كان حضور صلاح عبد الصبور بعد رحيله أقوي. لأنه حاضر بأجمل ما فيه وأبقى ما يمثله ويعبر عنه وهو شعره الذى يزداد كل يوم صدقا ونفاذا (1).

يعد  الشاعر صلاح عبدالصبور واحدا من رواد حركة الشعر العربي المعاصر، ويعد واحداً من الشعراء القلائل الذين أضافوا إضافة بارزة في مجال المسرح الشعرى أما اسمه كاملا فهو محمد صلاح الدين عبدالصبور، وهو مولود في ٣ مايو ١٩٣١ بالزقازيق،، وقد تخرج في كلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية في ١٩٥١وتتلمذ على يد الشيخ أمين الخولي، الذي ضمه لجماعة "الأمناء" التي كان لها إسهام كبير في حركة الإبداع الأدبي والنقدي في مصر، ولفت عبدالصبور الانتباه بعد نشره قصيدته" شنق زهران"، ومع صدور ديوانه الأول "الناس في بلادي" تم وضعه بين رواد الشعر الحر، مع نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وسرعان ما وظف صلاح عبدالصبور هذا النمط الشعرى الجديد في المسرح، وفى شعره استلهم التراث العربي وتأثر بالشعر الإنجليزي المعاصر، وبالأخص الشاعر"ت. س. إليوت"، وقد لفت انتباه المتابعين للحركة الشعرية ديوانه الأول الذي جاء في قالب شعر التفعيلة متميزا بالصور الفريدة واللغة اليومية الشائعة، مع امتزاج الحس السياسي والفلسفي بالموقف الاجتماعي" (2).

كما يعد صلاح عبدالصبور أحد أبرز رواد حركة الشعر الحر العربي ومن رموز الحداثة العربية، وهو فارس المسرح الشعري إذ أنه من القلائل الذين أضافوا مساهمة بارزة في التأليف المسرحي، ومن أبرز أعماله مسرحيات "مأساة الحلاج"، و"مسافر ليل"، و"ليلى والمجنون"، هذا بالإضافة إلى دواوينه الشعرية ومنها "أقول لكم"، "أحلام الفارس القديم"، و"شجر الليل" وغيرها (3).

وصلاح عبد الصبور كان متعدد المواهب بين الشعر والكتابة والصحافة، فبعد تخرجه من كلية الآداب قسم اللغة العربية عمل كمدرس لكنه شعر بأنه في الطريق الخطأ فترك على الفور مهنة التدريس وألتحق بالعمل الصحفي حيث عمل بجريدة روز اليوسف ومن بعدها الأهرام الذى عرض عليه العمل فيها محمد حسين هيكل عندما قرأ كتاباته وأعجب بها، لكنه لم يطل العمل بها بسبب اختلافه مع هيكل وبعد تركها أصدر هيكل قرار بعدم التعامل مع عبد الصبور نهائيا  (4) .

لقد آمن الراحل الكبير صلاح عبدالصبور بأن الأديب الحق لا يستطيع سوى أن يكون ابن عصره، نموًا جديدًا لنبتة جديدة، تضاف إلى سلسلة من الأدباء المبدعين السابقين، لذلك بقيَ بعد موته في ذاكرة الأجيال اللاحقة، حافرًا اسمه في سجلات «الخلود العظيم»، بينما قاتلوه، ومنهم أحياء حتى الآن، تغطيهم رمال النسيان (5).

ولذلك نجده يتحدث صلاح عبدالصبور عن أدبائه المفضلين بوصفهم أصدقاءه، "كفافيس" و"كافكا" و"بروست" و"ديستويفسكي" و"تشيكوف" و"كازنتزاكيس" و"إليوت"، وغيرهم كثيرون.

يقترب بمهابة من عوالمهم الكبيرة المذهلة، لكنه لا ينزع عنهم الصفة الإنسانية، وهكذا يمكنك أن تجرّب العزلة والكبرياء والجنون والتمزق والاكتئاب والسعادة والمجد، وكل المشاعر، بينما تقرأ مؤلفات "عبدالصبور" النثرية "نبض الفكر"، و"كتابة على وجه الريح"، و"حتى نقهر الموت" و"أصوات العصر"، و"على مشارف الخمسين" وغيرها، عالم من المتعة الذهنية الصافية، حيث تتناثر الأفكار والرؤى والمشاعر، تقترب وتبتعد في محيط روحك، لم أعرف أحدا من المبدعين أحببته بكل هذا الإخلاص الغريب طوال ما يقرب من عشرين عاما هي "حياتي في الشعر" (6).

لقد كان يمثل الشاعر المسرحي الراحل صلاح عبد الصبور.. مشروعا مصريا ثقافيا ومن خلاله أنتشر الشعر المصري في وطننا العربي من المحيط الى الخليج بعد سنوات طوال من رحيل أمير الشعراء أحمد شوقي …وشاعر النيل حافظ ابراهيم …وها هي الأجيال التي من بعد شاعرنا صلاح عبد الصبور… اتخذته أبا روحيا لهم صاروا في أيامنا هذا شعراء كبارا… جعلوا الشعر يتنفس تفاصيل الحياة للمواطن المصري محدود الدخل في تجربة للأجيال المتمردين على السلطة… مما أغضب السلطة منهم لأنهم تعلموا من شاعرنا الراحل صلاح عبد الصبور أن هناك دائما تناقض بين المثقف والسلطة خاصة مع مثقفي جيل السبعينات والذى أسهم ذلك في أن يكون دائما المثقف والكاتب دائما متواجد في قضايا الوطن والمواطن….فتحية للفارس النبيل الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور… أبن جيل السبعينات… الذى جاهد بأعماله الشعرية الوطنية من أجل الحرية والعدل منذ تسعة وثلاثون عاما.

وقد كتب صلاح عبدالصبور كثيرًا عن الحب والعشق الإلهى، فهو شيخ المتصوفين، ولكنه كتب شعرًا جميلًا عن المحبين والعشاق فى عالم الإنسان. وأبدأ بقصيدة «أقول لكم» من أول ديوان له: لأن الحب مثل الشعر/ ميلاد بلا حسبان/ لأن الحب مثل الشعر/ ما باحت به الشفتان/ بغير أوان/ لأن الحب قهار كمثل الشعر/ يرفرف فى فضاء الكون... لا تعنو له جبهة/ وتعنو جبهة الإنسان/ أحدثكم - بداية ما أحدثكم - عن الحب/ حديث الحب يوجعنى، ويطربنى ويشجينى/ ولما كان خفق الحب فى قلبى هو النجوى بلا صاحب/ حملت الحب فى قلبى، فأوجعنى وأوجعنى.

وحول جهوده في الشعر المسرحي عبدالصبور كان محظوظاً بتقديم كل نصوصه على المسرح، لذلك استطاع تطوير أدواته المسرحية، ثم قدم دوارة بانوراما عن نشأة وتطور المسرح الشعرى الذى بدأ عالمياً منذ الإغريق وصولاً إلى ويليام شكسبير وتقديم مسرحياته الشعرية للمسرح العربى، ثم بداية مسرحنا الشعرى مع أحمد شوقى، كما تطرق دوارة إلى سمات مسرح عبدالصبور وهى غياب دور الشعب فى نصوصه المسرحية, فالبطل فيها هو الشاعر المثقف الثائر (7).

ولذلك فقد ارتبط اسم عبد الصبور باسم الكاتب لوركا بعدما قدم مسرحيته يرما وكتب أشعارها ، ومن أهم المسرحيات الشعرية التي أثرى بها الحركة المسرحية مسرحية مأساة الحلاج  وتعد هذه المسرحية حتى من  أروع المسرحيات الشعرية التي عرفها العالم العربي، وهي ذات أبعاد سياسية إذ تدرس العلاقة بين السلطة المتحالفة مع الدين والمعارضة كما تطرقت لمحنة العقل وأدرجها النقاد في مدرسة المسرح الذهني ورغم ذلك لم يسقط صلاح عبد الصبور الجانب الشعري فجاءت المسرحية مزدانة بالصور الشعرية ثرية بالموسيقى. (8).

وأيضا مسرحية "الأميرة تنتظر" وهى من أفضل الدراما الشعرية التى قدمها عبد الصبور للمسرح الشعرى العربي، وذلك لأسباب عدة أولها أن لغة الشعر فى رأى صلاح عبد الصبور هي الأب الحقيقي للدراما المسرحية، حيث دفعه هذا الإيمان إلى الشروع فى تقديم مسرح درامي شعرى عربي لم يكن موجودًا قبله سوى المحاولات الغنائية البسيطة التى ألبسها أحمد شوقي وعزيز أباظة ثوب الدراما الشعرية ، ويستعين الشاعر فى بنية الحكاية بالأساطير القديمة وخاصة ألف ليلة وليلة (9).

أما مسرحية " بعد أن يموت الملك " فنري هنا ان الشاعر صلاح عبد الصبور يتحرك في جو من التراث ويستفيد في شخصياته من الحكايات الشعبية، وتبدأ المسرحية بروايات ثلاث يقدمن العرض المسرحي في ثوب ساخر فيسخرن اولا من المخرج ثم من المؤلف ثم من ارسطو صاحب النظريات القديمة في الفن عموما والمسرح بوجه خاص ويورد في التقديم ذكرا عن ملك مسرحيته القادر الذي يلمس الكائنات فتدب فيها الحياة يتركها فتموت، يأمر فيطاع يرغب فتطوع كل الاشياء لرغباته يشتري الشعراء والمؤرخين لكن هذا الجبروت لا يلبث ان يهتز امام الملكة حينما نعرف انه عقيم يوهم نفسه بأن لديه طفلا وعندما تكشف الملكة حقيقته بوضوح أمام عينيه يسقط ميتاً علي الفور وعن مليكته التي تبحث عن من يعطيها طفلا (10).

ومسرحية " مسافر ليل  " يتناول العرض عدة أفكار فلسفية كالخير والشر ومعنى الوجود الإنساني وجدواه، ويناقش بذكاء قضايا واقعية حول الظلم والقهر والعدل والضعف في إسقاط على علاقة الحاكم بالمحكوم من ناحية والصراع بين الخير والشر من ناحية أخرى. (11).

ولذلك لا يمكن وصف تجربته سوى بالصدق الشديد، فأحلامه كانت تتشابه مع أحلام الفارس القديم، لكن وطأة الواقع جعلت أحلامه تتساقط يوما عن يوم، ومع السقوط أصر أن يتتبعها في أشعاره ليعيد لنا تشكيل صورة "الفارس القديم" وهو يصرخ لحبيبته "سوف أظلُّ واقفًا بلا مكانْ.. لو لم يعدني حبك الرقيق للطهارة.. فنعرف الحب كغصني شجرة.. كنجمتين جارتين.. كموجتين توأمين.. مثل جناحي نورس رقيق.. عندئذ لا نفترق.. يضمنا معا طريق"...لم يترك "صلاح عبد الصبور" نفسه فريسة للواقع لكنه استطاع بشعره أن يخلق لنا عالما مبهرا، وبالتزامن مع احتفال قصور الثقافة بذكراه التي مرت في أغسطس الماضي، نعود من جديد لقراءة قصائده لنسترجع صوته الملائكي كي يبعث لنا رسائل قادمة توا من الجنة تحيي لنا فردوسًا مفقودًا (12).

رحم الله صلاح عبد الصبور الذي تركنا ونحن في أمسّ الحاجة إليه‏،‏ فقد كان “مثقفًا” كبيرًا بكل معنى الكلمة‏،‏ ينطوي على رغبة متأصلة في المعرفة التي لا نهاية لها أو حدا‏،‏ وقد ساعدته معرفته الكاملة باللغة الإنجليزية‏،‏ وإمكان القراءة بالفرنسية على الاطلاع على أصول الفكر العالمي وفروعه‏.‏ وكانت ثقافته الشاملة‏،‏ العميقة والمتجددة‏،‏ خير دعم لشعره الذي لم يكف عن التجدد والتحول‏.‏ ولذلك فمن يقرأ “الناس في بلادي”؛ ‏ديوانه الأول‏‏، يجد وجها يختلف عن الوجه الذي ينطوي عليه ديوانه الثاني البديع “أقول لكم” إلى آخر دواوينه التي تؤكد حضوره الشعري المتميز‏،‏ وهو حضور يمتزج فيه الفكر بالشعر‏،‏ وحسبي وحسبك أيها القارئ لشعر صلاح عبد الصبور أن نحني الرأس لفنه الصادق، وأن نخشع أمام ألمه العظيم”؛ كما قال عنه الناقد الراحل شكري عياد (13).

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو ركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط.

...........................

الهوامش

1- أحمد عبد المعطي حجازي: صلاح عبد الصبور في ذكراه، جريدة الأهرام.

2- إلهام زيدان: صلاح عبدالصبور.. 40 عامًا على رحيل رائد حركة الشعر الحر.. جريدة الوطن المصرية ،  06:26 م | السبت 14 أغسطس 2021.

3- ماهر حسن: زي النهارده".. وفاة الشاعر صلاح عبدالصبور 13 أغسطس 1981.ز المصري اليوم .. الثلاثاء 13-08-2019 05:48

4- شيماء منصور: ذكرى وفاة صلاح عبد الصبور.. تعرف على أهم مسرحياته الشعرية، اليوم السابع ، الجمعة، 14 أغسطس 2020 02:23 م.

5- علي سيد علي : صلاح عبدالصبور.. «القديس» تقتله كلمة، المصري اليوم .. الجمعة 14-08-2015 16:46.

6- محمد رياض: صلاح عبدالصبور.. جريمة الشعر المصري اليوم .. 14-08-2015 16:46.

7- د. عمرو دواره : صلاح عبد الصبور من التجديد الشعرى إلى التجديد المسرحى، بحث منشور الكتاب التذكاري بعنوان: صلاح عبدالصبور... رائد التجديد فى الشعر العربى، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة، 1981.

8- شيماء منصور: المرجع نفسه.

9- المرجع نفسه.

10- المرجع نفسه.

11- المرجع نفسه.

12- إسراء عبد التواب ونضال ممدوح : صلاح عبد الصبور: سأظل واقفًا بلا مكان، الأحد 14/سبتمبر/2014 - 08:47 م.

13- جمال زرد: الشاعر …صلاح عبد الصبور في ذكراه ..جريدة الفراعنة مستقبل له جذور.. الخميس - الموافق 02 سبتمبر 2021م.

 

 

في المثقف اليوم