شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: هاني رسلان.. صحفياً بدرجة "رجل دولة"

محمود محمد عليبقلوب حزينة وأعين ذرفت منها الدموع، ودعنا هاني رسلان - مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، متأثرًا بفيروس كورونا في صمت وهدوء دون وداع يليق به وبوطنيته ونبله وانسانيته واخلاصه لقضيته وهمه القومي الأكبر الذي أفنى سنوات عمره من أجله.

المُصاب جلل والخسارة فادحة برحيل واحد من أبناء النيل المخلصين، الذين كرسوا علمهم وخبراتهم فى الدفاع عن النهر وحقوق مصر المشروعة فيه.. كان  كان خلطة مصرية فريدة جمعت بين أفضل الصفات وأنتجت مزيجا فريدا، قلما يتواجد فى شخصية واحدة، خصوصا هذه الأيام، كما كان شخصية متفردة، هو صعيدى شهم وجدع من دندرة فى محافظة قنا، وهو صوفى كبير، وربما ذلك ما يفسر لنا سر طيبته وعفويته وتصالحه مع نفسه ومع الآخرين، لم يكن مجرد باحث ومثقف وخبير فى مجاله، لكنه أيضًا كان ملتزمًا بقواعد الاحترام والفروسية فى مناقشاته، كما قدَّم الفقيد طوال حياته الكثير لبلده، وقد استعانت به الجهات المختصة كثيرا فيما يتصل بالشأن الإفريقى الذى كان متابعا لأدق تطوراته، كما قدَّم إسهامات جليلة في ملف سد النهضة.

ومن حق المجتمع الثقافى أن يبكى رحيله، وتتحول المنصات الالكترونية إلى ساحة عزاء مفتوح، فهو باحث لا يُعوض، بما يمتلكه من معرفة وخبرة وعلاقات فى ملف تخصصه، ورحيله فى هذا التوقيت، قد يجعل الوطن يخسر صوتا بحثيا جريئا يشرح ويفسر ويصد الهجمات السلبية، ليس هذا فحسب، بل يمتلك ثقافة موسوعية تشمل الفنون والأدب، تجعل منه مثقفا ذا تكوين خاص.

الدكتور هانى رسلان بجانب كونه باحثًا وخبيرًا يحرص دائمًا على تحديث مصادره، يمتلك قدرة كبيرة على تكثيف أفكاره وشرح أكثر القضايا تعقيدًا، وأيضًا يمتلك طبيعة شفافة وروحًا صوفية متجردة بما يمتلكه من روح متسامحة ودودة، منفتحة وقدرة هائلة على تحمل الخلاف والنقاش، يشرح أفكاره بعمق وبساطة، متمسكًا بقواعد النقاش ومن دون أن يفقد صبره مهما كان تجاوز من يختلف معه، وبعضهم لم يكن يمتلك ما لدى هانى من اطلاع ومعرفة، فقد ظل دائمًا خبيرًا بمجاله، فى قضية شديدة الاتساع متعددة العناصر، هى قضية أفريقيا وحوض النيل.

وقد قال عنه د.أسامة الغزالي حرب  كان "هانى رسلان" شديد الأدب و التهذب، اعتاد أن ينادينى بلهجته الصعيدية المحببة، مجللة بابتسامتة الودودة قائلا ” يا أستاذنا…”. كانت معرفته بالشئون المصرية والسودانية والإفريقية كبيرة و ثرية وعميقة، كنت أتعلم منه، وأنصت مليا إليه … فقد كانت حكمته و تقديراته دائما اكبر بكثير من سنه. لم يكن مجرد دارس أو باحث، كان محبا و عاشقا لمصر وللسودان ولإفريقيا كلها. عندما ثارت قضية سد النهضة الأثيوبى ومخاطره المحتملة على مصر والسودان ملأ الإعلام والصحافة حديثا عميقا فاهما ومدركا لكل التفاصيل والمخاطر. غير أن أحدا لم يكن يتصور أن هذا الإنسان الرائع بعلمه ووطنيته كان يعانى من مشاكل صحية جسيمة، وأنه قام مبكرا بعملية زراعة للكبد، وأنه كان يقوم كل يومين بعمل غسيل كلوى،لايعلم قسوتها و انهاكها إلا من كابدها …ولكن هانى كان يطل دائما بوجه البشوش الذى يخفى آلامه ومعاناته. شرفنى ذات يوم بدعوتى لحضور احتفالات أسرته "الدندراوية" في قنا برئاسة "الأمير" هاشم الدندراوى، وسعدت كثيرا وأنا أشاهد الوجه الآخر لهانى، بزيه الصعيدى التقليدي، ومهابته المستمدة من شخصيته الصعيدية الأصيلة.وعندما علمت مؤخرا إصابته بفيروس كورونا اللعين، اتصلت به للسؤال عنه، و متوسلا إليه ان يطلب أي مساعدة يمكن أن أقدمها له، ولكنه اعتذر شاكرا،ولم أدرك أنها المكالمة الأخيرة! وداعا أيها الفارس النبيل، الذى أتلو في وداعه ماقاله أحمد شوقى في رثاء الزعيم المصرى الراحل مصطفى كامل : "ياصب مصر وياشهيد غرامها هذى ثرى مصر فنم بأمان، أقسمت أنك في التراب طهارة، ملك يهاب سؤاله الملكان ” !.

وفي نفس السياق قام الكثير من أصدقاؤه من العاملين والصحفيين بمؤسسة الأهرام بنعيه، مؤكدين على أن الوفاة جاءت بسب إصابته بفيروس كورونا المستجد، وطالبوا من يعرفه أو لا يعرفه أن يدعو له بالرحمة والمغفرة، وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان، وأن يسكنه فسيح جناته مع الأبرار والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

والدكتور "هانى رسلان" صحفي وباحث من مواليد العاصمة السودانية الخرطوم في السبعينيات من القرن الماضي،ليصبح في العقد الرابع أو الخامس من عمره، وهو خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في سنة ١٩٨٤، وعضو مجلس المصرى للشئون الخارجية، ومؤسس منتدى دندرة الثقافى، وكان له إسهاماته فى ما يتعلق بالسودان ودول حوض النيل، وكان رئيس برنامج السودان وحوض النيل لفترة من الوقت، وكان رئيس مركز الدراسات التاريخية والاجتماعية فى مؤسسة الأهرام، له مؤلفات فى الكراسات الاستراتيجية الصادرة من المركز ومشاركات فى التاريخ الاستراتيجى السنوى الصادر عن مركز الأهرام وعشرات من المقالات والمساهمات الفكرية فى مراكز الدراسات السودانية والعربية.

كان "هانى رسلان" مدافعا شرسا عن حقوق مصر فى حوض النيل ومياه النيل وواجه الكثير من التداعيات لمواقفه الوطنية ؛ وهو أحد الباحثين والكتاب المتميزين القلائل فى الشأن الأفريقي، وكان له صدى ممتاز فى الأوساط السياسية الأفريقية، وكان قد عمل فى مؤسسة الأهرام، وشغل بها عدة مناصب مهمة، من أهمها رئيسًا ومؤسسًا لوحدة دراسات السودان وحوض النيل‏ بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، كما شغل منصب ‏‏رئيس تحرير مجلة «رؤى مصرية»‏، وتولى كذلك ‎رئاسة تحرير ملف الأهرام الاستراتيجي، كما تخصص فى مناقشة قضية سد النهضة الإثيوبى وتأثيرها على مصر والسودان، وكان من أشد المدافعين عن عدالة موقف مصر وحقها فى نهر النيل.

ولذلك يُعد "هانى رسلان"، الخبير البارز فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة الأهرام، نموذجا فاخرا للباحث العميق فى المعرفة، الدءوب فى البحث، الراسخ فى التخصص، المتابع لكل ما يحدث فيه. عرفناه باحثا متميزا فى الشأن السودانى، ولعل نشأته فى جنوب مصر، جعلت عيناه ترنو دائما إلى الجنوب، موطن ميلاد وتدفق نهر النيل، الذى تخصص فيه، وعشقه، وصار علما فى شئونه، يُشار إليه، خاصة فى السنوات الأخيرة التى ارتبطت بالمواجهة مع اثيوبيا فى موقفها المتعنت بخصوص السد الذى تبنيه.

ومنذ اندلاع أزمة سد النهضة الإثيوبى فى ربيع عام ٢٠١١، فإننى أظن أن "هانى رسلان" كان واحدا من أفضل الأصوات دفاعا عن حق مصر فى حصتها التاريخية من مياه النيل، وقد لعب  الدكتور هانى رسلان دورا رائدا في العديد من الملفات المهمة منذ انضمامه إلى المركز منذ أكثر من ثلاثة عقود. شملت مجالات اهتمام رسلان بشكل خاص الدراسات الأفريقية، ودراسات حوض النيل. وأولى رسلان اهتماما خاصا بالعلاقات المصرية- السودانية، وقدم عددا كبيرا من الدراسات الرائدة والمهمة التي مثلت – ولاتزال - مرجعا مهما للمعنيين بهذا الحقل المعرفي المهم. كما اهتم رسلان خلال مسيرته البحثية الثرية بقضية السد الإثيوبي، ولعب دورا مهما في الدفاع عن الحقوق المصرية العادلة في هذه القضية.

وأشار الراحل إلى أن موقف إثيوبيا السياسى لم يتغير وإنما هى تواجه مشكلات فنية وإدارية فى السد تؤدى لتأخر الانتهاء من سد النهضة، موضحًا أن معدل التقدم فى رفع الممر الأوسط بطىء للغاية ووقت المتبقى للفيضان محدود ولن يسمح لهم بالتعلية للممر أكثر من ٥٧٣ مترا بدلا من ٥٩٥ مترا وتصريح وزير الرى الإثيوبى ليس مفاجأة.

وأكد "هانى رسلان" مرات عديدة أن أمريكا ترفض التحرك العسكري، لأن هذا التحرك سيكون بداية لتفكك الدولة الإثيوبية، والمنطقة ستتحول إلى جحيم، لأن هناك مشكلات عديدة فى إثيوبيا، وصراعات قبلية وكراهية متبادلة بين الأطراف هناك، لافتًا إلى أن أمريكا تتحدث عن حل لأزمة السد بتسوية بين الأطراف، مقابل تنمية اقتصادية لإثيوبيا، منوها أن إثيوبيا تعانى من ضغوط مختلفة.

ولفت إلى أنه بعد فشل إثيوبيا فى الملء الثانى بسبب فشلها فى إتمام التعلية المطلوبة، منوها أن إثيوبيا كانت تخطط لتجميع ١٨ مليار متر مكعب من المياه، والآن لن تنجح إلا فى تخزين نحو ٨ مليارات متر مكعب، ولهذا فإن الخيار العسكرى سيظل قائما، لأن التحرك العسكرى كان سيضر السودان فى حال نجحت إثيوبيا فى تخزين ١٨ مليار متر مكعب.

كان "هانى رسلان" طوال الوقت هو المرجع الأساسي  الذى يُهْرَعُ إليه كل الصحفيين والإعلاميين في ما يتصل بالشأن الإفريقي ومستجداته المختلفة، وكان بحكم علمه الغزير وخبراته الواسعة بالقارة السمراء؛ قادرا على أن يقدمَ إجابات وافية لكل التساؤلات خلال دقائق قليلة.

أسس "هانى رسلانط وحدة دراسات السودان وحوض النيل، بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وتولَّى رئاستها، كما رأس أيضا تحرير ملف الأهرام الاستراتيجى ومجلة ” رؤى مصرية”.

لم يتلوَّن "هانى رسلان" ولم يداهن، وهذا ما يُفسر مظاهرة الحب الجارفة التى شهدناها فى وداعه عبر مواقع التواصل، فكل من اقتربوا من الرجل أو تعاملوا معه جمعهم الود والاحترام  لشخصه؛ حتى آخر يوم في عمره.. فقد كان إنسانا بمعنى الكلمة، لايبخل بمد يد العون لمن يحتاج إليها، ولا يتأخر أبدا عن تقديم النصيحة، ولم يغلق باب مكتبه في وجه أي باحثٍ.. ورغم مرضه الذى كان يخفى حقيقته عن الكثيرين لم تكن الابتسامة تغادر وجهه.

وهانى رسلان مصرى من أصول سودانية، وهو كاتب صحفى فى مختلف الصحف العربية والعالمية، من الباحثين والكتاب المتميزين القلائل فى الشأن السياسى الأفريقي، وكان له صدى كبير فى الأوساط السياسية الأفريقية وله مواقف وطنية عديدة.

وبرحيل "هانى رسلان"، فقدت مصر ومؤسسة الأهرام رجلًا قوميًا، عاش خادمًا لقضايا بلاده ودافعت عنها حتى وفاته، وكان شوكة فى حناجر كل من يتلون فى أمور السياسة الأفريقية أو يتلاعبون بحقائقها التاريخية أو يطلبون تزوير الواقع، ونحن إذ نعزي أنفسنا وأصدقاء الفقيد، ندعو الله أن يغفر له ويسكنه فسيح جناته ويجزيه خير الجزاء عن إضافاته الثرية للمكتبة المصرية والعربية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

.............................

هوامش  المقال:

1- عماد الدين حسين: هاني رسلان، مقال منشور بالشروق، نشر فى : الخميس 9 ديسمبر 2021 - 9:25 م .

2- عادل السنهورى: وداعا هاني رسلان، مقال منشور باليوم السابع، نشر في : الأحد، 05 ديسمبر 2021 02:59 م.

3- أكرم القصاص: هانى رسلان.. رحيل قيمة إنسانية وعلمية، مقال منشور باليوم السابع، نشر في : الأحد، 05 ديسمبر 2021 10:00 ص,

4-ضياء الدين بلال: في وداع هاني رسلان، مقال منشور بجريدة السوداني، نشر في : 10 ديسمبر 2021 .

 

في المثقف اليوم