نصوص أدبية

الجري نحو التفكير

محسن الاكرمينكان إيثري يحب الجري في المساحات غير المحدودة، وفي الفضاءات غير المسيجة بحواجز الزمان والمكان، حين كان يلقي بأول رجل له أرضا تلوح ملامح أبيه من بعيد في تلك البحيرة التي تقل ماء في فصل صيف الحرارة و الجدب. تفكيره حين يسرع خطوات الركض على الأرض اندفاعيا يزيد عمقا، كان يشده إلى مشهد أبيه آدم الذي داوم الجري بنفس المدار والمسار، كان إيثري يشتم عرق أبيه يفوح عطرا بجوانب تلك البحيرة البئيسة التي تحولت من جنة خلد، وأضحت صَعِيدًا زَلَقًا.

 لم تمنع الموسيقى المعلقة بأذني إيثري  من تجاوز حد السرعة النهائية وانتقال مركز الثقل على القدمين بالتساوي العادل على وقع الأرض، لم تمنعه رغبته المتعطشة في ملامسة يد أبيه وسقطة خضوع ركعة بين يديه تيمنا به. لكن كل نقط المسافة المستديرة كان تزيد طولا من تقاسم خلايا النقط  بالتكاثر وأصبح مسار الجري ممتدا بلا نهاية.

كان إيثري في قرار نفسه يستحضر صغره وهو يلهو بجانب البحيرة الدفيئة بالمياه والحياة الوجودية بالتنوع، كان يتابع باهتمام قابلية الجري عند الأب آدم وهو يمارس رياضته الحياتية المفضلة لمسافات طويلة، وببضع مرات التكرار. كان يذكر تلك المراكب الخشبية التي صنعها وهو صغير العمر إيمانا منه بتطبيق ما قرأ من تاريخ طارق بن زياد الأمازيغي وخطبته البليغة لمعشر تنوع روافد جيوشه " أيها الناس! أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، فليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب اللثام..." 

في حد خط الوصول ابتعد ملمح الأب آدم بنفس المسافة الأولى عندما ألقى إيثري برجليه للجري بين الهرولة والشد على صورة الأب الآتية من الماضي. أحس بضيق حرج يلفه حنقا، وزاده علوا شدة توافد أنفاس حارقة بصهد أثر زمن الماضي والحاضر ، والمستقبل الذي لا حيلة له فيه. استمر في الركض نحو الإيمان المطلق بحقيقة الوجود والموجودات،  دون أن يعلم إيثري متى التوقف من معاودة مجاراة أول نقطة حملت تموضع ملمح الأب آدم.

في ظل تكرار الطواف على البحيرة التي تقل ماء صيفا، ودون ترديده  لكلمات ألفها في حياته. أحس إيثري بقلق يسيطر عليه من الداخل ويخنق نفسه كمن يتصعًد سماء، قلق يثقل جريه نحو المستقبل و يبقيه لصيقا بالبحث عن مخلفات الماضي الساكت عند بداية خطوات أبيه الأولى بالجري بمحاذاة تلك البحيرة البهيجة ماضيا. هو يذكر حق المعرفة أن البطء أمسى يسكنه في أفعاله وقراراته العلوية، هو يعلم أن الحاضر في الجري المفرط  السرعة  لن يوصله إلى هدف حلم المعرفة الكلية بل ممكن أن يسكنه في العالم الأسفل والهاوية الممتدة.

إيثري يعلم حق اليقين في جريه الدائري أجوبة تفكير مستطيلة عن أسئلة وجودية إخبارية، من هو، ولما يجري باتجاه ملمح أبيه ؟، ولما لازال يسرع الخطى نحو صورة الأب في تلك البحيرة المتهالكة ؟، تساءل كذلك ، حين ستنتهي مسارات نقط الركض أين يتوقف، أو سيوقف بعلامة تشوير"قف" ؟. حينها آثر إيثري التوقف لزوما ليسترجع أنفاس التفكير الهادئ و الرزين، وينقذ  صدره من ضغط تصعُد السماء المرهق. في توقفه عن الجري تعلم آليات التفسير والتحليل، تعلم كيف يزاوج بين الأحداث والمظاهر، تيقن بعلم اليقين العقلي والنقلي بالقوة الخارقة المتحكمة في صناعة الكاف والنون.

حين استرد إيثري أنفاسه في تلك البحيرة القليلة الماء صيفا، وتوقف من الجري قدما، تعلم من الجري أنه ما هو إلى بحث عن السلطة وحب ناصية الامتلاك، وبسط يد السيطرة الممتدة ، تعلم إيثري أن الخرافة الهامشية أنتجت قصصا لشجرة الخلود على كرسي السلطة، تعلم حكم قيمة أن الشيطان بتعدد رمزيته يبقى من ثلة المعارضة الآسنة، تعلم أن إعادة كتابة التاريخ ما هو إلا تفكير في تغيير مجرى أحداث مستقبل عالم بأكمله.

 

ذ. محسن الأكرمين

 

في نصوص اليوم