تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

فَـجوة

احمد غانم عبدالجليل(علي، يا علي، علي...).

أعرف أنها تنادي (عَلِيـَها) لا تناديي علَيّ.

أحجية غريبة، سخريتها حسرات لا تستكين في غطيط غفواتها التي تمضيها على الكنبة فترة الظهيرة، عادتها التي لم تغيرها، كما لم تغير شيئاً في البيت طيلة سنوات الانتظار العصيب الذي أدمنته، سقطت إلى قرار بئره الجافة ولا تود الخروج منها، كلما حاولت مد يدي لانتشالها منها أجد لديها قوة غريبة تصر على سحبي إلى مكمن أحزانها، فقط كي أذّكرها بشيء من... ابنها الغائب، تلح في السؤال عنه، تريدني أن أحكي لها عن كل يوم أمضاه بعيداً عن حنوها، ما حاله، وما تعرض له.

طال ارتعاد جسدها لدى اختراق خارطة الآلام المنقوشة في ظهري جحوظ عينيها المتضرجتين حمرة الجروح المتقيحة، غشاوة من السواد حطت عليهما، كادت تطرحها أرضاً لولا تداركي وقوعها، أسندتها حتى الفراش، كانت كومة عظام خشيْت تفتتها بين ذراعيّ المرتعشتين بارتعاشها، أعيتها حدة البكاء فغيبها النوم وأنا أردد كالبغبغاء إلى جانب رأسها قسمي المرتطم بعجزي عن فعل شيء أن أوان رجوعه إلى أحضانها صار جد قريب، أسِح الدموع بعيداً عنها وعن غرفتي القديمة التي أوصدتْ بابها في وجهي ما أن رأتني أدخلها، هرولت إلي وسحبتني من يدي إلى الخارج، كادت تطردني من جديد مثلما فعلت حال رؤيتي أقبِل يديها وأهوي برأسي إلى صدرها المعبَق بعطره الإلهي، جفلت وراحت تدفعني إلى الخارج، تستغيث بالجيران أن يهرعوا لنجدتها من ذلك الغريب المتطفل المرسَل من رجال الأمن لمهاجمتها، بعد أن سلبوا منها ولدها الذي نذرت ما تبقى لها من عمرٍ في رصيد الحياة للقياه ولو لمرةٍ واحدة.

ولكني أنا هو، أنا هو يا... أماه، بكل الجراح التي تتلبسني، من غير أن تعينيني على الفكاك من أسر لعناتها، بل على العكس تماماً، سكينك الحاد يعمِق الهوّة داخلي، يحاول شطري إلى شخصين، لا أعرف أيهما أكون، الغائب الحاضر أم الحاضر الغائب لديكِ؟ لا يمكنني البقاء في هذه المتاهة الخرقاء إلى الأبد.

صرختُ بهذا أو بعضه، وربما صرخات أخرى تغير على غيظ مواجعي منها ومن الدنيا التي سخطت عمري في أقفاص القردة هشيماً.

تركتها كصنمٍ من الذهول خفت أن يصيبني جموده، خرجت وكلي عزم ألا أعود ثانيةً، غير أن الليل أمسى حبات مسبحتها الطويلة، إحداها تسلمني لأخرى مع تدويرها ما بين سبابة وإبهام يدها، خشيت ذوبانها في شغف قبلاتي المكلومة بأمومتها التي تصر على مداراتها عني، تختزنها للطالب الجامعي المصقول بأماني المستقبل الذي اعتاد أن يسكِنها كل تفاصيله، حتى في اختيار الزوجة ومن ثم تسمية الأحفاد الذين سيشغلونها عن كل شيء، عنه وعن أخته هناء وصبييها المتعلقين به كما لو كان في مثل عمر كل منهما، تزوج أحدهما ويكاد يصير أبا وسافر الآخر للعمل في الخارج.

اتفقت معها على فبرَكة هذه المسرحية (السخيفة) حتى أستطيع دخول بيتي.

ـ معقول إنك نسيتَ عنوان بيتكم وتذكرت عنوان بيت صاحبك!.

ـ هو الذي ذكرّني به بعد أن وجدني لا أعرف طريقي إلى مكان.

ـ طول عمره خدوم ومضياف ويحب أصحابه، عيبه الوحيد السخرية، بلا حدود ولا تحسب للخطر، لا يخفي استهزاءه من الجميع، الحكومة والأحزاب والمتعصبين، وعندما أحذره من طول لسانه لا أعرف كيف كان يجعلني أسابقه إلى ضحكٍ ملعون أهوج، تنهدت ثم أكملت، كان يجب أن يهجس قلبي المصير الذي يتربص به وبي، وكأني أعنتهم عليه، حتى الله يمكن أن يغفر ويسامح ولكنهم لا يرحمون، أبدا لا يرحمون.

اصطبرتُ على نشيجها المتقَطِع حتى استطاعت أن تعاود الكلام: وأمك، لم يدلك قلبك عليها أيضاً؟.

نظرت إليها بعمق متكَتم التنهد: لعلها لن تعرفني بعد كل هذه السنوات.

صرختها تهم بافتراسي: لا، إياك أن تقول أو تفكر بهذا للحظة، فهمت؟.

ـ أنتِ لم تتعرفي عليّ، أقصد نسيتِ إني صديق ابنك، رغم أن أختــ...ه والجيران أيضاً لم ينسوني لأني كنت كثير التردد عليه هنا.

أخذت تهز رأسها في تمتمة: نعم، مع أن إسمك علي أيضاً، وكذلك، تحملِق فيّ، فيك بعض الشبه منه، ولكن حبيبي ليس عصبياً مثلك، فجأة تهب وتصرخ ثم تخرج وتصفع الباب وراءك وتقول كلاماً غريباً لا أفهمه.

ـ السجن يغيِر الكثير فينا ولا يتركنا كما كنا.

ـ ما أن يخرج علي من السجن سأبيع الدار وكل شيء وآخذه إلى أي بلد أستطيع أن آمن عليه فيه، حتى  لو كانت جزيرة لا يعيش فيها غير عدد قليل من الناس، هذا أفضل بالتأكيد.

أطرقت للحظات ثم سرعان ما استهجنت الفكرة: لا، لا، أي جزيرة أحبسه فيها، أما تكفي عزلة سبع عشرة سنة لحد الآن عن العالم، أنا أريده أن يعود كما كان، مفعماً بالحيوية، يحب الحياة مهما أذاقته من مرارة، وأنا أعرف ولدي جيداً، سوف يرمي كل شيء وراء ظهره ويقول لنطوِ صفحة على كل ما فات.

هممت أن أهتف لها بذات الجملة، لكني أمسكت لساني وأحنيت رأسي حتى لا يعاودني انفجار جديد في وجهها المشع بنور الأحلام.

لاحظت وجومي فأرادت زرقي بنفحة أمل: وأنت لا تخف، بالتأكيد سوف تتذكر شيئاً عن بيتكم، وعندما يعود علي سوف يساعدك ومن يعرف من أصدقائكم حتى تجد أهلك، أم أنك لا تعرف مدى شهامة صاحبك؟.

آه كم أحسده، صاحبي علي، ولكن أنا من أكون فعلا؟.

سؤال ينقر رأسي بوتيرة متزايدة، قد لا يكف إلا بحفر فجوة تعبر منها الكذبة لتغدو حقيقة لا بديل لها في بؤرة دماغي، تستمد عنفوانها من نظراتها المتشككة والمتوجسة التي ترشقني بها من حينٍ إلى آخر حول السر الحقيقي وراء وجودي معها في دار ليست بداري، ومع ذلك تجدني أتصرف كما لو أني صاحبها فعلاً ولا مكان لشابها العشريني فيها، فأجعلها أكثر تمسكا بأحاديثها المسهبة عنه، تعمد إلى تذكيري وبعناد لا يفارقها أني مجرد ضيف، عابر سبيل رأفت لحالي من أجله فقط، وحتى لا تدع مجالاً للتقصير في حق غيبته الطويلة تغافلني بوضع مبلغ من المال إلى جانب السرير من يومٍ لآخر.

ابتعت ثياباً كثيرة، بان الاستغراب في وجه البائع من شدة لهفتي على كل ما تقع عليه عينايّ ودون مساومة على السعر، أكيد تصورني محدَث نعمة قاسى من الحرمان أمَرّه، أو ربما أكون لصاً لا يعبأ بغير الوجاهة على حساب جيوب الآخرين، لا بد أن تعبيرات وجهي وتململ كلماتي، بل هيئتي بصورة عامة سرَبت ذلك الانطباع إليه، محاولاتي التصرف بطبيعية وتلقائية تنجح مرة وتدرك قاع الفشل مرات لتسقط عني ملامح الإنسان الذي كنت، فأدخل عمق مرآة وجهها المحملِقة في تخسف العمر المسروق مني ومنها.

تباً لشطط الجنون التي تنوي قذفي إليها حالتها الغريبة والمستعصية حتى على الطبيب النفسي، توَسلتني هناء أن أراجعه دون تردد أو تأجيل بعد أن ساقتها إلى غرفتها كي تبدأ بتوبيخها العصبي المستغرب التصاقها بي على كنبة الصالة ولف ذراعها حول كتفي، تهمس في أذني كلماتها المواسية لمعاناتي مع أمنا التي تعرفني ولا تعرفني، تضنيني باحتوائها الحنون ونبذها لمجرد خاطر أن أحل محل ابنها في قلبها في آنٍ واحد.

تقلقل مشاعرها نحوي تجلسها أحياناً على حافة الفراش، عيناها لا تحوطاني إنما تنغرسان داخلي، تخَدِش محجريها دمعات ترفرف نحوي من عالمٍ آخر تقف ذاكرتها المشوَشة حاجباً شرساً يمنع ولولجي إليه، أو على مقربة من رأسي، حريصة ألا يقبض صحوي على أصابعها الرقيقة متلبسة لدى تخللها خصل شعري بنعومة تعود بي إلى عمرٍ مضى دون رجوع، أبقى أتصَنع النوم، أرتشف ما أستطيع من دفء أنفاسها المجهدة، تنهيها بتنهد تترك حنينه يلفح صفحة وجهي قبل انصرافها لتعد أكثر ما كنت أشتهي من طعام الإفطار، يأخذها القلق بعده من تأهبي للخروج بحجة محاولتي البحث أو تذكر عنوان بيت أهلي، نزعة طفولية تدفعها للهرولة خلفي نحو الباب، ترجوني ألا أتأخر، أن أحرص على نفسي جيداً، وألا أضع ثقتي بأحد مهما كان، وعندما أسألها إن كانت تنوي الخروج تذّكرني في نبرة عتاب أنها لم تغادر البيت إلا للضرورة القصوى منذ أن اختطفوا منها ابن بطنها المغروس في أحشائها كما لو كان جنيناً لم تلده بعد، تعود بعدها بسرعة مرتبكة تلفظ الأنفاس، يوخزها التفكير بإمكانية عودته أثناء فترة خروجها الملعون، صديقاتها هنّ من يقمنّ بزيارتها باستمرار، والجارات أيضاً صرنَ يتفهمنَ سر نظراتها المتلفتة كل دقيقة نحو باب الدار، التسوق يتكفله زوج هذه وابن تلك، بالإضافة إلى وجود هناء وعائلتها إلى جانبها بشكلٍ يومي أو شبه يومي، أما مهاتفاتها فصارت تضايقها من كثرة إلحاحها في الاطمئنان عليها، كثيراً ما صرخت بها:

(أنا أمك لا طفلتك يا حمقاء).

تقسم لي أختي باكيةً أنها لم تقصِر نحوها بشيء حتى لو كان ذلك يقودهما إلى شجار وخصام تنساه بمجرد انقشاع زوبعة العصبية العاتية المعروفة عنها.

شرعت سيفها في وجهي البارحة عند عودتي المتأخرة بعض الشيء، فرحت بهيجان قلقها عليّ إلى حد البكاء خشية ألا أعود، وددت الارتماء في أحضانها بشهقات تعبر حرائق الفراق الآثمة التي أتاهتنا عن بعضنا لو لم تصدني بمقارنتي بابنها الذي لم يكن يتركها بين أشواك صبّار الوقت لوحدها كل هذا.

جميلة مراوغاتك معي يا أمي، أكثر مشاجراتنا كانت بسبب تأخري الدائم إلى ما بعد منتصف الليل مع أصدقائي الذين لم أعثر على أغلبهم، ومن عثرت عليهم جرت بيننا أبحر من الغربة رغم ما يحاولون أن يحفونني به من مجاملات حميمة، تلوذ في عيونهم بعض الرهبة من اقتفاء رجال الأمن خطواتي، كما يلوذ في عينيكِ تخوفك المستمر من المجهول، يشكو دمعكِ طيشي واستهتاري، ذات الكلمتين تلازمانكِ، كل الأعوام الفائتة لم تزحهما عن لسانك، ووجودي يترنح في ثنايا عقلك، حركة عض شفتي السفلى بقوة تلجم لساني عن أي تهور قد يجرنا إلى نقطة استحالة العودة التي حذرني منها الطبيب، ربما تسقيني علقم الندم ما حييت، توَسطتْ جبينك المقطَب قبلة اعتذار غصَت بعبرة قهرٍ جديدة لا تنجح مآقِ عينيّ المعَكرة في طمسها عن نظراتك التي كانت تسبر مكامن أسراري دون الإتيان بكلمة.

(علي، علي، عليييي...).

تتصارع النداءات مع رنين الجرس المتصل مثل صلي رشاش وخبط الباب المرتج بين الضلوع، الرعب يكفأ وجهها مطوّى الملامح على الأرض مرةً تلو الأخرى، جسدها يتضاءل ما بين زحف وتشبث ولو بالهواء المنسحب من الدار، أسابقها بعدة قفزات سريعة من حائط إلى آخر غير مصغٍ لتوسلها ألا أفتح باب البؤس والشقاء مجدداً.

أعرفهما جيداً بلا سؤال أو انتظار إجابة، تمضي عدة لحظات وأنا أترنح كالسكارى بين كماشات الأيدي الكبيرة الخشنة وتشنجات يديها الحانيتين، أصابعها المطوِقة زنديّ بشراسة فريسة تقاوم سكين الذبح المسنون تكادان تمزقا كميّ القميص، تركتاه لتسارع ذراعاها الالتفاف حول صدري، تواصل الضغط عليه بقوةٍ تصهر في الحنايا الدفء والألم معاً، احتضان غير مكتمل مثل وجودي المنقوص منذ خروحي من المعتقل، في إجازة لا أكثر، لم تمنحني فسحة السكون إلى حِجرها.

أساق إلى الغياب في أغوار الظلمة مجدداً، ولكن هذه المرة لا أرهب أي تعذيب اعتدت اجتراع علقمه قدر ما تثقلني رعشة سؤال علّ الموت يسبق يقين الإجابة عليه، إن كنت قد خرجت فعلاً ومررت بكل هذا التخبط في متاهات الذاكرة المثقوبة لأمي التي تركض حافية القدمين وراء اقتيادي مكبّل اليدين حتى أركب السيارة المارة من أمام البيوت والجيران المبَحلقين في صمت أخرس يفسح المجال لذلك النشيج الآتي من بعيد اختراق أذنيّ، يوصيني أن أطمئن بال ابنها (علي) عليها.

***

أحمد غانم عبد الجليل

كاتب عراقي

 

في نصوص اليوم