نصوص أدبية

حياة على بطاقة صغيرة

محسن الاكرمينمنذ أن رحلت بنا الدنيا تباعدا، كان تائها وهو يفتش في مصفوفات مخزونه من الذكريات. كان في حالة مزرية، ويحس بضجيج يأتي من دواخله شبيها بأبواق سيارات، كان يتحرك منفردا وسط زحام يأتي منه عويل خصام وكلام سافل. ضمن صدفة حظ تناولت يده اليمنى بطاقة صغيرة مهملة من صندوق حياته. تناولها برفق وقد انطوت على ذاتها بانكماش غير مرتب. لم يدر ما شده من الورقة قيمة، لكنه تحدى المجهول وبدأ يفكك مساحتها المستطيلة. لم يكن يتوقع من البطاقة الصغيرة تلك البداية الشرسة من الكلمات غير المرتبة بالموضوع الأحادي" شكرا لأنك خلصتني، أنت من تعلق وسط ذاتك، خلصتني من سجن الذكريات، اعتن بنفسك بالحسنى والتروي و الابتعاد عن ملازمة ضيق الحال. أنت تستحق فرصة ثانية، ابحث عنها واستمع إلى حسدك لأنك تواجه ألمك بالتجاهل ". تمهل في متابعة الحروف والكلمات وهو غير المولع باستخدام الكلمات الطويلة والغامضة، تمهل حين استوفى قراءة  مقطع  مصغر من البطاقة الصغيرة " أنت عالق لا تقدر أن ترى حلم المستقبل، مادمت تنظر إلى الماضي ويشدك عنوة، أنت تسحق نفسك بالألم والوجع المستديم، قم بالخطوة الأولى لاجتياز هذه الأبواب، فهي أمامك بالقرب فلا تتمهل بالتحرك " لكن كان رده صادما : أخبرني الحقيقة أولا، من أنت؟ أو دعيني  وشأني !. 

توقف عن التحرك ولم يقدر على جرأة خطوات متتالية نحو مقبض الباب، ثمة أمر خفي لم يستوعب دلالته، لما تخاطبه تلك البطاقة الصغيرة والنكرة بفعل الأمر، وكأنها تعلم سر ارتداد حياته الماضية. كانت تلك البطاقة الصغيرة أذكى منه ومن تداولات أسئلته المشكلة داخليا بالاستفهام. حين ردت عليه بالقول: أستسمح، منك إن كنت قد أفسد أمور روتينك اليومي بشكل غبي هذه الليلة وبلا استئذان. أنا مجرد حلم أساس من المستقبل، أقف أمامك وأراك تواجه ألمك ولا تقدر على البوح بالتعرية، كنت سأفتخر بك إن كنت عالقا في السعادة كحالة نفسية مريحة، فلن ألقي اللوم عليك، ولكني أردت فقط أن أبكي معك بمتم دموع النهايات، ومسحها ببسمة من ذكريات سعيدة، فالسعادة حالة نفسية تظهر الأشياء مختلفة من أعلى رؤية. اسمح لنفسك بالاستمتاع وتفريغ آهات الحياة، تذكر عند أسفارك أن تردد دائما "عندما ينتهي شيء يبدو لنا الآخر أبهى منه رونقا ". أنت عالق في شرنقة الذكريات وحياة اللازمان، أعد بناء لبنات الفرح والبسمة حجرة تلوى أخرى.

توقف ولم يقدر أن ينظر من الأعلى على أصغر نقطة سفلية من تلك البطاقة الصغيرة، والتي سكنت منزل ذكرياته دون أن ينال منها الزمن تآكل الأرضة. من سوء ضحكات متاهاته، أنه يصنع عصير انتعاش الحياة من ليمون حامض دون أن يدري فساده. وللحفاظ على شيء من رجولته أقر بصدق كلام البطاقة الصغيرة حين نصحته "أن المرور على النار بقدمين حافيتين تشجيع وخطوة واحدة  حامية نحو المستقبل"، كان العصير حامضا ومنعشا وهو يتلذذ به شربا متقطعا، وبدا على غير عادته مبتهجا من طيبة فساد مذاقه، وقد سبق للبطاقة الصغيرة أن حذرته بالقول: " لا تجرح يدك ! وأنت تقشر الليمونة المنتهية صلاحيتها"، لكنه شعر أنه ارتاح لأنه قطع الليمونة نفسها دون أن يؤدي يده .

من قصر كلمات البطاقة الصغيرة توقف المطر، لكن السيل الجارف بدا جاريا بالوفاء الدائم لتجمع نقاط المطر بعمليات الدمج، وازداد التودد الرومانسي حين خاطبته البطاقة الصغيرة "فالقلب يمكن أن يدبر سنن الحب، لكن جسم الحياة الفض يمكن أن يكسره !!! ألم أقل لك عصفورين بحجر واحد، هيا اذهب ارحل ...انطلق ... أنت تغضبني من تجمدك أمام حروفي...".

 فكّر في كلماتها بتأن حين دعته إلى " كيّ جذور الزهرة اليانعة من الياسمين حتى لا تذبل خارج تربة حياتها الفاتنة "، حين ألزمته البطاقة الصغيرة أن يفكر في الحلول ويقفز عن موانع زينة الحياة. لكن، ورغما منه فقد تاه في سلة تفكير متحركة، وضاع خارج سطر الكتابة، وبدا وكأنه يتحرك خارج النص، حتى خاطبته تلك البطاقة الصغيرة " تذكر كيف عاش الحب وليس كيف مات؟، فالمأثم مهم لأنه لا ينهي الحياة، وإنما الحياة تظهر بعده بالذكريات السمحة".

 استمع إلى كلمات البطاقة الصغيرة المنكمشة،  وهو عارف أن معيقات حياته كانت نتيجة قرارات خاطئة، تابع القراءة وهو يتلو بالصوت المسموع "أنا من سر الماضي القريب منك، اسمي رغم فضولك المتنامي ستعجب به لزوما، ومن توقيعي بختم أحمر الشفاه، اعتن بنفسك...حسنا وداعا... لا ترجعني إلى وضعيتي الأولى المنكمشة !!! " تبسم وهو يستدير بخطوات واثقة لفتح الباب، وحال قوله: شكرا أيتها البطاقة المستطيلة بالصغر والدلالات الكبرى لأنك نفضت ذكرياتي أرضا، فعقل الأحمق قد يحول الفلسفة إلى حماقة، وقد يفسد التفكير بالشكل الكبير،  سلامي بطاقتي الصغيرة لم تكن غلطتي أنا...

 

محسن الأكرمين

 

 

في نصوص اليوم