نصوص أدبية

مذكرات مدام زينب

حاتم السرويأعرفكم بنفسي؛ أنا مثقفة، أو هكذا يراني الأصدقاء، ولكني لا أعض؛ فملامح وجهي والطرحة التي ألفها وثيابي التي لا أغيرها، كل هذا يعرفكم من أنا.. أنا زينب..مصرية وإنسانة.. تمامًا مثل أمهاتكم و أخواتكم..

قبل بلوغي سن المعاش كنت أعمل موظفة في هيئة حكومية يعتقد الكثيرون أنها تمثل عبئًا على الدولة، والحق أنها لم تكن إلا فكرة طرأت في ذهن أحد كبار المسئولين، والذي كان من الضباط الأحرار قبل أن يصبح وزيرًا في عهدٍ عجيب لا يزال محل أخذٍ ورد ومجادلاتٍ بلا مراسي ولا ضفاف.

كنت طفلة عادية في حي شعبي قديم، والدي كانت له ورشة للنجارة استطاع أن يفتحها بعد كفاحٍ طويل وعاونه فيها اثنان هما فتحي وبيومي، وأمي ربة منزل لا تعرف من الدنيا غير حلة الفاصوليا البيضاء وتنظيف البيت، وكانت الحياة وقتها هادئة وبسيطة، لم نكن نفكر كثيرًا، وإذا ضحكنا فمن القلب، وإذا لعبنا فجريٌ وانطلاق، كانت نفوسنا مرتاحة وأجسامنا عفية، وعندما يحين وقت النوم نذهب سريعًا إلى دنيا الأحلام ولا يأتينا الأرق.

حنان والدي وطيبة قلبه ذكرى لا يخفيها الزمان ولا تحجبها التفاصيل وهي في قلبي محفورة كنقشٍ على حجر، لم يكن يتحمل بكائي، وأذكر أنه كان يتولى أمري عند انشغال أمي في ترتيب الحجرات ومسح الأرضية، يحتويني بين أحضانه، ثم يسقيني من كوبٍ صغير لازلت أحتفظ به، يمشط شعري ويقلم أظافري، ، ويطعمني بيديه التي لم أرَ مثلهما حتى الآن، كانتا معروقتين وفيهما طولٌ وغلظة، وعندما يربت على ظهري تراه يترفق حتى لا يؤذيني، كان رجلًا كما عرفوا لنا الرجولة، وكان يخاف علينا من نسمة الهواء، وكان وكان وكان.... لا أدري لماذا لا أجد الآن في الرجال من هو مثل أبي، أتراه كان آخر المحترمين؟؟.

حصلت على الدكتوراه بأطروحة بحثية كلفتني الكثير من المراجع والقراءة والتحليل والدرس والمقارنة، وأعرف أن البعض يتفاجئون من حرف الدال الذي يسبق اسمي أحيانًا، لكنها الحقيقة، نعم أنا دكتورة في تاريخ القرون الوسطى، وتحديدًا في العصر العثماني، وأصدقائي هم الجبرتي وابن إياس وعلي مبارك، ولا أحب أن تسألوني لماذا لم أعمل بالجامعة؛ فقد حصلت على درجتي العلمية بعد أن دخلت سلك الوظيفة بسنوات، وكل ما أستطعت أن أصل إليه هو منصب مدير عام، ثم باغتني المعاش وأصبحت مثل أمي، يهمني في المقام الأول أن يثني أبنائي وزوجاتهم على طعامي، وأن يبقى البيت نظيفًا مرتبًا، وأن أتملى من رؤية أحفادي كل جمعة وأستمتع بلعبهم حواليْ.

لم يبق لي غير أحمد الذي أنجبته وأنا على مشارف اليأس، وهو الآن في كلية العلوم، ولدخوله فيها قصة لابد أن أحكيها لكم.

أحمد شابٌ رائع، مطيع وحنون ومتعاون، وفيه شبهٌ كبير من المرحوم والده حتى أنني تصورت ذات ليلة أن أبوه يدخل علىَّ غرفتي فانخلع قلبي وظننت أنه عاد إلى الحياة، وصحت من الخوف، ولما رآني فَزِعة قال: أنا أحمد يا ماما، أنا أحمد!.

 إنه يدي ورجلي، وهو الذي يقوم على أموري كلها، فيحضر لي ما أحتاجه ويساعدني في البيت، ويسقيني إذا عطشت بالليل، وكان يحب التاريخ ولكني غيرت مسار أفكاره.

والدي كان يهمه جدًا أن أتعلم وأن أواصل حتى أصبح جامعية، ولأنني كنت أمل من الكيمياء، وأكره الرياضيات، وأحب الشعر والتاريخ، دخلت القسم الأدبي، ومنه إلى كلية الآداب، وبعد التخرج بسنة واحدة عينت في الهيئة الحكومية التي يراها الكثيرون عالة.. انظر إلى أعينهم تجدها لغوًا بلا معنى، وعبثًا بلا جدوى، وهم يتسائلون دومًا: في بلدٍ فقير كالذي نحن فيه ماذا تعني تلك المؤسسة العريضة وموظفوها الذين قاربوا عشرين ألفا، وفروعها في أنحاء الجمهورية؟ ألا يعد ذلك هدرًا؟.

عرفت هذا فحاولت أن أصنع من الفسيخ شربات، عملت بجدية وأمضيت عمري وأنا أحاول، مجرد محاولة، والجميع من حولي يتنافسون في التخريب، في رص وترتيب أوراق من المكاتبات الفارغة، في دعم أنشطة وهمية لا تنفذ على أرض الواقع، أنشطة صورية تمتص أموال الدولة، وربما أخفق أحدهم في محو ملامح الفشل ثم بقي في منصبه رغم ذلك، والشعارات أسمعها في أذني لها طنين، والخطط المعلنة في الصحف ومحطات الإذاعة وقنوات التلفزيون توحي أن الهيئة سوف تحيل ركام الجهل إلى أنهار من الثقافة.

آه، نسيت أن أخبركم عن هيئتي؛ إنها الهيئة العامة للتوعية الثقافية، وكثيرًا ما كنت أتندر على هذا الاسم في خاطري وحيث لا يسمعني أحد، لأن أحدًا لن يسمع نفسًا تخاطب نفسها دون صوتٍ ولا حروف، كنت أقول الهيئة العامة للملوخية، وأنا أعتذر للملوخية بشدة، فهي مفيدة ولا شك.

كنت أدخل إدارتي التي لم أغيرها طيلة سبعة وثلاثين عامًا هي سنوات عملي منذ بدء تعييني في آواخر سبعينيات القرن الماضي، فأجد الزملاء قد أعدوا وليمةً كبرى من الفول والفلافل والباذنجان والمِش والبصل والمخلل....إلخ.. الرائحة فواحة تدخل من أنفي فتنتشر في رأسي كله وتصيبني بالوخم، والمنظر العام وهم يأكلون يوحي بأنهم خرجوا توَّاً من الشدة المستنصرية، والحمد لله أنهم وجدوا الفول حتى لا يأكلوا بعضهم أو يأكلوني.

ولأنهم يعرفون أنني أتناول إفطاري في البيت، كانوا يديرون لي ظهورهم بعد عبارة شاردة يقولها أحدهم آليًا دون تفكير: " اتفضلي معانا يا دكتره " فأقول شكرًا فينهمك في طعامه وينسى العالم ومن فيه.

ويمضي اليوم بطيئًا مملًا، فيه الكثير من الكلام أقوله أوأسمعه، أضحك عليه أو أغضب منه، وفيه القليل من العمل، ثم أعود إلى بيتي فأعمل فعلاً، تنظيف وغسيل ومذاكرة مع أطفالي، وعندما أنجز كل مهماتي، أكوي قمصان زوجي، وبعدها أفتح كتابًا، كنت لا أتخلف عن القراءة إلا نادرا.

وعندما رحل زوجي عن الحياة بقي لي أحمد، عهدته متفوقًا ولديه شغف بمادة الأحياء، وعادةً يحصل فيها على الدرجة النهائية، ولأنني أكتب الشعر وأشارك في الأمسيات ويراني أحمد وأنا أتألق بين وهج قصائدي، ثم يسمع تصفيق الحاضرين، رغب الفتى أن يصبح مثلي.

أخبرني برغبته في الحصول على لقب (شاعر) وأن يعمل مثلي في التوعية الثقافية، ضحكت حتى بدت نواجذي وسال دمعي وأصابني السعال، والمسكين أحمد أصابه الخجل فقد خالني أستهزئ به.

قلت له يا حبيبي أنت لا تعرف شيئًا، دعني أخبرك في هدوء أن التوعية الثقافية ليست إلا مبنى دون معنى، واسمٌ بلا رسم، ورواتب يتقاضاها موظفون سقطوا في اختبار الحياة، لا يتكلمون لغة، ولا يعرفون الكومبيوتر، ولا يحسنون حرفةً يتعيشون منها، ولا يجيدون غير التوقيع في دفتر الحضور ثم النوم في مكاتبهم والأكل والثرثرة.

أنا أمك وأنت ولدي، ودخولك في هذا العالم ضياعٌ محقق، كارثةٌ أرجو ألا تداهم بيتنا، يا أحمد أنت تحب العلوم فلماذا لا تدخل الطب حتى أفتخر بك؟؟. استمع لي الولد ولحسن الحظ لم أبذل جهدًا يذكر في إقناعه، فقط حدثته عن مهازل حياتي الوظيفية، عن عمرٍ ضيعته في محاولة يائسة لأن أصنع شيئًا ولم أصنع هذا الشيء، عن قطاعٍ من البشر يعملون في الثقافة ولا يحب أحدهم أن يفتح كتابًا أو أن يحترم المثقفين على الأقل!.

وعندما حان وقت اختبارات الثانوية العامة حولنا البيت إلى معسكر، وذاكر أحمد حتى أدركه التعب،وبدا عليه الإرهاق والنحافة، وفرحنا كثيرًا لنجاحه، ولم يدخل الطب لصعوبة الامتحانات، ولكن مجموعه خَوَّله أن يدخل كلية العلوم.

وفي أول يومٍ للدراسة قلت له يا أحمد أنا أعرف مقدار حبك للتاريخ، ولكن المثقف هو من يتسع أفقه ليعرف أن في الحياة أيضًا علمٌ طبيعي، وأن هذا العلم هو قوام الحضارة، وأنه يجب أن نمد بساط الفكر إلى ما في هذا الكون غير الإنسان، فالإنسان لا يعيش وحده، يا ولدي العلم قيمة في ذاته، وحسبك أن تعرف تكوين حشرة وكيف تنفع الناس أو تضرهم لتعرف أنك مَلِك، يا ولدي اعرف الدنيا تعرف نفسك أيضًا، واعلم أن العلم كله منظومة واحدة.

سألني وقد بد عليه القلق: طيب ولو مالاقيتش شغل بعد التخرج؟؟

-   يعني العلوم مش هتلاقيلها شغل وهتلاقيه في التاريخ؟!

-   ما انا عارف إن التاريخ والأدب والفلسفة ماعادوش بيأكلوا عيش.

-   يا حبيبي اللي بيفكر بدماغه ويسعى بعزيمته وينسى النوم ويقول يارب هيلاقي شغل، كل الشغل ينفع، وكل الشغل له قيمة، إلا انك تخيب زي امك وتبقى حتة موظف في مكان زي قِلِّته، اتوكل على الله وشد حيلك وزي ما ذاكرت في الثانوي ذاكر في الجامعة، ولما تتخرج هتلاقي، طول ما ربك بيدبرها اوعى تخاف...

ومضت سنواتٌ ثلاث، وبات على وشك التخرج، وهو الآن أمامي يقرأ لابن إياس، وأنا أقرأ في تركيب البعوضة، ما هذا؟ تركيبها بالغ الإبداع.. ما أجملها!.

***

قصة/ حاتم السروي.

 

 

 

في نصوص اليوم