نصوص أدبية

حياة أبدية

جليل كريملم يكن على علم بخبايا تلك اليد الحانية التي  انتشلته من عالمه الموبوء، لتقذف به صوب بحر الربيع هذا؛ أزاهير كرز وردية، بابونج ذات زعانف نجمية، بنفسج لها حراشف مبيضة، أزاهير فل موردة، كلما داعبتها نسائم تراقصتْ متمايلة، براقة، ندية، تضوع عبقها في لحظة فاقت كل سنينه العجاف.

  تحلقت بُحيرة تغفو تحت دائرة معشوشبة  بأوراق خضر لمّاعة، وأغصان مدلاة بأزاهير حمر على حافات مياه ساكنة، انعكس على مرآتها أجنحة إوز متماهية مع لوامع ضياء العصر.

 تقويمه يبتدأ من الآن؛ تناهتْ إليه ألحان فريدة انبعثتْ أنغامُها من آلة لم تُبتكر بعد، فانسابتْ إلى شَّغافِ قلبه انسياب مياه عذبة صوب شجرة ظمأى، قالتْ:

- ها هو ذا عالمي.

رد منبهرا: هذه أنتِ؟!.. أم اتّشحتِ بأرديةِ الملائكة!.

اشرقت شفتاها الورديتان عن ابتسامة يسيرة تشي  طراوة فتاة لم تبلغ الثامنة عشر، أجابتْ:  

 "متشوقةٌ إليكَ"

 اِنطفأ سُعارُ آلامهِ ببلسم رقيق أحرفها المرنَّمة.. تمتم متعجبا:

  " تبدين يانعة! "

انبجسَ من خزائن أمسِها تباريح غرامها وكيف نمت أغصانه الزاهرة. حدّثته:  

 "ما أحلى ثمار العشق! "

تأمل ماضيه المائز معها حيث أمستْ العناية الإلهية وحدها من تقودهما إلى شواطئ السلام.  غمغم:

 " لم أعدْ أحتمل من دونك غابة الذئاب تلك"

رقَ سويداء قلبها ففاضتْ عيناها بأشجان النوى، همهمت:

 "ما يُعكرُ صفو الحياة هنا، بِعادك عني"

   " سأمكثُ معكِ."

علّقتْ ذراعيها على منكبيه، متنهدة:

-"أودُ ذلك.. لكن ليس قبل أن ترحل"

   "ها انذا راحل إليكِ"

بادرته موضحة:

" لم يُوقَع بعد على جواز مروركَ."

 رد مازحا: صِرتِ خبيرة بإدارة الرحلات.

أجابته والابتسامة ما فتئت عالقة في ثغرها  الزهري:

 "الرحيل انعتاق."

سألها مستفسرا:  "انعتاق ممن؟"

هبّتْ نسائم عبقة، تسلل شذاها إلى روحيهما، وتسلل الندى ما بين شقوق وريقات النرجس.

 أجابته:  - انعتاق من عالم رمادي.

تبعثرتْ أفكاره، تمازجت أوهامه بواقعه، وأحلامه بحقائق وجوده، فسألها إن كانت قادرة على أن تتشفع له ليقيم معها في خِضَمِّ هذا النعيم.

مسَّدَتْ شعره الأشيب بأنامل غضَّة، مبيضة، ثم   مرَّرَتها على أخاديد وجنتيه المتغضِّنَتَين اللتين حفرتهما معاول حصار مديد وحروب عبثية متعاقبة على مدار العمر.

 ردتْ متحسرة:

 ما أن وجدتك هنا حتى هفا قلبي إليكَ كما يهفو الفراش إلى الضوء.

عَمَدَ أن يبوح لها بأن خطرهم مازال قائما، واصفا

أشكالهم وألوانهم الغرائبية؛ هم سود، عراة، طوال، ناحلون، تتلفع عوراتهم بخرق صفر قذرة.. في إحدى  قبضاتهم كرات نارية مُسننة وفي الأخرى رماح تعلو رؤوسهم بنهايات مدببة.. بَدَوْا كأنهم لا ينتمون لجنس البشر.

راح قلبها ينقبض من بشاعتهم المقرفة، مستذكرة كيف أنَّهم ظفروا بها أيضا قبل شهرين في إحدى ليالي عشقهما المُسَرْدَق بالصفاء.

قالت: خطرهما واحد، هم ومن تسلط على رقابنا في أوقاتنا الضائعة.

قال مبيّنا خلاصه منهم: " أشار إليَ أحد الهاربين من نبالهم إلى نفق فضي للنجاة من شرورهم، فحَشَرتُ نفسي  في جوفه بضغط وكبس شديدين، حتى غدوتُ ها هنا جنبكِ"

 دنتْ منه قابضة على كفيه، متأملة خرائط العمر التي بانتْ على محياه المجعد.. قالتْ:

"لقد شاخ وجهك كثيرا"

تمتم مبتسما: وأنتِ ازددتِ بريقا وحُسنا.

صَفَقَتْ إحدى طيور الإوز جناحيها الأبيضين على سكون البركة فتناثرت وارتجتْ مياهها، وطارت في لحظة واحدة جميع الطيور عبر سماء زرقاء لامعة بحمرة العصر القانية.

تكدَّرَتْ ملامحها، رحلت عيناها جهة تحليق الإوز في سكك فضاءات سامية، ثم أرسلت بصرها إليه، هامسة:

  "الآن تغلّبتْ تلك المخلوقات البشعة عليكَ."

 تشوشتْ مداركه، تحيرتْ أفكاره، انهارت قواه، مغمغما:

" لكنني طليق أمامَكِ؟"

رسمتْ كلماتُهُ أمارات اِلتياع في عينيها.. فردتْ بصوت متهدج:

- روحُكَ هي الطليقة، كتلك الورود الحمر المنعكسة صورها على شفيف ماء البركة.

 سألها منفعلاً: إذن أين أنا الآن؟

"أنتَ قبالي بكل حقيقتك.. إنَّ أعتى طواغيت الأرض عاجزة أن تمس روحك المفعمة بالحب.

سألها: "وجسدي؟!"

التمعتْ عيناها بقطرات اندلقتْ من مآقيها، ثم سألته: ألم تغادر منزلنا صباحا لشراء الفطور؟

رد مستذكرا: أجل.. وقبل أن أشتريه هجموا علي هناك.

عانقته بشدة، متنهدة، هامسة في أذنه:

" لا تخف يا حبيبي فأنا بجانبك دائما."

أزاح ذراعيها برفق، وسألها بإصرار:

"ما الذي جرى لي؟"

بكتْ، فتكسرت ألفاظها بين طيات حنجرتها:

" ما انفكتْ رماحهم تنهش في أحشائِكَ."

انتفختْ أوداجُهُ فرقا، فسألها متحريا:     

 " هل أنتِ واثقة مما تقولين."

ردتْ بمرارة اعتصرت كبدها:

- أولادُنا هناك يترقبون اجتياز نعشك من رواق  مستودع الجثث.

تنهد مرتاعا: أتحسس كما لو أن ذاتي تُنتَزَع من ذاتي.

تشابكتْ أصابعهما، وهمهمتْ مكتئبة:

- أضحت روحك الساعة مفارقة لجسدك المسجى في وادي السلام، يرافق جنازتَكَ أولادُنا الأربعة متطوعو الدفن ببدلاتهم البيض وأقنعتهم السود وقفازاتهم الزرق، يتولون مهام تجهيزك من غسل وتكفين وصلاة ومن ثم دفنك في حفرة عميقة  شقت لحدها أسنان جرافة ضخمة.

ما فتئت الأرزاء تعتصر أفئدتهم.. كيف لا وهم يفتقدون أبوين في غضون أقل من شهرين.

اجتذبتْ معصميه إلى صدرها الخافق، مُتأوِّهَة:

" مرأى القبر أفزع روحك.. فهفا جناحيها إلى المقربة من البركة.. كيف تشعر الآن؟"

رد وهو يتلمس ذاته الأثيرية، متحيرا:

" كما لو أنني أنسل من زحام."

أجابته بحبور:

" هكذا هو سفر الصلحاء."

هاج نسيم العشق الأبدي على ربوع فراديسهم، تنفس كلاهما حياة أخرى بهيجة، ماحية دنيا الطغاة والظلمة.

عانقته بحماسة، ثم حملقتْ في قسماته الناصعة، مقهقهة، مشيرة بسبابتها إليه، هاتفة بفرح:

"لقد عادتْ إليك نضارة الشباب."

ضغطها بشدة إلى صدره المفعم بسعير الشوق.. وابتدأتْ أولى رحلاتهما عبر سكك فضاءات الأبدية.

***

قصة قصيرة

القاص: جليل كريم

 

في نصوص اليوم