نصوص أدبية

قصي عسكر: أغلاط إملائيّة

 قصي الشيخ عسكرمن قصصي القديمة

(قبل ثلاثين عاما تقريبا)

 كانت أسوأ ورقة حقّاً !

 الورقة السوداء. الخزي. المهزلة، والصفات والنعوت التي توالت عليها كثيرة!،  ولم تكن أوراقنا نحن التلاميذ متكاملة، فلدينا أخطاء كثيرة أيضا، أمّا ورقة عبد الرحمن، فحدّث ولاحرج ، اقتطعها المعلم من دفتره، وأمر الآذن أن يلصقها في لوحة الإعلانات ليقرأها جميع التلاميذ فيسخروا منها، وعندما خرجنا من الصف مع رنين الجرس وقعت أعيننا على كلمات عجيبة أو لغة ثانية غريبة عنّا "الخرية".. "الإعمار" "الزنا". لقد تفتقت عبقرية عبد الرحمن فحوّل الحرية والاستعمار والزينة والحياة والدولة والعيد إلى كلمات عجيبة غريبة وجعل معلّم اللغة الهاديء الطبع الرزين يزعق ساخرا: الأحرى بهذه الورقة السوداء أن تنتقل من مدرستنا لتحتفظ بها أرقى متاحف العالم.

 حينذاك كنّا في الصفّ الرابع، وفي الفصل الخامس لم تكن أخطاء عبد الرحمن لتغتفر، ففي العطلة الصيفية حدث الانقلاب الجديد، وفرض القادمون نظريتهم الجديدة، أصبحت المناهج الدراسية تعبّر عن رأي الدولة. كتب اللغة والقراءة والإملاء ضمّت النصوص التي تُعنى بفخامته، وبعض الأحيان تحتلّ زياراته لمؤسسات الدولة مواضيع تصبح جاهزة لدروس الإنشاء والإملاء.

 ويبدو أنّ خطأ عبد الرحمن أضحى من الغريب الشاذ الذي لايمكن أن نسمع به، لأنّ المعلّم نفسه لم يعد يجرؤ على التشهير بالورقة العار، ففي ذلك الوقت كان من المحال أن يقرأ على مرآى ومسمع من الجميع عبارة يحوّل فيها الغلط الإملائيّ القائد المجرِّب إلى القاعد الجرب، ولا الصحافة العريقة إلى "صفائح العرق" ولولا محاولتنا نحن الطلاب المشاغبين في السطو على دفتر عبد الرحمن حين خروجه من الفصل للعب في ساحة المدرسة وقراءة مافيه من أغلاط لبقيت أغلاطه خافية عنّا.

 ولم نكن نعرف أنّ الغلط في الإملاء وسلوكنا العفويّ سوف يدخل مدينتنا

الصغيرة الوادعة الأليفة عالم السياسة من أوسع الأبواب شاء أم أبى ذلك

معلّم الإملاء، فتتهم المدينة كلّها بالعصيان.

 الفكرة راودتنا مصادفة، في أثناء عودتنا إلى البيت وجدنا عبد الرحمن يخرج من جيبه قطعة طباشير، ويباشر الكتابة على أقرب حائط كان يكتب الكلمات التي يخطئ فيها وحين سألناه أجاب إنّ الطريق طويل وسوف يكتب جميع الكلمات، وغدا في الصباح حين يأخذ طريقه إلى المدرسة سوف يكتب كلمات جديدة حتى يحفظها عن ظهر قلب.

 استحسنّا فكرته. لعبة جديدة أضفناها إلى ألعابنا هي لعبة الكتابة على

الحيطان. كتبنا كلمات كثيرة "الحرّية" "الوطن" "فخامة" "الحياة" "الاستعمار"، وحلم بعضنا أن يشتري طباشير ذا الوان غير ذلك الأبيض الذي نأخذه أو نسرقه من المدرسة لنكتب به أغلاطنا فيختصّ كلّ منّا بلون.

 وفي الصباح ونحن نغادر بيوتنا إلى المدرسة شعرنا بحركة غير مألوفة سيارات عسكريّة ومسلّحون ينتشرون في الشوارع، عند رأس كلّ حارة تجثم سيارة مصفّحة يربض فوقها عسكريّ يوجه مدفعه باتجاه ما . كانت لعبة جميلة منّا نحن الصغار لم نكن ندري من خرّبها، فقد نامت مدينتا وصحت في اليوم التالي لتجد أنّ الكلمات التي كتبناها على الحيطان انشطرت و انتشرت إلى آلاف الكلمات فغطّت الجدران إلى علو من المحال أن تطاله قاماتنا الصغيرة. كأنّ حيطان المدينة تحوّلت إلى صحف مفتوحة ضاعت بينها كلماتنا التي كتبناها عصر أمس. كلمات كبيرة ربّما نعرف كيف نكتبها لكننا لا نفقه معناها، وكان الرجال المسلّحون يزجرون أيّ عابر يحاول الوقوف ليقرأ ماعلى الحيطان، أمّا نحن الصغار فكنا نحثّ الخطى إلى المدرسة ونحن نتلفت إلى الكلمات البعيدة لعلّ أيّا منّا يعثر على كلمة خطّها هو أو أيّ واحد يوم أمس واندثرت بين آلاف الكلمات التي غصّت بها الجدران.

 

قصي الشيخ عسكر

في نصوص اليوم