نصوص أدبية

حاتم السروي: ذبابة

حاتم السرويإنه العملاق التافه، طويلٌ جدًا، طوله يورثه مهابةً في عيون من لم يعرفوه، متماسك البنية، وأنيق الملبس.. يدخل مقر شركته في الصباح مرتديًا تلك البدلة المثالية لسهرات رجال الأعمال، والنظارة الشمسية تزيد معالم وجهه بهاءً، ثم يمر في صالة الاستقبال بخطواتٍ ثابتة فيتصور بعض العملاء أنه المدير! وما كان إلا موظفًا يقضي معظم السنة بائسًا كئيبًا يئن من كثرة الخصومات. نعم، إنها الحقيقة. كان المدير قصير القامة؛ لا بل هو إلى القِزم أقرب، ورغم هذا لم تفلح عملقة صاحبنا وهيئته اللامعة في زرع الخوف أو المهابة داخل المدير..

- هل لي أن أسأل جنابك لماذا يحلو لك أن تخصم من راتبي المتواضع؟

- هل تعتقد أنني "المدير المستبد"؟؟ هل تتصور أن ميولاً سادية جعلتني أتلذذ بالخصم؟ إنك لا تعرف كم أنا حزين، حزين لأنك لم تفرض عليَّ احترامك ساعةً واحدة، أنت يا شريف غير شريف، تأتي متأخرًا كل يوم، ثم تقضي معظم الوقت في حوارات فارغة مع زميلاتك.. أنت لا تهتم بالعمل، والجميع يعرف مقدار إهمالك، لكنك بارع في ملاحظة قصات الشعر، تعرف ماركات الفساتين وكأنك خياط أو بائع ملابس، بل إنك تعرف عنهن ما يعف لساني عن ذكره حتى عندما أخلو بنفسي، لن أنسى أبدًا حديثك الهامس مع زميلك التافه مثلك حول الموظفة التي استطاعت فراستك أن تلمح ظروفها الشهرية، خيبة الله على أمثالك.

- ولكن جنابك عندما تمر على مكتبي تراني منهمكًا في عملي، لماذا لا تحبني؟

- ليس للخال أن يكره ابن شقيقته، وأنا أعرف ولابد أنك تعرف أن الخال والد، هل تذكر جدك يا شريف؟

- جدي؟؟

- والدي الذي من عرقه تأسست هذه الشركة. هل عبث الحشيش بعقلك إلى هذه الدرجة؟!

- أذكره بالطبع، ولكن ما دخله فيما نحن فيه الآن؟

- لقد أتى من أسيوط وهو شاب نصف متعلم، وكان زملاؤه يتندرون عليه ويحملونه فوق طاقته ويسخرون منه دون أسباب، وإذا عنَّ له أن يأكل معهم سخروا منه حتى تنمحي شهيته ويفقد رغبته ليس في الطعام وحده بل في الحياة أيضًا، ولكنه الصبر. جدك يا شريف علمنا أن الصعيدي ليس غبيًا بطبيعته وأن حِلمَه على الناس لا يعني غفلته عنهم، أما أنت فكان غباؤك مؤسفًا حين تصورت أن تظاهرك بالعمل سيعفيك من العقوبة، إنها شركة يا أفندي وليست تِكِيَّة دراويش.

- لكن يا خالي

- اسمي "مصطفى بيه" أنت هنا في مقر العمل، الخطاب مع مديرك يكون رسميًا ومُقتَضَبًا، ويمكنك أيضًا أن تقول "حضرتك" أو "جنابك" هل فشلت أختي في تربيتك إلى هذه الدرجة؟ اسمع يا ولد، اكتفيت هذه المرة بخصم نصف راتبك، أما المرة القادمة فالعقوبة هي الفصل الكامل، انتهى الحديث، عُد إلى مكتبك.

وبينما كان المدير في ثورة غضبه منهمكًا في توبيخ ابن أخته، ومحاولًا في الوقت نفسه أن يتماسك حتى لا تأتيه ذبحة صدرية، كان "حمار الشغل" كما يحلو لزملائه أن يلقبوه فيما بينهم يعد تقريرًا عن إنجازات الشركة التي ساهم فيها بجهده حتى يسلمه إلى "مصطفى بيه".

مشى بين المكاتب في الطرقة الطويلة ذات السجادة الحمراء فكأنها لسان آدمي ممدود بين مكاتب الموظفين وحين يصل إلى مكتب المدير يخبره بكل تفاصيل العمل وأحاديث الموظفين والعملاء، كان "حمار الشغل" يحث الخطى ويمشي مثل جندي في عرضٍ عسكري، وهكذا اكتسب لقبًا جديدًا بين زملاءه؛ فقد أصبح بفضل الله "الشاويش حمار الشغل" أما هو فكان يسمع هذه الألقاب ويسكت كأن أحدًا لم يقل شيئًا، فزادوه لقبًا جديدًا هو "الشاويش البارد حمار الشغل".

والحق أنه لم يكن موظفًا عاديًا، لا بل لم يكن إنسانًا عاديًا، كان بالأحرى تمثالاً من الشمع دبت فيه الروح، أو آلة تأتيها الكهرباء كل صباح فتعمل حتى منتصف النهار، ثم تهدأ حين تنصرف ثم تصبح في بيتها جمادًا لا تسمع منها إلا صوت السكون، أَوَ ليس للسكون صوت؟.

قدم "حمار الشغل" التقرير وعاد مبتسمًا، وحين لاحظ عليه "شريف" أن الحياة سرت في جسده، وأنه يشعر بالسعادة مثل بقية الناس حين ينجزون ما عليهم، ازداد غيظًا على غيظه، واشتعلت في قلبه نيران الحقد، وأبى عليه الغل الذي تطفح به عروقه إلا أن يدبر له مقلبًا، وكان الجميع ينتظرون أن يكون مقلب "شريف" في "الحمار" كبيرًا، من نوعية فضيحة مالية أو حتى جنسية، لكن شريف لم يخيب أمل "الحمار" وجاء مقلبه تافهًا مثله..

فقط وضع مسمارًا على كرسيه؛ حتى إذا جلس وشعر بالمسمار يقتحم إليَتَه، همَّ أن يصرخ ولكنه تذكر الشمع/البرود/ الصمت المستفز الذي أوصله إلى مكانة مرموقة في شركة ليس فيها إلا حاقد أو حاسد أو معدوم الكفاءة، أو عملاقًا في بلاهته مثل "شريف بيه". صبر على الألم مرغمًا، زمَّ شفتيه وهو يستخرج المسمار من مؤخرته، ثم ابتسم لزملاءه وجلس كأن شيئًا لم يكن، وما كان إلا الضحك، لم يفلح الزملاء في كظم ضحكاتهم هذه المرة، سرت فيهم هستيريا الفكاهة، وصاح أحدهم: "البرود له ناسه" أما "الآنسة ياسمين" صديقة "شريف" فقد غنت بصوتٍ خفيض ملؤه السخرية: "عنده برود أعصاب اسم الله ولا جراح بريطاني".

وحين انكب "الحمار" على أوراق عمله وكأنه لم يسمع شيئًا، جاءته الصيحة الثالثة: "يا عسكري غبي ومابتفهمش وسكتنا، كمان أطرش مابتسمعش" كل هذا وهو يذكر نفسه بالشمع/ البرود/ الصمت المستفز.

وفي نهاية اليوم كانت المفاجأة..

جمع "مصطفى بيه" الموظفين مانحًا كل موظف وجبة من المعجنات و"الباتون ساليه" مع المياه الغازية، وشعر الجميع بالسعادة، وارتقبوا خبرًا مفرحًا، كأن يقول المدير أنه رُزِقَ بحفيدٍ جديد، أو أنه سيعين "شريف" رئيسًا للإدارة التي يعمل بها، لكن "مصطفى بيه" جعل الدهشة والخوف والمفاجأة تعقد ألسنتهم..

نظروا جميعًا إلى "الحمار" بخوفٍ شديد واحترامٍ مفاجئ، لم يعد لسخريتهم أي معنى في هذا الموقف، لقد أصبحت هيبة "الحمار" تنافس هيبة المدير في قلوبهم، ما الذي حدث؟.

لا شيء غير ما تؤول إليه الأمور عادةً إذا سارت بسيرها الطبيعي، لقد أصبح "الحمار" مديرًا للموارد البشرية والعلاقات العامة في الشركة.. "مصطفى بيه" يقدر الجهد والكفاءة، و"الحمار" جعل من لقبه صفة وتحلى بالصبر المثير للشفقة عند البعض والسخرية عند آخرين، أما "شريف" فقد انطفأت جمرة حقده وشملته راحة اليأس.

ملحوظة: اكتسب شريف لقب "سيكو سيكو" منذ أن لمح ذبابة على صدر زميلة فاضلة كانت تقف وحدها في فناء الشركة، وقد أبى عليه حسه المرهف أن يترك الذبابة تعبث بصدر زميلته فقرر أن يدخل معركة مع الذبابة وهو لا يشعر أن الإخوة الموظفين يراقبون شجاعته في الفتك وصبره في القتال، وحين انتصر أصبح لقبه "شريف بيه سيكو سيكو ذبابة"..

تمت

***

 قصة لـ/ حاتم السروي.

 

 

في نصوص اليوم