نصوص أدبية

بسمة الشوالي: ضمير مستتر

في زاوية مضادّة للحياة، حيث تنتشر محاضن تربية البيرانا البشريّة تحت قبّة اللّيل وعلى سطح النهار المتواطئ، كان كومبا الفولانيّ منفيّا إلى ظلمته الغطشاء في قبو فيلّا عيّاش منذ سنة عاتية، محاصرا بالغابة والعزلة والحقن، منزوع الهويّة، سُخرة لألين وأتباعها من القتلة المولعين بالأعمال الخيريّة، بعد أن وشى به أحد التّجار الأفارقة الذي استعان به في محاولته الهرب من تونس عائدا إلى بلده مالي عبر الجزائر.

تهدّم كومبا على الأرضيّة اليابسة كشجرةَ باوْباب ملقاة جانب جذورها، وقد فرغ جوفها من كلّ سكّان ذاكرتها الطّيّبين وحكاياهم وغزتها قوافل النّمل الأحمر..

كان يشعر بهياج الدّبيب في رأسه، بإيقاع القرض المستمرّ ينخر عجُزه، بحوافّ المُدى تقشّر لحاءه الباطنيّ وتلقيه شرائح لحم للدّود..

كان ينتهي بسرعة مقعدة وبهجة ممسوسة. أتمّ توضيبَ رحيله. لم يبق غير أن تأتي السّاعة في موعدها من اكتمال دورة اليأس.

يلاعب في حنوّ أوتار قيتارته، يعدّلها، يقرّبها إلى قلبه، يدسّ سمعه في تجاويف  خشبها المفعم بأسرار الأدغال الإفريقيّة العميقة، يمرّر أصابعه خشنة مسودّة الأظفار على الأوتار، يدندن لحنا جريحا يؤرّخ لكلّ الفرار الذي اشتعل في بطانة قدميه هاربا من الدّقع، والجفاف، والمجاعة، والحروب الأهلية، وذباب تْسِي تْسِي.. من مالي إلى الجزائر فالحدود الغربيّة للبلاد التونسيّة أين أطبقت عليه جمعيّة  "ألينا الخيريّة" القبضة النّاعمة، فأعدّت له وثائق هويّة بصفة طالب إفريقيّ، وصار من أعضائها النّشطين..

عقدان وهم يستثمرون في فقره العريق، ولونه القاتم، ووجوده غير القانونيّ بتونس، ويستغلّونه في ترويج شتّى الممنوعات ممنوعا من الحياة خارج ما يسمحون به..

ثمّ لم يغفروا له نيّة الفرار إلى بلاده.3477 بسمة الشوالي

يعتكر مزاجه القُلّب، يبغي الاضطراب على بقايا عقله المهلهل.. يبكي حينا كطفل مهمل، يخبط فخذيه كأثكل، وبغتة تهْوج الدّواوير الرّمليّة في جوفه المتصحّر فيحلك جلده أكثر، وتحمأ نظرته.. يمض الشرّ أصفر عكرا دَبِقا على سنّه، يكِزّ. يتفتّت الفراغ الحاصب بين فكيّه، ويبقبق الحنق الغالي في ماء عينيه.. يضرب الآلة بجُمع القبضة السّوداء المتصلّبة ويلقي بها شقفا ترتعش على صدره المشقّق الأوتارُ الممزّقة..

ينتفض عن مجلسه، يركل ما يعترضه، يلكم ما يطاله. يخايله السّقوط فيكابد ثم يخرّ مرخيّا روبوتا متفحّما مخلّع البراغي، حياةَ فقدت غايتها الوحيدة..

عربيّه راقصة "AlinaCasino" بهجة عينه الوحيدة، جنيّة الدّفء حارسة الحياة والمياه – كما يحلو له مناداتها- رحلت عنه بلا عودة.. غافلته ورحلت. حين أيقن أنّها صارت إليه وأنّه قد صار له أن يزرع نجمها في ظلمة كفيّه ذهبت عنه. كان يظنّ أنّ البحر فقط من يقدر على إغوائها بالموت فيه.. لكنّها غالطت هذه المرّةَ، قطّعت، في غفلة منه، شرايينها وفتلت منها جسرا إلى السّماء..

هي لم تهبه الحبّ الذي يشاء، لكنّها علّقت  بسمتها المضيئة مصباحا بسقف عتمته، هذّبت برقّتها حوّافه النّابية، عدّلت مزاجه النّزق، وعكست مرآة نظرتها إنسانه جميلا وثريّا وقويّا وحارسا شخصيّا لحسنها وجسدها وضحكاتها وعبثها وثروتها وأسرارها وخيباتها المتفاقمة..

عربيّه عودي إليّ..

يبتهل لبقايا وجهها في أخيلته الممزّقة.. أحبّيني قليلا وانعمي بخيراتي الباطنة ومعادن جسدي الثريّ، خذيني برمّة أحجاري وأتربتي ومياهي الجوفيّة وجمر عينيّ.. مرّري كفّك على سطحي المغبرّ، أُبعثْ لك وحدك أرضا عامرة.. تلنْ على ملامس شفتيك قوارض الجراد، وسموم العقارب، يعذب على صوتك النّباح والنّهيق.. 

عربيّه.. ! لمَ تذهبين بعيدا عنّي.. تعالي واكسري سجني..

أنا في يقطينة معدنيّة مصفّدة بقفل من حديد، واليقطينة في أكمة من تراب، والأكمة في جزيرة، والجزيرة وسط بحيرة مالحة شاسعة ترتفع أمواجها الغضوب جبالا مهلكة، والقفل معلقّ إلى رقبة نجْدو ديوال، أم الكارثة التي تعتاش على أجساد الشّباب الأقوياء.. بناتها سبع شديداتُ حسن يبتن غواني ويصبحن أبكارا، يصدن في كلّ يوم طرائد سبعا أصحّاء، حالما يستسلمون لهنّ، يصلن دماء شرايينهم بقنوات تصريف الدمّ السّريّة تصبّها في عروق أمهنّ النّاشفة.. تشرب العجوز العجفاء دماء الفتية كلّ يوم، فتحيى هي من جديد وتقضي شعوب.. 

العجوز ألين كأمّ الكارثة الشّريرة لا ترضى مثلها حتى تلغ في دماء زكيّة سقطت في مصائدها المبثوثة في كلّ مكان..

لكنّي لن أظلّ هنا، رهْن حبسها هذا حتى تشرب كلّ دمي..

إني آت إليك عربيّه. مرّت أربع سنوات على هجرانك المخادع لي، اليوم يحطّم كومبا سارا الجنيُّ السّجن بنفسه ويقتل الشّر في معقله ويوافيك حيث أنت..

حان الوقت..

قام يستوي قليلا ويكبّ أكثر. سحب دنّ بنزين محشور بين الصّناديق، وأخذ يرشرش مبتهجا منجذبا كلّ ما يعترضه في القبو، ثمّ تسلّل إلى الطابق الأرضيّ يسقيه..

***

فصل من رواية "ضمير مستتر"

لبسمة الشوالي

Villa Ayech – السّوايسيّة

الخامسة مساء بتوقيت غرينيتش

في نصوص اليوم