نصوص أدبية

الحسين بوخرطة: ما ذنبي يا سادة؟

الحسين بوخرطةأمام منزل قروي فسيح، جلس فاروق في يوم حار من أيام نهاية العطلة الصيفية تحت شجرة صفصاف وارفة. تذكر سنه الذي تجاوز الثماني سنوات وَوَضْع هويته ونسبه الغامض. منذ أن فطن دوافع ترديد سؤال جديد على مسامعه من طرف مدير مدرسته، أصبح يتوهم أن كل عيون ناس قريته شاخصة إليه باستمرار، تنبعث من بعضها نظرات شماتة، ومن بعضها الآخر مشاعر الحزن والأسى. انقض على ذاكرته الضجر. تملكه خوف مزمن عن مآل مصير كيانه البريء. تجبرت الرهبة ودبت أوصاله غازية ساعات حياته اليومية. لم يعد قادرا على نسيان ما يعانيه في المدرسة والقرية من توتر بسبب فراغ ملفه المدرسي من اسم عائلي يحدد هويته، ونسب يموقعه في شجرة عائلة معلومة. أصيبت فرائصه بارتعاد متواصل غير مألوف، يجبره كل مرة على الاستسلام للدموع المقرفة. تكدر نور محياه وامتقع، وأصبح يعيش ساعات كل يوم من حياته وكأنها تعادل السنة.

وهو تحت شجرة الصفصاف الباسقة، أحس وكأن إرادة الله ترعاه. انبعث من أعلاها في البداية نغم حمامة محزونة. تحول النغم فجأة إلى لحن ملائكي طروب، يغرد صداه في السماء ذات الزرقة اللامتناهية. غمره الحماس مجددا. دخل في دوامة أسئلة حارقة. من أنا؟ لماذا أنا على تراب وطني بدون هوية رسمية؟ أين أنت يا أمي؟ أتحملت عناء مدة حملي في بطنك، لتتخلي عني انتقاما من مقت حظك البائس؟ وأنت يا أبي النكرة، لماذا استسلمت لرعشة جنسية ناكرا عواقبها؟

تجمدت الدموع بجبروت الأسى في عينيه مثل غيوم تسوقها الريح مقاومة مفارقة المآقي. تصاعد وجيب قلبه منذ أيام باحثا عن منفذ إنساني يحميه من عتمة المصير. توجست نفسه هلعا من غد مجهول المعالم. استدار في اتجاه مجلس كَافِله الحاج علال صامتا واجما. انتصب أمامه بعينيه النجلاوين، يعلوهما حاجبان كثيفا الشعر. خداه الأسيلان غارقان في حمرة الخجل الأخاذ. واجَهَه ببسالة الباحث عن هَزْم الريبة والشك وتوطيد شرعية موقع جديد مأمول: عرفت أنّك بابا الكافِل، وأنتِ ماما الكافِلة. لن أنشغل بالبحث عن أبي وأمي البيولوجِيَيْن. فماذا سأجني من انتهازية رجلٍ وامرأةٍ لا يهمهما إلا رعشة كبرى، أنْكرا بعدها مصير طفل بريء مثلي؟ مدير مدرستي يطالبني بانتظام بشهادة رسمية لميلادي، مُسْتَخْرجة من رسم ولادتي في سجلات وطني. الشهادة الإدارية التوجيهية في ملفي المدرسي ستنتهي صلاحيتُها بعد سنة. أخبرني بصعوبة وضعيتي القانونية في النظام التعليمي لبلادي.

تنهد الحاج علال من الأعماق. أسر له أنه لم يتقاعس يوما في بذل جهود ترسيم كفالته. أُمُّكَ يا فاروق معروفة واسمها سميرة. تَزوجَت بعد إنجابك بسنة. تقطن الآن حيا شعبيا بمدينة وجدة الشرقية. لها أبناء ثلاثة، وتخشى أن يُفْشَى سِرُّها، وتَتَحول إلى ضحية انتقام بَعْلِها. حَمَلَت بك بمدينة غرب المملكة، بعدما غَرَّرَ بعواطفها حَبيبُها. وحَكَت لي أنه ركب مخاطر قوارب الموت، وهاجَر إلى إسبانيا خوفا من تطورات قد لا تحمد عُقباها. كُنا، أنا وزوجتي فاطمة، قد يَئِسْنا في بحثنا عن مولود يملأ حياتنا ألفة وحركة وضجيجا. شاءت الأقدار أن تحولت دَارَتِي إلى حاضِنٍ لأمِّك وأنتَ في بطنها. وَلَدَتْك في ليلة باردة عصيبة. غادرتنا خِلْسَة في الليلة السابعة بدون أن تترك لنا أي اعترافٍ رسميٍّ بوضعيتِك.

منذ ذلك اليوم، كلما فتحتُ ملف إهْمَالِك وكَفَالَتك، تُواجِهني السلطة القضائية بضرورة الإدلاء بمحضر الإهمال الأَوَّلِي أو حُضُور أمك البيولوجية أمام السلطات الأمنية للإدلاء بأقوالها. أعْلَنْت كل مرة للسلطات استعدادي لتقديم تصريح في شَأْنِك، أَتَحَمَّل فيه كل المسؤوليات القانونية، وكذا عواقب التطورات المعاكسة في حالة إخلالي بالقانون. تهاطلت الدموع بغزارة، مبللة محياي، كلما سمحت لي الظروف لأدافع عن قضيتك. حكيت مرارا وتكرارا للمسؤولين الإداريين والقضائيين أن دوافع وجودك في دارتي إنسانية مَحْض، وأن وضعك سليم، وأنك تلميذ مجتهد بشهادة أساتذتك، ولست طفلا مسروقا لوالدين معلومين. للأسف الشديد كانت كل طلباتي تُقَابَل بالرفض، وكلما رُفِض لي طلبا، ازدادت نفسيتي تأزُّما. أتألم كلما مررت أمامي، أو جالستني أو كلمتني.

أبي، لقد حكيت وضعيتي لأساتذتي، ولم أتلق منهم إلا جوابا واحدا: لكل مواطن حق في هوية رسمية محددة ليستمر في الحياة، ويبني مستقبله، ويخدم وطنه. وطلبوا مني الاعتزاز بكينونتي ووجودي مرددين على مسامعي مرارا وتكرارا البيت الشعري "ليس الفتى من يقول كان أبي ... ولكن الفتى من يقول ها أنذا". أما مِن أين أتَى بِكَ الحاج علال؟ فسيبقى مِلْفاً قضائيا وإداريا مفتوحا، قد تترتب عنه إجراءات قانونية حسب مُستَجَدَّاتِه، سَتُضَمَّن، في حالة إقرارها بشكل نهائي، على هامش رسم ولادتك كلما تَعَلَّقَت بَيَانَاتُها بِهُوِّيَتِك.

في مساء نفس اليوم، أخبر الحاج علال رجال ونساء الإعلام في النفوذ الترابي لعاصمة إقليمه. حكى لهم بالتفاصيل المملة قضية فاروق، وقراره الأخير، وطلب منهم الدعم ونصرة هذا الطفل البريء.

استيقظ فاروق باكرا. أخذ حماما ساخنا. لبس أجمل الثياب لديه. سَرَّح شعره بعناية ومَسَّدَه بِمُلَيِّنٍ طبيعي. مَوْعِدُ اللقاء أمام المحكمة الابتدائية على الساعة الثامنة والنصف صباحا. اصْطَفَّ الإعلاميون أمام مدخل المحكمة الرئيسي. قَدِمَ وكيل جلالة الملك ورئيسُ المحكمة في التوقيت الإداري بالضبط. اعترض سبيلهما فاروق مَحْزُون الوَجْهِ، ألقى التحية والاحترام عليهما، وارتمى على أرجلهما متوسلا. أوقفاه المسؤولان القضائيان بتأثر شديد، مُرَبِّتِين على كَتِفِه، ومُبْتَسِمين في وجهه. واجَهَهُما بفقرة مختارة بعناية من تأليف أستاذه في اللغة العربية الشاعر والمفكر علوان. اِنْصَرَفا إليه بِسَمْعِهِما وبَصَرِهِما. اِنْتَصَب أمامهما والثقة تَعُجُّ من عينيه. ابتسم ابتسامة الموناليزا أو الجيوكاندا، ثم قال بنبرة مريحة تبعث الارتياح إلى السامعين : "أنا مغربي بقُوَّةِ حُبٍّ عَارِمَة لوطني. أمي اختفت في الطبيعة حماية لحياتها وحياة أسرتها الجديدة. أبي نَكِرَةُ زَمَانٍ مُغْتَرِبٍ. بلادي بحركتها الفكرية ونظامها السياسي تكدح بحكمة لتحقيق عصر أنوارها، وتمتيع الإنسان المغربي بحقوقه الطبيعية والمدنية والسياسية، وتحكيم العقل في مجال حرية التعبير. بلادي تجاوزت الحاجة إلى أفكار جون جاك روسو، وفولتير صاحب الفلسفة الساخرة، ومنتسكيو صاحب كتاب "روح القوانين". تتحول أفكار مثقفينا الأثيرية إلى أفعال، والدولة بمؤسساتها تقود ثورة صناعية تسعى من خلالها إلى نماء افريقيا وليس استغلالها". سأل المسؤولان القضائيان عن وَلِيِّ أَمْرِ فاروق، وَعُقِدَت جلسة خاصة لهذه القضية".

انتشر الخبر بالصوت والصورة وطنيا وعربيا ودوليا كما تنتشر النار في الهشيم، وتحول ملف فاروق إلى قضية رأي عام كوني.

 

الحسين بوخرطة

 

في نصوص اليوم