نصوص أدبية

ستار البياتي: على أعتاب الخمسين

الى .. صديقي فائز حسين حمودي ..

رفيق رحلة الحياة، ذكرى مجنونة لأيام مضت .

**

وأقولُ على أعْتابِ الخَمسينْ

يا صَديقي ..

هيَ عـندي أحْلى مِنْ كلِّ الكلِماتْ

أسَفـاً ..

ــــــ ليسَ عَـلـيْنا ــــــ

على وَطنٍ ضـيَّعـتهُ الحـروبُ

ولمْ نجْـنِ مِنهُ سِوى الخَـيْباتْ

وعِــشْقاً طفـولياً ..

لحَـبيباتٍ مَجـنوناتْ

والعـمرُ يا صَديقي ..

ما مـرَّ كـقـطارِ المَوصِلِ

ولا تبادلَ العـشِقَ مع القُـرى والمَحـطّاتْ

مِثلَ نَيـزكٍ مُتمـرّدٍ كانْ

لمْ يَكنْ بالحُـسْبانْ

أنْ يُفـلِتَ دونَ جاذبيةٍ

ودونَ أنْ نَدري

تَجاوزَ نبَضاتَ القـلْبِ

وَلمْ يَـتبقَ مِنهُ ..

سِوى ..

ذَوائبَ بيضٍ

وعمراً

أتعَـبتْهُ السّنَواتُ

والذِكـرَياتْ ..

في (دَرابيـنِ عُلـيْباتْ)!

في بَساتيـنٍ تَـنامُ على الضِّفـافْ

وما بينَ النّهـرينِ (كَـرْكَـراتٌ) و (رُفـْرافْ)

قـناطِرٌ تُـرابيةٌ

بَقاياها ..

(دَشاديـشٌ) مُعـفّـرةٌ بالغُـبارْ

وأحْلامُ صِبْـيةٍ صِغـارْ

خَـلّفـت وراءَها ..

بِضْعَ أوْراقٍ بينَ الأدْراجْ

كِتاباً عَلى الـرَّفِ العَـتيقِ

بينَ الانْتِـظارِ وَالاحْتِضارْ

كَأنّهُ عَـقـيـقْ!

جُـعْـنا ..

مزّقَـتْـنا الحَياة

وزّعـتْ أشْلاءَنا على أطْرافِ الدُّنيا

وَما تَفـرّقْـنا

وَما ضيّعـناهُ رغْمَ الضّيقْ

**

ماذا كانَ يَجـري يا صَديق

لو بَقـينا حُـفاة؟

لو بَقـينا عُـراة؟

أما كانَ أجْـدى مِمّا جَـنيناهُ منْ مَسرّاتْ؟

كانت بسماتُـنا تُكحِّلُ النّهارْ

نَقـفِـزُ كالمَجـانين فـوقَ الأنْهارْ

وفي المَساءِ ..

نَترقّـبُ ..

خـلفَ البابِ الموصَدِ

بنتَ الجـيرانِ

بيـنَ الحـيطانِ

تَـتَـسلّى بِضفائِرِها

وَتُكـرْكِـرُ في سـرِّها

على خَـيْباتِـنا!

**

يا صَديقي ..

أتَـذْكُـرُ لقاءاتِنا

في العُـطلةِ الصَّيفـيةِ؟

ـــــ يومي الإثنين والخـميس ـــــ

ثالـِثَـنا كانَ الكِـتابُ

ألمْ يكُنْ مِثـلَكَ خـيرُ جَـليسْ

وأفـضلُ أنـيسْ؟

**

ثُمَّ اقـتـفي بَعضَ آثارِ أقـدامِنا الصَّغـيرةِ

وكـيفَ كُـنّا نَمْسحُ بالأكْـمامْ

ـــــ بعـدَ يَـومٍ مُـرهِـقٍ ـــــ

عَـرقـاً يَـتصَبّبُ

وعُيوناً أتْعـبَتها (اللالات)!

كانَ الفـرحُ

يَتدلّى مِن كُلِّ غُـصنٍ لَمسْناه!

لا آه

في الشِّـفاه المسْكونَةِ بالضَحِـكاتْ

**

أتَـذْكـرُ يا صَديقي ..

كمْ سـرٍّ مَدفـونٍ في ذاكِـرتِكُ مِنّي؟

كَمْ أُمـنيةٍ ..!

كمْ نُكْـتةٍ ..!

كمْ أُمـسيةٍ ..!

كمْ نَـزوةٍ مَجـنونةٍ رويْتُها عـني؟

**

أتـذْكـرُ ..

المُـلتقى - يومُ الجـمعةِ - في مَقهى شاهـينْ؟

وذاكَ الصانعُ الحَـزينْ

يَأتيـنا بالقهـوةِ الحُـلوَةِ

نَقـتَرِحُ له الأدْوارْ!

نلْعـبُ ..

نَضحَـكُ ..

نتـبادلُ الحِـوارْ ..

وبعـدَ أنْ يَنْـتهي المِشوارْ

(فـياضُ)!

يغْـسِلُ (الخالصَ) مِن بَقـايا ذُنوبِنا

بَيْنـما يَدلِفُ (... الطّبْلِ) المَقْهى العَتيقْ

لَيْلاً بِدشْداشَةٍ مُهلَهْلةٍ بِلا عِنْوانْ

بَعْدَ أن تَجرّعَ آخر كَأسٍ للنِسْيانْ

مَعَ بَقايا أغْنيةِ لأمِّ كُلثوم

(ستائِرُ النِسيانْ

نَزلتْ بقى لَها زَمانْ)

وَصاحِـبُه ــــــ ابنُ عَـلوانْ ــــــ

بِلا مَلامِحَ أو ألـوانْ

مُـتّسخٌ ..

تُـلطّخُـهُ الأوْحـالْ!

وفي آخرِ اللّيـلِ الشّـتوي

ثـمِلاً يتـرنَّحُ في الطّرقـاتْ

أنينَهُ نَشيج!

يتـأوّهُ في نفْـسهِ ..

مُدنْـدِنـاً ..

بأغُـنيةٍ حَـزينةٍ

لحَـبيـبتـهِ ، جَـميلةُ الجَـميلات

حُـبّهُ الذي أمامَ عـيْنيهِ

بحـسْرةٍ في ريْعانِ الرَّبيعِ مـاتْ

**

آه لوْ تَـدري يا صَديقي

كمْ يُحْزنُني الحَنينْ!

حينَ يَشدُّني الى ذاكَ الماضيَ الجَميل

كمْ دمْعةٍ تُحْـرقُـني بلا أنيـنْ؟

أتــرانا نـذْرفُها يَوماً

على سَنواتِ عُـمرِنا الذي فاتْ؟

أم نُعـتّـقها منْ جَـديدٍ ..

حُـباً لوَطـنٍ شوّهَ ذِكرياتنا

في غَـفــلةٍ

واغـتالَ أيامَنا الحانياتْ

**

ومنْ عَجـبِ الأقْـدارْ!

أنْ نَبـقى طِوال المَدى

يَأتيـنا الصّدى ..

صَوتُ أعـماقِـنا المبْحـوح

ينْـشِدُ ..

موْطِني!

موْطِني!

في السِّـر والتجَـمّعاتْ

**

عُـذراً يا صَديقي

تلكَ (شخابيط) الذّاكِـرة

بعْضٌ منْ نـزيـفِها

استوْطَنتْـني

وما فارقَـتـني

تلْهثُ وَرائي مَراتٍ ومراتْ ..

تقِـدُّني مِن دُبـرٍ أو قُـبلٍ

لا فَـرقَ عِـندي

دَعْــنا يا صَديقي ..

ونَحنُ على أعتابِ الخـمْسينْ

نَـتسكّعُ صَعالـيكاً على الذّكْـرياتْ

***

د. ستار البياتي

.........................

* من ديواني (تأملات في ذاكرة الوجع)                   

في نصوص اليوم