ترجمات أدبية
مارجا مينكو: العنوان

بقلم: مارجا مينكو
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
سألتُ:
- أما زلتِ تذكرينني؟
نظرتِ المرأة إليّ بتمعن. كانت قد فتحت الباب قليلًا فقط. تقدمتُ ووقفتُ على العتبة، ثم أجابتْ بجفاف:
- لا، لا أعرفكِ.
- أنا ابنة السيدة س.
أمسكت بالباب وكأنها تريد منعه من الانفتاح أكثر. لم يظهر على وجهها أيّ أثر للتعرّف. واصلت التحديق فيّ بصمت.
ربما كنتُ مخطئة، فكرتُ، ربما ليست هي. كنتُ قد رأيتها مرة واحدة فقط، لفترة وجيزة، وكان ذلك قبل سنوات. لعلّي ضغطت على جرس المنزل الخطأ. تركتِ المرأة الباب وتنحّت جانبًا. كانت ترتدي سترة أمي الصوفية الخضراء. أزرارها الخشبية باهتة قليلًا من كثرة الغسيل. رأت أنني أحدّق في السترة، فاختبأت جزئيًا خلف الباب من جديد. لكنني عرفتُ الآن أنني على حق.
سألتُ:
- إذن، كنتِ تعرفين أمي ؟
قالت المرأة:
- هل عدتِ؟. ظننتُ أن لا أحد عاد.
- فقط أنا.
انفتح باب وأُغلق في الممر خلفها، وانبعثت منه رائحة عفنة.
قالت:
- يؤسفني أنني لا أستطيع أن أفعل شيئًا لأجلكِ.
- لقد أتيتُ خصيصًا بالقطار. أردتُ التحدث معكِ قليلًا.
قالت المرأة:
- الوقت غير مناسب الآن. لا يمكنني استقبالك يمكن في وقتٍ آخر.
أومأت بحذر وأغلقت الباب كما لو أنها لا تريد إزعاج أحد داخل المنزل.
ظللتُ واقفة على العتبة. تحرّكت الستارة أمام النافذة البارزة. كان أحدهم يحدق بي ولا بدّ أنه سأل عما أريده. "لا شيء،" لابد أن المرأة أجابت. "لم يكن شيئًا."
نظرتُ مجددًا إلى لوحة الاسم. مكتوب عليها "دورلينج" بحروف سوداء على خلفية بيضاء. وعلى عمود الباب، أعلى قليلًا، كان الرقم. الرقم 46.
بينما كنتُ أمشي ببطء عائدةً إلى المحطة، فكرتُ في أمي التي أعطتني العنوان قبل سنوات. كان ذلك في النصف الأول من الحرب. كنتُ في المنزل لبضعة أيام ولاحظتُ على الفور أن شيئًا ما في الغرف قد تغير. افتقدتُ عدة أشياء. اندهشت أمي لأنني لاحظتُ ذلك بهذه السرعة. ثم حدثتني عن السيدة دورلينج. لم أكن قد سمعتُ بها من قبل، لكنها على ما يبدو كانت من معارف أمي القدامى، ولم تلتقِ بها منذ سنوات. ظهرت فجأةً وجددت الاتصال. ومنذ ذلك الحين، بدأت تزورنا بانتظام.
قالت أمي:
- في كل مرة تغادر فيها هذا المكان، تأخذ شيئاً معها. أخذت كل أدوات المائدة الفضية دفعة واحدة. ثم الصحون الأثرية التي كانت معلقة هناك. وقد واجهت صعوبة في حمل تلك المزهريات الكبيرة، وأخشى أن ظهرها قد تأذى من أواني الخزف.
هزت أمي رأسها بحزن.وتابعت:
- لم أكن لأجرؤ على طلب ذلك منها. هي من اقترحته عليّ بنفسها. بل أصرت على ذلك. كانت تريد إنقاذ كل أشيائي الجميلة. قالت: إذا اضطررنا لمغادرة هذا المكان، سنخسر كل شيء.
سألتها:
- هل اتفقتِ معها على أن تحتفظ بكل هذه الأشياء؟
صاحت أمي:
- وكأن الأمر يحتاج إلى اتفاق! سيكون إهانة صريحة أن نتحدث بهذه الطريقة. وفكري في المخاطر التي تتعرض لها في كل مرة تغادر فيها بابنا بحقيبة أو شنطة ممتلئة.
بدا أن أمي لاحظت أنني لست مقتنعة تماماً. نظرت إليّ بتأنيب، ومنذ ذلك الحين لم نتحدث كثيرا في هذا الموضوع.
في هذه الأثناء، وصلت إلى المحطة دون أن أعر الكثير من الاهتمام لما حولي في الطريق. كنت أسير في أماكن مألوفة لي لأول مرة منذ الحرب، لكنني لم أرغب في الذهاب أبعد مما هو ضروري. لم أرد أن أزعج نفسي برؤية الشوارع والمنازل المليئة بذكريات من زمن عزيز.
في القطار أثناء عودتي، رأيت السيدة دورلينج مرة أخرى أمام عينيّ كما كانت في المرة الأولى التي التقيتها فيها. كان ذلك صباح اليوم التالي لليوم الذي حدثتني فيه أمي عنها. استيقظت متأخرة، وبينما كنت أنزل الدرج، رأيت أمي تودع أحداً. امرأة ذات ظهر عريض.قالت أمي:
- هذه ابنتي.
وأشارت لي أن أقترب.
أومأت المرأة برأسها والتقطت الحقيبة الموجودة تحت حامل المعاطف. كانت ترتدي معطفاً بنياً وقبعة غير متناسقة.
سألتُ وأنا أراها تعاني في حمل الحقيبة الثقيلة عند خروجها من المنزل:
- هل تسكن بعيداً؟
أجابت أمي:
- في شارع ماركوني. الرقم 46. احفظي هذا العنوان.
***
كنت قد تذكرتُ العنوان. لكنني انتظرت وقتًا طويلًا قبل الذهاب إلى هناك. في البداية، بعد التحرير، لم أكن مهتمةً البتة بتلك الأشياء المخزونة، وبالطبع كنت خائفةً منها بعض الشيء. خائفةً من مواجهة أشياء كانت تنتمي إلى ماضٍ لم يعد موجودًا؛ أشياء مُخبأة في الخزائن والصناديق تنتظر عبثًا أن تُعاد إلى أماكنها الأصلية؛ أشياء صمدت طوال تلك السنوات لمجرّد كونها "أغراضًا".
لكن شيئًا فشيئًا، عاد كلّ شيء إلى طبيعته. أصبح لون الخبز أفتح، ووجدت سريرًا يمكن النوم فيه دون خوف، وغرفةً بإطلالة اعتدت عليها يومًا بعد يوم. ثمّ في أحد الأيام، لاحظت أن الفضول بدأ ينتابني حيال تلك الممتلكات التي لا بدّ أنها ما زالت في ذلك العنوان. أردتُ رؤيتها، لمسها، تذكّرها.
بعد زيارتي الأولى الفاشلة لمنزل السيدة دورلينج، قررت المحاولة مرة أخرى. هذه المرة، فتحت الباب لي فتاة في الخامسة عشرة تقريبًا. سألتها إن كانت أمها في المنزل. أجابت:
- لا، والدتي في مهمة.
قلت:
- لا بأس، سأنتظرها.
تبعْتُ الفتاة عبر الممر. كان هناك حامل شموع حديدي عتيق الطراز لعيد الحانوكا معلقًا بجانب مرآة.لم نكن نستخدمه أبدًا لأنه كان أثقل وأكثر تعقيدًا من الشمعدان العادي.
سألت الفتاة:
- ألا تفضلين الجلوس؟
فتحت باب غرفة المعيشة وأدخلتني أمامها. توقفتُ، مذعورة. كنتُ في غرفة أعرفها ولا أعرفها. وجدتُ نفسي محاطة بأشياء كنتُ أرغب حقًا في رؤيتها مجددًا، لكنها ثقلت عليّ في تلك الأجواء الغريبة. ربما بسبب الطريقة العديمة الذوق التي رُتّبت بها كلّ الأشياء، أو بسبب الأثاث القبيح، أو الرائحة العفنة التي علقت في المكان، لا أعرف؛ لكنني بالكاد تجرأت على النظر حولي. حركت الفتاة كرسيًا. جلستُ وحدقتُ في مفرش المائدة الصوفي. مرّرت يدي عليه. شعرتُ بدفء في أصابعي من فرك القماش. تتبعتُ خطوط النقوش. في مكان ما على الحافة، يجب أن تكون هناك علامة حرق لم تُصلح أبدًا.
قالت الفتاة:
- ستعود أمي قريبًا. لقد أعددتُ لها الشاي. هل ترغبين في فنجان؟
- شكرًا لك.
رفعتُ نظري. وضعت الفتاة الأكواب على طاولة الشاي. كان لها ظهر عريض، تمامًا مثل أمها. سكبت الشاي من إبريق أبيض، لم يكن عليه سوى إطار ذهبي حول الغطاء، كما تذكرت. فتحت صندوقاً وأخرجت منه بضع ملاعق.
- هذا صندوق جميل.
سمعتُ صوتي. كان صوتًا غريبًا، كما لو أن كل نبرة بدت مختلفة في هذه الغرفة.
- أوه، هل تعرفين هذه الأشياء؟
استدارت نحوي وقدّمت لي الشاي. ضحكت.
- تقول أمي أنها تحفٌ قديمة. لدينا الكثير منها.
أشارت حول الغرفة.
- يمكنكِ أن تري بنفسك.
لم أكن بحاجة إلى متابعة إشارتها. كنت أعرف أيّ الأشياء تقصد. نظرتُ فقط إلى لوحة الطبيعة الصامتة المعلقة فوق طاولة الشاي.
عندما كنت طفلة، كنت دائمًا أتخيل نفسي آكل التفاحة المرسومة على الطبق القصديري.
قالت:
- نستخدمها لكل شيء. ذات مرة أكلنا حتى في الصحون المعلقة على الحائط. كنتُ أرغب في ذلك كثيرًا. لكنها لم تكن تجربة مميزة.."
وجدتُ علامة الحرق على غطاء الطاولة. نظرت الفتاة إليّ متسائلة.
قلت:
- نعم، نعتاد لمس كل هذه الأشياء الجميلة في المنزل لدرجة أننا بالكاد ننظر إليها. لا نلاحظ إلا عندما يفقد شيء ما، لأنه يحتاج إلى إصلاح أو لأننا أعرناه لشخص ما، مثلًا."
مرة أخرى، سمعتُ ذلك الصوت غير الطبيعي لصوتي، ثم أكملت:
- أتذكر أن أمي سألتني ذات مرة إن كنتُ أرغب في مساعدتها في تلميع الفضيات. كان ذلك منذ وقت طويل، وربما كنتُ أشعر بالملل ذلك اليوم، أو ربما كنتُ مضطرة للبقاء في المنزل لأنني كنت مريضة، فهي لم تطلب مني ذلك من قبل. سألتها أي فضيات تقصد، فأجابتني باستغراب: 'الملاعق والشوك والسكاكين، بالطبع'. وكان هذا هو الأمر الغريب: لم أكن أعرف أن أدوات المائدة التي نأكل بها يوميًا كانت من الفضة."
ضحكت الفتاة مجددًا.
قلتُ وأنا أحدق فيها:
- أراهن أنكِ أنتِ أيضًا لا تعرفين.
سألت:
- أدوات الطعام التي نستخدمها؟
- حسنًا، هل تعرفين؟
ترددت قليلًا، ثم مشت نحو خزانة الطعام وحاولت فتح أحد الأدراج.قالت:
- سألقي نظرة. إنها هنا.
قفزت واقفة:
- لقد نسيت الوقت! لا بد أن ألحق بالقطار.
كانت يدها على مقبض الدرج. قالت:
- ألا تريدين انتظار أمي؟
- لا، يجب أن أذهب.
مشيت نحو الباب، وسحبت الفتاة الدرج.
قلتُ:
- أعرف الطريق.
وبينما كنتُ أعبر الممر، سمعت رنين الملاعق والشوك.
***
عند ناصية الطريق رفعتُ رأسي لأقرأ لافتة الاسم. مكتوبٌ عليها: شارع ماركوني. كنتُ في المنزل رقم ٤٦. العنوان كان صحيحًا. لكنّي لم أعد أرغب في تذكّره الآن. لن أعود إلى هناك، لأنّ الأغراض التي ترتبط في ذاكرتك بالحياة المألوفة للأيام الخالية تفقد قيمتها فورًا حين تراها مجدّدًا في بيئة غريبة، منفصلة عن تلك الذكريات. وماذا عساي أن أفعل بها في غرفة مستأجرة صغيرة، حيث ما تزال بقايا ورق التعتيم الأسود معلّقة على نوافذها، ولا يتسع درج الطاولة الضيق لأكثر من بضع قطع من أدوات المائدة؟
عقدتُ العزم على نسيان ذلك العنوان. من بين كلّ ما كان عليّ نسيانه، كان هذا هو الخيار الأسهل.
(تمت)
***
.......................
الكاتبة: مارجا مينكو/ Marga Minco (اسم مستعار لسارة مينكو، ٣١ مارس ١٩٢٠ - ١٠ يوليو ٢٠٢٣) صحفية وكاتبة هولندية. نشأت مينكو في مدينة ذات أغلبية كاثوليكية، والتحقت بمدرسة حكومية للبنات في بريدا، حيث شعرت بالحرج بسبب هويتها اليهودية. في سن الثامنة عشرة، بدأت العمل كصحفية في الصحيفة المحلية. من أبرز أعمالها: العشب المر - سردية صغيرة (1957). العنوان (1957). الجانب الآخر (مجموعة قصصية) (1959). نقيضان (مع بيرت فوتن) (1961). ألقِ نظرة في الدرج (1963).المنزل المجاور (1965).العودة (1965). منزل فارغ (1966). اليوم الذي تزوجت فيه أختي (1970). السيد فريتس وقصص أخرى من الخمسينيات (1974). يمكنك أن تتحدث عن الحظ (في "بولكبويك 46") (1975). العنوان وقصص أخرى (1976) وغير ذلك من القصص والمقالات.