نصوص أدبية
مامند محمد قادر: هناك.. عند تخوم الغياب

لم يعرف أحد كيف بدأ الموكب. لم تُقرع طبول، ولم تومض في الأفق إشارة، ومع ذلك تحرّك الجميع كما لو أن نداءً صامتًا عبر صدورهم أوحى إليهم بشيء خفيّ، أو أيقظ فيهم حاجة نائمة.
كان الطريق باهتًا، بلا ملامح، كأن الأرض نفسها قد نسيت ملامحها الأولى. لم تكن السماء غائمة فحسب، بل كأنها تنقّب في ذاكرتهم عن ملامح قد طمستها السنوات. وجوههم كأنها ظلال، وخطواتهم متثاقلة، تحمل في أعماقها حكايات لم تجد يومًا من يصغي لها.
قادتهم ريح، كانت كنسمة هادئة، ولكن في رقتها عاصفة نائمة. كانت تمرّ بينهم بخفة، كذكرى قديمة، كخيط ضوء نجا من حلم لم يكتمل. حاملة معها رائحة أحلام انقطعت قبل نضجها، صدى ضحكات خبأها الخوف، أمنيات نائمة في قاع القلب.
كلما عبرت الريح أرضًا، تناثرت خلفها صور: طفلة تلاحق فراشة من نور وتذوب في العتمة، امرأة تحتضن وشاحًا كأن فيه بقايا دفء غائب، ظلّ إنسانٍ ينحني نحو الأرض، كأن نداءَ يتوغل إلى عمقها بلا كلمات.
لم تقل الريح شيئًا، لكنها طرقت أبوابًا نسيها الزمن. كل نسمةٍ منها كانت ككفٍ خفية تمرّ على الذاكرة، تُزيح عنها رماد الصمت، وتبعث فيها نبضًا خافتًا. لم تُرَ، لكنها كانت تزداد وضوحًا كمن يهمس للجميع: أنا هنا.. معكم.. منذ البداية. على طول الطريق، سُمعت ضحكة بعيدة تلامس الأذن، ورُصد صوت ينبُت من التراب كأنه نبتة أمل خجولة. مقعد خشبي صغير اهتز من تلقاء نفسه، كما لو أن أحدًا غادره منذ لحظات وترك دفء غيابه وراءه.
فوقهم، بدأت السماء تتلألأ. لم يكن ضوءًا، بل نبضًا خفيًا، كأن السماء بدأت تتذكّر نفسها.
بدأت العيون تلمع، والملامح تهدأ. بدا عليهم وكأنهم بدأوا يصدّقون بأن التحول ممكن.
ومع كل نسمة، كانت طبقات الغياب تذوب عن وجوههم. الاشتياق خفّ حمله، والحزن تحوّل شيئًا فشيئًا إلى هدوء ناضج، كما لو أن الريح صارت مرآة تعكس أرواحهم، لا أجسادهم.
كان في الهواء عبير المطر قبل أن يهطل، وفي التراب نبضٌ دافئ، وفي الأفق... خيط من نور، لا اسم له. لم يكن شروقًا صريحًا، ولا ذكرى واضحة، بل احتمال لحياة جديدة لم تبدأ بعد.
وعند تخوم الأرض التي لم يطأها النسيان، توقفت الريح كنغمة أخيرة في لحنٍ طال انتظاره. فتوقفوا معها. بعضهم تمدّد على الأرض، كأنما بلغ أخيرًا حضنًا لطالما انتظره، وبعضهم أغمض عينيه كمن يصغي لقلبه للمرة الأولى. وابتسم أحدهم، وقال بصوت يشبه الحنين، كأن شيئًا فيه عاد إلى الحياة:
"لعل الريح لم تكن تقودنا إلى مكان... بل كانت تعيدنا إلى أنفسنا."
ثم عمّ صمت مختلف، ليس خلوًا، بل انكشافًا. كأن الزمن انحنى لحظةً، لا لينظر إليهم كما كانوا، بل ليلمس ما صاروا إليه. وكأن الريح، بعدما سكنت، تركت في كلٍّ منهم ومضةً لا تُطفأ.
لم يبق في الأفق سوى خيط خافت. فانتظروا.. محدقين في درب، حيث تبدأ الألوان..
***
قصة قصيرة
مامند محمد قادر - شاعر وقاص عراقي كوردي