نصوص أدبية

ناجي ظاهر: قلب الفراشة

ابتدأت القصة ضحك بلعب. سألتني ابنتي رماح ونحن نقترب من عيادة الطبيب:

- هل أنت واثق من أنني سأطول؟

- بالطبع ستطولين، أنت ما زلت في الرابعة عشرة. أنا واثق من أنك سوف تطولين، قرأت عن هذا في كتاب طبي، الإنسان يطول طوال أيام حياته لكن بتباطؤ يقلّ تدريجيًا حتى يتوقّف أو يكاد في مرحلة مُتقدمة من العمر. ثم إنك لست قصيرة إلى حدّ مُقلق.

- أبي لا تَقُل هذا. أنت تهتم بالكتب. لست طبيبًا على أية حال. كم أحبّ أن أطول ولو بضع سنتمترات، يقولون إنني جميلة لولا أنني قصيرة قليلًا.

أرسل نظرة أبٍ مُحبٍّ طالما أرسلتُها إليها، أقول في سرّى: كم أنت جميلة يا رماح. أغمض عينيّ أراها وهي تقف قُبالة مرآة والدتها في غرفة النوم، كان هذا قبل أيام، كانت تمشّط شعرها، ما إن فتحت عيني حتى رأيتها تمشّط شعرها الأسود المسترسل، كم أنت جميلة يا ابنتي، الحمد لله أنك ولدت لنا، لتضحي قمرًا مُقيمًا في بيتنا. أتصوّرها ترشّح نفسها ملكةً للجمال فيدق قلبي بسرعة غير معتادة.

أسرح في أفكاري تلك، تجلس هي إلى جانبي على مقعد الانتظار، لا يُخرجني من تجوالي في عالمي الرحب الجميل سوى انفتاح باب الطبيب. رماح؟ رماح هنا؟ نرد، أنا وهي بصوت واحد: نعم رماح هنا.

يدعونا الطبيب للدخول، نعم يا رماح، تريدين أن تطولي؟ سيكون لك هذا. لا تقلقي. هناك أكثر من طريقة لتطولي. لا تقلقي. أرى على وجهك الجميل قلقًا. لا تقلقي لديك والد كاتب مشهور وتقلقين؟ لا تقلقي. الآن سأجري لك بعضًا من الفحوص اللازمة، سأصور يدك، كي نفحص ونقارن بعد فترة. هناك فحوص روتينية سنجريها كي نوفّر لك الإمكانية لأن تطولي كما تشائين.

يطلب الطبيب منها أن تسترخي على سرير الفحص الطبّي، تسترخي هناك. يشرع في إجراء الفحوص لها. بتوقّف. يواصل. ثم يعود للفحص، يهز رأسه.

يتوجّه إليّ وهو يحمل بيده سماعَته الطبية. هل سبق وقمتم بفحص لها؟ أبقى صامتًا لا أردّ.. أريد أن اعرف سبب السؤال، يوجد خشّة في قلبها. هل سبق وعلمت بها؟

خشّة؟ في قلبها؟ أتوه في عالمٍ من الصمت. لا أفوه بأية كلمة. أخشى أن يقول لي كلامًا مُرًّا لا أتحمّله فأسقط من فوري. أشعر بقلبي يغادر موقعَه. يخرج ..يبتعد بضع سنتمترات عن صدري. أحضن قلبي بيدي، حتى لا يسقط على أرضٍ لا ترحم. أغمض عينيّ. أغلق عالمي على ما حلّ به من خراب. لا أريد أن اسمع أكثر. لا أريد ..لا أريد. لن أسألك أيها الطبيب المُدواي المزيد. ما دام الأمر وصل إلى القلب لماذا أسألك المزيد. أرسل نظرة آسية إلى رماح أما كان بإمكانك أن تقبلي البقاء قصيرة وتسليم أمرك لطبيعتها، أما كان بإمكانك يا روحي أن تقومي بكلّ ما قمت به؟ آه لو لم أوافق وأصطحبك إلى الطبيب.. آه.

أحمل قلبي بين يديّ. أمشي وتمشي في الأرض، تمشي رماح إلى جانبي، كأنما لم يحدث شيء، وكأنما الطبيب لم يفجّر قنبلة ذرية في وجهى، أوصل رماح إلى البيت. وآخذ في الجري، أجري وأجري وأجري، أردّد بصوت يكاد يختنق، إجري إجري إجري، ودّيني قوام وصلني، دا حبيب الروح مستني. نعم يا عبد الوهاب دا حبيب الروح مستني.

أركض في الشوارع، لا أستوعب ما حصل. لا أريد أن أستوعبه. خشّة في قلبها يا دكتور؟ لم تأت الخشّة إلا في قلبها؟ خلص انتهت رماح؟ انتهى الحُلم الجميل؟ وصلنا إلى البدر في اكتماله ليفارقنا؟ خلص انتهت الرحلة بهذه السرعة؟ وغدًا لن ترسل رماح شعرها قُبالة مرآة والدتها ولن تكون بيننا؟ يمكن أن يحصل هذا؟ بهذه السرعة؟ بهذه السهولة يحصل الكدر؟ أما كان أفضل لي لو لم أرافقها إليك؟

أفتح عينيّ لا أرى سوى العتم. أركض في الشارع وقلبي بين يدي.. لا يريد أن يعود إلى موقعه، لا أرى سوى الصحراء والقحل حولي. ها أنذا أصل النهاية.

ماذا بإمكاني أن أفعل أنا المهجّر المُعذّب؟ ماذا بإمكاني أن أفعل سوى الركض، فلعلّي أصل إلى حلّ؟ تطلّ الحيرة من عيني. يراها الأحباء. يتساءلون ويمضون. وماذا يفيد لو أنني أعدت أمامكم ما قاله الطبيب، هل سيتغير شيء؟ ستشفقون علىّ؟ لا أريد الشفقة، إذا كان بإمكانكم أن تزيلوا الخشة من قلب رماح، سأتحدث أما إذا كنتم عاجزين مثلي، فلماذا أفتح دفتر قلبي وأبوح بسرّ حزني؟

أعود في ساعة متأخّرة من الليل، أرسل نظرة إلى وجهها وهي نائمة في غرفتها، آه يا ملاكي ماذا حلّ بك وبي، غدًا أو بعد غد قد أبحث عنك فلا أجدك لأنك غادرت إلى عالمك الآخر.. عالم الظلام، ماذا ترى بإمكاني أن افعل وهل أنا أشطر من شاعرنا المتنبي؟ المتنبي حين وقف عاجزًا أمام حالة مشابهة، فخاطب عزيزته الراحلة قائلًا: هبيني أخذت الثأر فيك من العدا فكيف بأخذ الثأر فيك من الحمى؟ قاتل الله الحمّى، وقاتل الله الخشّة حين تغزو قلب من نُحب وتهوى قلوبنا.

أصعد في الليل إلى تلّ الصرخات، لعلّ أحدًا يستمع إلى نداي، أصرخ يردّ الصدى. ويل لهم قالوا لي إقرع يُفتح لك هذا أنا أحمل قلبي وأقرع، إلى متى سيطول هذا العذاب؟ أما آن لي أن أرتاح؟ أما آن لي أن أفيق لأجد أن ما كان لم يكن سوى وهم، كابوس مزعج مضى ومرّ، كما يمرّ الظلام على البسيطة؟ أما آن؟

يمرّ الليل الأول وأنا اصرخ، أعرف أن هناك من سيستمع إلى صراخي، والله انني أعرف لكن إلى متى سأنتظر؟ وما هو المطلوب مني؟ ما هو المطلوب منّي لأخرج بأقل ما يمكنني من خسارة، كما فعلت دائمًا؟ أنا الرجل المهجّر، أعرف حين أشعر بالخسارة أنني يجب أن أدفع نصيبي فيها. قد يكون هذا النصيب من المعرفة موروثًا. أبي حينما أدرك أن الخسارة طرقت أبوابه، وأن اليهود جاؤوا بدبّاباتهم وطائراتهم ليستعيدوا ارض الميعاد من سكانها الأوباش العرب، سلّم أمره، ومضى يضرب في أرض الله الضيقة، هاربًا من اليهود. لم أكن حينها ولدت، لهذا لم أره، أما اليوم وقد أضحيت كاتبًا وذا خيال خصب كما يقول معظم المحبّين وهم ليسوا قلة، فإنه بإمكاني أن أتصوّر أبي وهو يمسك بيد أخي الأكبر ويستحثه قائلًا هيّا يا ولدي لننجو بجلدنا، البلدة ذهبت على الأقل نبقى نحن حتى لا يضيع الحلم ويتلاشى في عتمه. لا لن أخسر المعركة يا أبي. سأبذل مثلما بذلت سأحمل رماح بأسناني، سأطير بها إلى عوالم لا مرض فيها ولا احتمالات موت، لن أدع الموت يأخذها منّي كما أخذوا منك بلدتك، سأطير بها. لكن أين ستطير يا ولدي؟ السماء ضيّقة. سأطير يا أبي هذا الضيق في سمائنا سيكون كافيًا لأن أحلّق بها وأطير عاليًا. لا تطر يا ولدي، الأفضل لك أن تواصل صراخك على تلك.

أعود في الليل التالي. حاملًا قلبي وحزني، أعود إلى الصراخ، لا أحد يردّ، في الليل الثالث، أواصل الصراخ، يـُطلّ جنيّ من سُدف العتم، لقد أقلقتني. السمك نام في البحر وأنت لم تنم؟ ماذا تريد؟ الخشّة في قلب رماحك تصيب ثلاثة أرباع الأطفال، عندما تطول ابنتك وتكبر قليلًا ستذهب الخشّة وستولّي أثارها، نم الآن ودعني أنام، ثلاث ليالٍ وأنا لا أنام، دعني على تلّتي أهيم.

تنتابني سكتة مَن نفد بجلده، مَن أدرك أن الخسارة المحتّمة باتت وراءه وليس أمامه. يعود قلبي إلى موقعه بين أضلعي، أمشي بسرعة أسرع أكثر فأكثر تنبت لي أجنحة فأطير باتجاه البيت، أقف على شبّاك غرفة رماح، أرسل إليها نظرة استطلاع. أراها تبتسم، ما أجمل البيت بلا خوف أو مرض.

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم