نصوص أدبية

ناجي ظاهر: التهجير الأكبر

عبثًا حاول أن يجذب النوم إلى عينيه، صورة ابنته صغنونته حبيبته الابدية لم تترك فضاء للنوم. كلّ محاولاته ولّت سدى. في الماضي كان يعرف كيف يجذب ملك الكرى إلى عينيه، صحيح أن جلبَه هذا للنوم كان يحتاج إلى مجهود ما، إلا أنه كثيرًا ما كان يوفّق في مسعاه. أما في الحاضر المُرّ، في هذه الليلة تحديدًا، هذه الليلة المُرّة كالحنظل، فقد بات جاهلًا لا يعرف "وين الله حاطه". في البداية سحبت رفيقة دربه البساط من تحت قدميه ليجد نفسه بعيدًا عن أحبائه فيه، وها هي تبلغ ذروة تعذيبها له فتطرد ابنته الصغيرة من بيتهما المشترك في الامس، بيتها وحدها اليوم!!.

يُرسل نظرة حائرة مُمرّرًا إياها في جميع أنحاء غرفة الاستقبال. منذ وجد نفسه مُهجرًا ووحيدًا هو وكتبه وحاسوبه في شقته القصيّة القديمة، وهو ينام في هذه الغرفة. هجر تلك الغرفة التي كانت أيام عزّها، مخصّصة للنوم إلى جانب زوجته، بعد أن استقلت بشقتهما الجديدة، رافضة متابعة حياتها معه، كما هجر غرفة الاولاد، هو لا يتحمّل رؤية أسرّتهم فارغة فيها.

إحساس بالاختناق يجتاح حلقه، ما الذي يحدث معه؟ ترى أيكون مجرّد كابوس سيفيق منه ذات يوم ليواصل حياته مع اسرته، زوجته وابنائهما، مجدّدًا؟. احساسه هذا يحمله إلى الشبّاك المُطلّ على الاشجار المسترخية في عتمة الحديقة المحاذية لبيته، هناك يخيّم ظلام صامت. يُنعم النظر لعله يرى ما يتحرّك هناك في قلب الليل. ينتظر طويلًا إلا أن شيئًا لا يتحرّك. الليالي السابقة الطويلة، خلال ما يربو عن الخمسة أعوام، من البُعد القسري عن شقته الجديدة، وإقامته في هذه القديمة، علّمته أن الليل بهيم لا يفهم، وأنّ ما ينتظره من شعاع لا يبزغ.

يعود إلى سريره. ماذا تراه يفعل؟ ما يواجهه فوق طاقته. في الماضي البعيد، يوم جاء من حي الصفافرة إلى هذه الشقة في "نتسيرت عيليت"، للاقامة فيها، أحس أن امرًا جللًا سيحدث. كان حينها خائفًا على ابنه، ابن الخمسة أعوام، فربّما اختطفه مجنون ما، او ربّما دهسته سيارة عابرة "ولا على بالها". هو لم يُخفِ خوفه يومها على ابنته الصغير حبيبته الابدية، كانت آنذاك صغنونة تبتسم له فيبتسم العالم. بعدها مضت السنوات ليكتشف أن خوفه لم يكن في مكانه، وأنه كان ينبغي أن ينتبه لأن الخطر من مأمنه يأتي. لم يكن يتوقّع ولا في اسوأ تخيّلاته، أن يدخل عليه الخوف من باب زوجته حبيبته ورفيقة دربه خلال ثلاثة عقود من الزمن، غير أن هذا ما حصل. هو الآن، في هذا الليل، لا يريد أن يتذكّر الماضي، لا يريد بالمرّة، فالماضي بات وراءه، بنكباته المتلاحقة وخسائره الفادحة، وأمامه حاضر يحتاج إلى المزيد من الحذر، وإلا فإن الخسائر ستتواصل حتى تقضي على قلبه المُتعَب، وتُجهِز بالتالي على وجوده، فيعود إلى ظلام جاء منه.

" لا هذا لن يكون" قال وهو يشدّ يده على حديد الشباك.

لا، لا يمكن أن يكون. هو سيخرج بأقل ما يمكن من خسارة. الهزائم المتتالية منذ ولد، مهجرًا ابنًا لمهجّر، حتى كهولته اليوم، علّمته أن الشَجاعة صبر ساعة، وأن مَن يصبر أكثر تكون له الحظوة في مملكة الامل، لكن كيف يصبر وقد عَلم صباح اليوم، أن ابنته الصغنونة محبوبته الابدية، تقيم عند أختها، بعد أن طردتها والدتها من بيتها؟ كيف سيصبر وهو لا يعرف ماذا يفعل... كان آخر ما توقّعه، حين تلفن لابنته الكبرى صباح اليوم، أن تسأله عمّا إذا كان يريد أن يطمئنّ على شقيقتها الصغرى. لهذا كاد يُهيئ نفسه لنكبة جديدة، وسأل ماذا بها اختك؟ فردّت ابنته الكبرى، اعتقدت أنك تعرف ان أمي طردتها من البيت وهي عندي في بيتي منذ يومين. عندها فقط شعر بأنفاسه تعود إلى أنفه وفمه، غير أنه ما إن أعاد سماعة التلفون إلى مكانها حتى راح يتساءل عمّا يمكنه أن يفعل لإعادة ابنته إلى بيتها. في نهاية تساؤلاته كان لا بدّ من أن يقرّر: بما أنه ليس في البيت ولا يستطيع أن يقترب منه جراء تهديدات قاهرته.. رفيقة دربه بالشرطة والثبور وعظائم الامور، فإنه يترتب عليه أن يتوجّه إلى واحد من أقاربه، لكن مَن يمكن أن يكون هذا القريب؟ كلّهم ماتوا لم يتبقّ منهم إلا الاضعف، فهل يتوجّه إليه؟ أجل ليفعل وماذا بإمكانه أن ينتظر؟.. الغريق لا ينتظر ويفضّل أن يتعلّق بحبال الهوا. هكذا وجد نفسه يندفع في ساعات المساء باتجاه بيت قريب له. الطريق إلى هناك كانت طويلة، فقد كان يعرف تمام المعرفة أن أحدًا لن يُقدّم اليه يد المساعدة، وأنه سيبقى غارقًا في ظلامه إلى ما شاء الله، أو حتى تحصل معجزة في زمن لا يعرف المعجزات ولا يريد، ومع هذا غذ الخطى باتجاه بيت قريبه. أخيرًا وصل إلى هناك.. توقّف قُبالة باب البيت المُغلق، كان الباب يغرق في عتمته. لا، هو لن يطرق هذا الباب، فقد طرقه أكثر من مرّة في السابق ولم يُفتح له، فهل يضيف إلى تلك المرّات مرة أخرى جديدة تضاف إلى دفتر هزائمه؟ ليكن ما يكون. نعم ليُضف هزيمة أخرى بماذا سيضره هذا، وهو إذا لم يربح لن يخسر، وتقدّم من الباب. رفع يده لطرقه، غير أنه أحس باسترخاءٍ يسري في يده فأنزلها رويدًا رويدًا ومضى في عتمته، متجاوزا ذلك الباب، في محاولة للبحث عن باب آخر، ومضى في ظلامه، مضى يغذّ المسير. الابواب كلّها مغلقة أمامه فإلي أين يمضي؟ إلى أين؟ وانطلق في طريقه يمشي بسبعة أرجل، بعشرة، بألف.. بآلاف الارجل، إلى أن وصل إلى باب بيته، استخرج مِفتاحه من جيبه وفتح بابه. هذا هو الباب الوحيد الذي يُفتح له. كلّ الابواب الاخرى مغلقة "محدا وراها فاضي لحدا ولتمت انت في شجاك وحزنك". قال لنفسه وهو يردُّ بابَ شقته وراءه، ويتوجّه إلى سريره في غرفة الاستقبال ليستلقى هناك، بانتظارِ وسنٍ لا يأتي منذ أكثر من خمسة أعوام هي تاريخ تهجيره الثاني.

***

يرفع جسمه من على سريره في غرفة الاستقبال، يشعر بتثاقل ما، ينبذ ما يشعر به، يتوجّه نحو باب شقته القديمة، يخرج إلى الشارع. لقد أضمر أمرًا، هو لا يمكنه أن يقبل بهكذا وضع، وبات من الواضح له على الاقل أنه يوجد أمامه واحد من أمرين، فإما حياة تسرّ الصديق وإما ممات يغيظ العدا، هو لا يمكن أن يُسلّم بالخسارة كاملة، وهو يعي تمام الوعي أنه ما زال أمامه متسع من الوقت للمناورة، وحتى للمغامرة، وانطلق في طريقه راكضًا مثل سيف، كان الطريق أمامه طويلًا ممتدًا بلا نهاية، وكان يركض غير عابئ بالظلام أمامه، كان يريد أن يعمل أي شيء من أجل إعادة ابنته صغنونته محبوبته الابدية إلى بيتها. كان يركض ويركض وإلى جانبه.. يركض الليل.

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم