نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: معضلة القنافد

كانت احدى باحات الطرق السيار مكتظة، فاليوم عطلة والفترة موسم صيف ورحلات جماعية وفردية لا تتوقف، بين مدينتين سياحيتين:مراكش /أغادير، فلم يجد مكانا يركن فيه سيارته..

مثانته تضغط عليه بقوة.. وهو ينزل من السيارة سمع محركا يدور، سيارة سواح أجانب غادرت موقفها فحل مكانها..

قصد المراحيض، زحمة فوق العادة، لن يستطيع اصطبارا..

وهو يترنح في مكانه شاهدته احدى بنات النظافة، فلوحت اليه أن يتقدم منها في لطف ظاهر قدمت له مفتاحا وأشارت الى احدى المراحيض الخاصة..

سره ماقامت به الفتاة، شرع يستذكر ملامحها..

صغيرة في ريعان الشباب لا تتجاوز السابعة عشرة من عمرها أنيقة في بدلتها البيضاء موشاة بلون أزرق سماوي..

شحوب وجهها يوحي بفقرها وانتمائها الى منطقة هشة من إحدى القرى القريبة من الباحة..

حين خرج وجدها في انتظار المفتاح، أخرج ورقة من فئة المائة درهم وسلمها إليها.. حدقت فيها طويلا وقالت:

ـ سيدي لا املك الصرف..

تبسم في وجهها وقال:

ومن منك قد طلب صرفا ؟، هي لك خوديها..

من عيونها أشرقت شمس وقطر غيم..

هم بالانصراف حين تذكر أنه نسي نظاراته قريبا من المغسل، لما رجع لم يجدها.. طمأنته وقالت تعال معي..

في إدارة الباحة تم التعرف على من أخذ النظارات من خلال تسجيل الكاميرات..

لم يكن غير طفل صغير وجدها وحملها الى أمه..

وفتاة النظافة تودعه قرب سيارته قالت:

ـ سيدي سأظل دوما أذكر فضلك..

ـ العفو، هل لك عمل غير هذا ؟

ـ انا طالبة يتيمة الأب وأمي مقعدة سأجتاز الباكالوريا في السنة المقبلة واشتغل في الباحة حتى أوفر مصروفات دراستي والنفقة على أمي..

مرة أخرى تفقد السيطرة على دموعها، همت بأن تبوح بشي فتراجعت..

تتنهد ثم تتابع:

ـ المهم أتفانى في عملي،اتحمل وأصطبر إذا كف العمال هنا عن "البسالة ".. قالتها بغضب لا يخفى..

ـ أخذ من السيارة ورقة وكتب لها رقم هاتفه ثم قدمه لها مع ورقة من فئة المائتي درهم:

نفس محرومة أحق بالصدقة و الزكاة ممن يجوبون الشوارع..

ـ هذه لك وهذا هاتفي متى احتجت شيئا هاتفيني بلاتردد لكن اياك ان يتجاوز رقم هاتفي غيرك..

خرت على يده تريد تقبيلها فسحبها وقال:

ـ أترقب هاتفا منك أنا قريب من هنا أسكن أغادير..

طيلة ما تبقى من طريق وهو يفكر في الحالة المزرية لبعض القرى المنسية، في إنسانها المهمل، كيف لا تكتض مدن والانسان في القرى مهجور نكرة بلا وجود ؟..بيئة لن تفرخ غير القتلة واللصوصية و قطاع الطرق..

يسترجع بعض اقوال البنت:

ـ المهم أتفانى في عملي،اتحمل وأصطبرإذا كف العمال هنا عن "البسالة "..

جميلة في شحوب، أنيقة في فقر، عفيفة تقاوم جسارة االعمال ووقاحتهم..

معناه أنها تعاني..فالى أي مدى تستطيع المقاومة كفتاة بلاخلفيات

تحميها ؟

أزيد من ثلاثة أشهر مرت، عن ذهنه قد غابت البنت وغاب حديثها..

ذات صباح وجد رسالة على الوات ساب لايعرف صاحب رقمها

بعد تردد فتح الرسالة فقرأ:

أنا ابتسام فتاة الباحة أحببت أن أسأل عنك كيف أحوالك سيدي؟..

بسرعة أخرجته الرسالة من رحم نسيانه، صورة البنت تتجلى أمامه بوجهها الشاحب بين فرحتها ودموعها،وبدلتها البيضاء الموشاة بالأزرق السماوي..في مسامعه لعلعت عبارتها:

ـ المهم أتفانى في عملي،اتحمل وأصطبر إذا كف العمال هنا عن "البسالة "

لها كتب:

أهلا ابتسام،أولا أتشرف باسمك ثانيا كيف حالك وحال والدتك ؟

ـ والدتي تذكرها الله من أسبوع وأنا اردت منك معروفا اذا لم يضايقك الأمر..

لها كتب:

البركة ف راسك متعك الله برضاها، أطلبي ابتسام لا تخجلي..

ـ هل ممكن أن تأتي الي،انا في أمس الحاجة اليك ؟

الذهاب اليها مغامرة قد لاتكون محمودة..الناس أطماع، نزعات ونزوات، خصوصا في مناطق قروية مهملة تغيب عنها رقابة السلطة..

شرع يستحضر سلوكاتها يوم الباحة، كان يحس صدقها وحديثها الواضح في ثقة بنفسها خصوصا مع مسير الباحة حين نسي نظاراته..

لا أظن أن يكون وراء رسالتها دافع سيء أو أن أحدا قد اغراها بمكر ؟

تذكر معضلة القنافذ فتبسم، استعاذ بالله من سوء الظن..

لها كتب:

أكون عندك بعد ساعة تقريبا، هل أجدك في الباحة ؟

في انتظار ردها كان فكره منصبا على مسافة السلامة التي قد تقيه كل شر محتمل..

ـ سيدي !!..من الأحسن ان تأخذ الطريق الوطنية فهي اقرب الى لألقاك.. ستجدني في انتظارك قريبا من محل للمتلاشيات. بعد الخروج من امسكرود.

تضاعف قلقه، هل في مغامرته خطر على نفسه ؟ لو كان سيجدها في الباحة لكان الامر أضمن للسلامة..

اهتز قلبه، وجيب يسري في صدره بين القبول والرفض..

تجمدت أفكاره لحظات وصارت صورتها هي ما يلاحقه قبل أن يقرر:

ـ اليها أسافر..

وجدها في الانتظار.. قريبا منها كان كلب أسود في حراستها..المكان أراضي صخرية ليس فيها غير سدر مات من جفاف..

لا طير يطير و لا شجر يحركه الريح.. بعيدا على مد البصر ثلاثة أطفال حفاة وشبه عراة يتراكضون خلف كرة صنعوها من خرق وورق..

صعدت قربه، عاود عبارات العزاء..بكت وقالت:

ـ اعتذر على ازعاجك لكن وحق الله فقلبي لم يرتح الا لك ثقة بك، فبادرت بمراسلتك..

شرع يكلمها وكله احتراس،عيونه حوامة تمسح كل ما حوله خارج السيارة، لا شيء يثير باستغراب او شك.غير الكلب الأسود الذي ظل يحوم حول السيارة بعد أن ربتت على ظهره، يركض الى ناحية الأطفال نابحا ثم يعود الى السيارة..

لا عليك،وعدتك وجئت لأوفي بوعدي،ماذا تريدين ؟

شرعت تبكي، نثر أوراقا شفافة من صندوقة في السيارة وقدمها اليها..قالت:

اذا كان في الإمكان أن اشتغل خادمة عندك او عند غيرك،

المهم لا اريد البقاء هنا..

فاجأته بطلبها ورغبتها

ـ هل وقع لك شيء ؟ ودراستك ؟

ـ لا وقت للحديث هنا..

مسارات معقدة ومتشابكة تبدت أمامه، هل يوافق ؟ هل يمانع ؟

ـ أليس لك أهل نخبرهم بما تفكرين فيه ؟

بكت ودفنت وجهها بين كفيها:

لو كان لي اهل لما تركت أمي يومين بغير دفن.. أجلاف لا يعرفون معنى إكرام الميت..لا أحد لي، قوم قساة، ابي قد أساء لهم حسب اعتقادهم وانا وأمي تلقينا الجزاء.. صرت بينهم أترقب لحظات النهش..

ـ طيب هل لك شيء تريدين حمله من بيتك ؟

ـ ليس في بيتي ما يستحق الحمل،خاتم ذهبي ودملج من فضة وجدتهما بين ثنايا ألبسة أمي أخذتهما معي.. هما ما تبقى لها مما باعته من أجل دراستي..

استدار من حيث أتى وهي معه.. يسأل الله ان تكون العاقبة خيرا.. فهو يقدم على فعل قد يكون له مابعده..

في الطريق حكت له عن سبب شلل أمها بعد ان كانت طباخة ماهرة في بيت القائد..

ـ ما أن ترقى القائد الى عامل، وأتى غيره حتى تم اغتصاب أمي من قبل خمسة من رجال القبيلة أمام اعيني بعد ذهاب من كان يحميها..

كنت صغيرة بنت أربع سنوات.. اغتصبوها انتقاما من ابي الذي قتل في احدى المعارك الانتخابية..

عاود أحدهم محاولة اغتصاب أمي، فلما حاولت الفرار منه سقطت فانكسر عمودها الفقري مما أصابها بالشلل..

حكت له كيف أن أمها رغم شللها قد ربت كلبين في البيت كانا في حراستها وأمها من ذئاب الردى في القرية..

ـ أمس حاول أحدهم النزول الي من سطح الكوخ فطارده الكلبان..

من أجل ذلك لم افكر في سواك رجلا رحيما..

حين دخلت بيته قالت:

هنا عني انزع خريفا لاحقني في عز ربيع عمري وابدأ في نبات جديد، أعدك..

قدمها الى أبنائه فتقبلوها بين رغبة ورهبة، ساعدها، أعادها للدراسة وهي اليوم ربة بيت تسير شركة وطنية للاكترونيات..

***

محمد الدرقاوي - المغرب

في نصوص اليوم