نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: ثمَن

موال حزين يشق الفضاء، نبراته تتلون بين الصلابة والبطء، وبين تلاوين الحدة والرخو، يشق صدرها شجنا من نار، ومن عيونها عبرات حارقات.. ثم اليها يعود الصدى، وقد هامت نفسها مع رجع رسالة الموال بين طيات ماض توهمته انفتاحا ووعيا كم فيه قد تخبطت بضنى، ومسارب آتيات لا تدري كيف تفتح لها عقدا..

قدرها أن تظل في رقعة أرض محكومة بالسير اليومي خلف حمار، يئن تحت حزمات الحطب والشوك كما تئن من حظ لها قد تنكر بصد وعناد:

ـ أرَّ، زِدْ، كلانا حذر، يصطبر، ومعا نصعد هذا الممر الجبلي الضيق، لنا قد تغرق قدم في تربة هشة قد لا ترحمنا من حتف..

عيون خلفها تتابعها، تسارقها النظر وفي قدها تتملى باختلاس..

عن العيون منشغلة بصوتها الشجي، وعن حسيس خطوات لها تقتفي اثر ا، هائمة مع ذكرياتها ودموع تخنقها والمدى الذي يتسع أمامها بشر.. فوقها سماء لا تصفو لها جهة حتى يصيب غيرها الكدر، وحولها جبال هشة كم أزهقت من روح وبين ثراها قد انطمرت من نفس.. أما تحتها فأرض كم مادت وفيها كم غاصت من قدم كما تغوص الكآبة في صدر أليم ثم تنسل بلاحذاء تتابع المسير مغبرة مجروحة بدم حذرة من ألا تصل الى النهاية..

عمل يومي تعودته داسين مذ توقفت عن الدراسة في حجرة لفرعية مدرسية بعيدة عن الدوار قلما كان يحضر معلمها المنسي من قبل إدارة المدرسة..

فرض أبو داسين على بنته الرحيل الى المدينة لتشتغل خادمة وقد أغراه أحد السماسرة بمبلغ مالي حرك شهيته..

كم بكت أمها وخاصمت أباها، أحتجت وعارضت..

ـ بنتي ذكية ومنظورة جمالها يثير رجال الدوار فأحرى رجال المدينة المتفسخين

ـ بنتك قد تحقق لنا ما يرفعنا عن تراب الأرض.

كان عمر داسين لا يتعدى الثانية عشرة وجه مليح، وشعر طويل مرفوع الى أعلى في ظفيرتين طويلتين، قد متناسق، على ساقين ممتلئتين مفتولتين، بها لم يطل زمن بالمدينة، ففي أقل من سنتين تعود الى مسقط راسها بعد أن عبث أبن مشغلتها بشرفها وأقسمت أن تقتله لولا مبادرة أمه باعادتها من حيث أتت..

تعود داسين الى المنطقة المنسية لا يشغلها غير حالها وماصارته والعار الذي تلبسته، خرجت من الجبل صبية طاهرة وعادت أنثى مدنسة وقد فقدت أغلى ما تعتز به بنت، وكان المستفيد الوحيد هو أبوها الذي حاز الثمن وانكتم على ما أصابها كما ينكتم من فقره وخوفه ومذلته بين الناس أكثر من صوت على رنة اغراء الدرهم..

كم حلمت داسين أن تتعلم وتنزل الى المدينة لتحصل على شهادة عليا ثم ترسم مخططا مدروسا لتصير سيدة أعمال، وكم داعب خيالها من شاب وسيم قد يعشقها ذواق غني يهفو للجمال البدوي بلاخلفيات استغلالية..

تقترب الخطوات من داسين واليها تنتبه، وبنصف التفاتة تعرف أن الذي وراءها شاب ما أن تبينت ملامحه حتى انخرست وقد ركبها فزع قوي..

مدت يدها داخل" الشواري" وأخرجت منجلا صغيرا تحش به النبات وضعته بين عيدان الحطب..

من أتى به الى هنا؟ ومن دله على طريقها ؟..

سمسار الخادمات اللعين ليس غيره.. هو من يستغل جمالا موهوبا لبنات الدوار، في منطقة جبلية منسية قلما تحظى بزائر، ليس بها طريق ولاماء ولا كهرباء، يعيش أهلها على ما يجود به السياح وما اقلهم !!.. او ما يبعثه الأبناء الذين غادروا الدوار كحرفيين، أو خدما في متاجر، أو بنات شغالات في البيوت، لان الطريق رملية هشة لا يحسن السير فيها الا من تعود عليها، وما عدا ذلك فالموت ما يهدد حاملا عند الوضع، ومريضا قد لفه برد، لم يفد فيه زعتر ولا زيت..

لا أحد غير هؤلاء يذكر القرية غير المنتخبين الذين يأتـون كل خمس سنوات يلقون خطابات الزيف والكذب يوزعون الفتات من أجل شراء الأصوات ثم تبلعهم الحياة الى أن يعاودوا الظهور في سيارات فخمة وألبسة عصرية بعد ان غادروا القرية حفاة عراة لا تسترهم غير خرق تركها السياح خلفهم..

حقد يقمط صدر داسين وعينان تقذفان كراهية في اعماقها تغلي..

داسين !!.. نداء يأتي من خلفها..

صوت تستبطنه في همس وجهر، عاشت معه تقلبات الرفض والعناد والكر والفر وهي خادمة عند أبويه، كم تحرش بها، كم حاصرها بين السلالم، وكم اندس في سريرها في ظلمة الليالي...

قاومت، صاحت واستنجدت بأمه لكن كانها كانت تنقش في ماء الى أن هجم عليها ذات ليلة وفي نومها قد غرقت، وضع لصاقا على فمها كبل يديها بحزام سرواله ثم نال منها ما أراد..

لم تخجل ولم تستحي وانما قصدت غرفة نوم ابويه بدمها بين فخديها، اطلقت صيحة مزقت بها السكون بفزع، قالت وقد استضاءت الغرفة بالنور:

ـ اقسم بالله أني لن اتركه يفلت الى أن اقتله ودمي هذا لن يذهب سدى..

خوفا على ابنهما، جمعت أم المجرم أغراض داسين وحملها الاب مرغمة في سيارته الى بيت أبويها ومعه صديق محامي.. بعد مفاوضات وإغراءات مادية فكر الاب ان يحوز ثمن شرف ابنته نقدا هو أحسن بكثير من شكاوي ومحاكم، كما أن بنته ليست هي الأولى ولن تكون الأخيرة التي نزلت الى المدينة كخادمة بكر وعادت بلابكارة أو أما عازبة بل منهن من فضلن الدعارة أو تورطن في جرائم قتل أرحامهن خوفا من الفضيحة فكان السجن لهن في انتظار..

مرة أخرى يصل داسين صوت مقتفيها، يتوقف الحمار والى مصدر الصوت تلتفت، يدها خلفها تمسك بالمنجل:

ـ نعم.. ماذا تريد ؟

بسمة خبث تتربع على وجهه:

ـ جئت أطلب سماحتك وعفوك !!..

ـ وكيف وصلت الى هنا ؟ ألم تخش رجال القبيلة ؟

يضحك في شماتة وثقة في النفس زائدة:

ـ رجال القبيلة تعودوا أخذ الثمن والصمت على المكاره، أقوام فقراء لا الدولة تعرفهم ولاهم يُّعرِّفون بأنفسهم، من أجل هذا جئت اليك متحملا هشاشة الطريق ووعورة المسالك وفقدان الأنيس..

تطيل داسين فيه النظر، أية مؤامرة يحيك ؟

ـ ماذا تريد ؟ تكلم:

ـ أنت جميلة، جسم متناسق وقد مياس، حبا فيك ورحمة بك، وحتى لا يضيع جمالك في هذا الخلاء البئيس، ويفنى عمرك بين الغربان.. مارأيك العودة الى المدينة والعمل في مكان مشهور، أعدك بسكن خاص بك، وأجرة أكثر من ثمن الشرف الذي أخذه أبوك ؟..

يغلى الدم في أوردة داسين، صدرها يصير كمنفاخ صاعد، نازل، أنفاسها تكاد تختنق، حيوان بلا كرامة أتى ليساومها على ما تبقى من شرفها، يريد أن يعتاش على جمالها، عاهرة منه قريبة، يجني على حساب عفتها غناه وثروته..

تشجعه على الاقتراب منها ببسمة زائفة ومن غروره يمد لها يده للسلام، تمسك يده ثم تدعُّه بقوة، تسحت قدماه فيسقط، وما أن يحاول النهوض وقبل أن تضربه داسين بالمنجل الذي في يدها تسيخ به كومة من طوب فيتدحرج عبر الجبل الى السفح، تعيد داسين المنجل الى مكانه وقد كفاها الله استعماله ثم تتابع الطريق الى كوخها الجبلي وقد أطلقت الصوت بموال جديد يشق الفضاء، هو مزيج من غصات حزن دفين ونغمات الخلاص، صداه يختلط بعجاج متطاير من جسد يتدحرج الى أن بلغ السفح..

لا أحد أتاه خبر أو أبلغ عن الحادثة، نزلت داسين أكثر من مرة الى السفح من نفس المسلك الذي تعودته، تحطب وتحش، تسقي ماء ثم تعود وهي تردد أنغامها.. ولا اثر..

بعد أسبوع أبلغ أحد السواح عن جثة رجل قد نهشتها الكلاب وفاحت روائحها تغطيها صخور السفح المتفتتة والهاوية من القمة..

تحرك رجال الدرك في المنطقة ونقلت الجثة الى مشرحة مستشفى المدينة لكنهم لم يصلوا الى دليل بان الرجل قد مات مقتولا..

كان تقرير البحث يقول:

حاول السير على جانب الجبل، ساخت قدمه على حافة هشة فهوى ونال حتفه، وأثر انزلاق حذائه على الأرض دليل، ولو دفعه أحد لما تمزقت ثيابه ووصل الى السفح وهو عار تماما، فقطع ثوبه قد ضلت عالقة على ارتفاع الجبل، جروح صدره كانت عميقة ومعناه انه كان يحاول التشبث بنتوءات الجبل فلم يستطع كما أن إليتيه كانتا مسحوقتين من جراء كدمات النتوءات التي اصطدم بها وهو يسحت على صدره..

لكن والداه لم يغب عنهما أنه ربما قصد داسين لانه كان مفتونا بجسدها فلقي حتفه قبل أن يصل اليها بدليل شهادتها انها لم تره مذ كانت خادمة عند والديه وانها لم تترك البيت الا بعد تحرشه بها متجنبة أن تعلن حقيقة ما وقع..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في نصوص اليوم