نصوص أدبية

منذر فالح الغزالي: الحرباء

كنت في العشرينيات من عمري حين تمّ استدعائي إلى خدمة العلم في لبنان . كان قرار الخدمة بمثابة مكافأة لي، حيث كنت منبهراً بالحرية اللبنانية، وانتشار الفن بكلّ أشكاله، وبالإعلام هناك الذي يرعى المواهب، ويرفعها، حتى تصبح مشهورةً وتصل إلى النجومية، وأقارنه بغياب الاهتمام، وقتل المواهب في بلدي؛ وكانت فيروز وعالمها الحالم شغفي الموسيقي، أسمعها في كلّ وقت، وعالم جبران الفلسفي هو عالمي الأدبي المفضّل، لا أشبع من قراءته، وحفظ الكثير من مقولاته الفلسفية، من وجهة نظر شاب متخرّجٍ للتوّ من كلية الفنون الجميلة، ومحمّلٍ بالأفكار الرومنسية، وأحلام الشهرة والنجومية القادمة "لا محالة!".

الشهور الأولى كانت بمثابة انغماسٍ في هذا الجمال الذي يغطّي كلّ شيءٍ أراه، في الجبال الخضراء، أو الجداول الباردة التي تنساب بين الصخور، أو القرى الصغيرة الغافية على سفوح الجبال، بسقوفها القرميدية، وطرقاتها المتعرّجة المخيفة.

كانت الكتيبة التي أخدم بها في غابة صنوبر عتيقة، أشبه بمخيم سياحي، فوق قمة جبل من جبال الشوف، يشرف مباشرةً على وادٍ سحيقٍ تملؤه السحب في الصباحات، فيشعر المرء أنه واقف، حقيقةً، فوق الغيم.

بالتدريج بدأت حياة الجندية، بثقلها اللزج، والأوامر العسكرية والتدريبات التي لا معنى لها، تنهش، شيئا فشيئاً، من الروح الحالمة، ولم يبق من ذلك الجمال إلا تلك الساعات التي كنت أقضيها، في أوقاتٍ متفرّقة، مع عائلةٍ تسكن في بيتٍ قريبٍ من كتيبتنا، برغم الأوامر المشدّدة بعدم الاحتكاك مع السكان، والحلم بأن أنهي مدّة الخدمة، وأتابع حياتي المهنية في إحدى المجلات اللبنانية، أو "ربما أستطيع أن أقيم معرضي الشخصي في إحدى دور العرض في بيروت".

كان المبيت العسكري للكتيبة يغادر إلى سوريا مرةً في الأسبوع، ونقطة التجمّع في  مقرّ اللواء في دمشق، ومن يتأخّر عن سيارة المبيت ، عند العودة، يأتي على حسابه الخاص بلباسٍ مدني، وعند دخوله الأراضي اللبنانية يذهب إلى أقرب حاجز عسكري للجيش، يبرز هويته العسكرية، ويتكفّل الحاجز بتأمين سيارة تنقله إلى الكتيبة. سمعت من العساكر قصصاً كثيرة عن التصرّفات المسيئة من عناصر الحواجز، والطريقة الفظّة التي يعاملون بها الناس حين يوقفون سيارة أحد المواطنين اللبنانيين؛ لذلك كنت أحرص ألا أتأخّر عن المبيت.

في ذلك اليوم، حين أجبرني ظرفٌ خاصٌّ أن أعود إلى الكتيبة بسيارةٍ مدنية، وصلتُ إلى أوّل حاجزٍ عسكريٍّ في الأراضي اللبنانية، وحين عرف عنصر الحاجز رتبتي العسكرية، تحمّس لإيقاف سيارةٍ متّجهةٍ إلى المنطقة التي تقع فيها كتيبتي. كان فظّاً بشكلٍ أصابني بالحرج، والاشمئزاز من نفسي بأن صرت شريكاً في الإساءة إلى هؤلاء الناس الذين يمثّلون الحرية والجمال وقيم الحياة التي أتوق إليها؛ غير أنّ كلّ ما استطعت فعله، أني رجوت العنصر أن يكون أقلّ فظاظةً مع الناس. ابتسم الجندي ابتسامة استغراب، وربما شفقة؛ لكنه لم يبالِ برجائي، وظلّ يوقف السيارات دون أن ينزل بندقيته.

مرّت سيارةٌ فارهة، وقفت قبل أن يوقفها الجندي. كانت تقودها امرأةٌ جميلة، في كامل زينتها، حين رآها الجندي ابتسم وراح يحدّثها، وهو ينظر إلى صدرها وفخذيها، بتلميحاتٍ وقحة، احمرّ وجهها، وأطلقت شتائم فاضحة، ردّ عليها بشتائم فاضحة أكثر. وبدأت معركة كلامية تدور بين الجندي وبين المرأة، سألته بتحدٍّ: "أنت لا تعرف مع من تتحدّث؟"، ردّ بثقةٍ مستفزة: "بل أعرف تماما."، ثمّ أردف بنبرةٍ تحمل تلميحاً خاصاً: "منذ زمن لم تمرّي على المعلّم". لا أدري أيّ سحرٍ كان لهذه الكلمات.  ما إن سمعتها المرأة حتى امتصّت غضبها، وبمهارة سمكة مرنة، انزلقت في الحديث، لتغيّر مجرى المعركة، ردّت بابتسامةٍ متكلّفة، تكشف تعابيرَ وجهٍ أُهرِقَ ماؤه للتوّ: "سأمرّ قريباً جداّ، وسأشكوك له." والمعلم هذا هو ضابطٌ كبير في جهاز الأمن السوري.

التفتت المرأة نحوي وقالت للجندي: "إلى أين؟"، فأخبرها. فتحتْ باب السيارة، وجلستُ بجانبها وأنا غارقٌ في خجلي واحتقاري لنفسي، ألعن، في داخلي، الجنديَّ، والمعلّم، والظروف السيئة التي جعلتني سبباً في إذلال هذه المرأة. قلت لها تحت تأثير مشاعري: "أنا آسف". ردّت مستغربةً أسفي المباغت: "على ماذا تأسف؟"

- آسف على ما بدر من ذلك الجندي. ما كنت أتمنّى أن أكون سبباً في هذا.

- لا تأسف. تعوّدنا على رزالتهم.

قالت ذلك بحذرٍ في البداية؛ لكنّها، لسببٍ ما راحت تشتم الجنديّ والمعلّم، حتى وصلت شتائمها إلى المعلم الكبير... "ملعون أبوهم... خرّبوا البلد!"، أنهت ثورة غضبها بهذه الشتيمة.

لفت نظري بعض المجلّات أمام المقعد، حملت إحداها ورحت أتصفّحها، أخفي فيها خجلي. سألتني: "هل تحبّ القراءة؟"، وعرفت أنّ مقالها الأخير منشورٌ في المجلة التي في يدي، خجلت أنّي لم أعرفها قبلَ أن تعرّفني بذاتها، رغم حضورها على شاشات التلفاز.

امتدّ بيننا حديثٌ طويل. حدّثتني عن نفسها، وعن صحيفتها، و"الدور التنويري الذي تقوم به"، وعن لبنان والحريّة والجمال... حدّثتها عن نفسي واهتماماتي وطموحي، وامتدّ الحديث حتى وصل إلى النقطة الأكثر بهاء وجمالاً في داخلي: الأدب وجبران وفيروز والطبيعة، والحرية "الكفيلة بأن تخلق من الإنسان العادي فنّاناً... "، استرسلتُ في عرض ما أحفظ من مقولات جبران ومن شعر الأخوين رحباني، وأركّز على الجو انب التي أراها متشابهةً بينهما.

توقفت على حافة الطريق، وقالت: "أنا وصلت".  تردّدت أن أطلب منها المساعدة في أيجاد عملٍ فنيٍّ في المجلة التي تعمل بها؛ لكنها فاجأتني بأن أعطتني مجموعة من البطاقات الصغيرة، عليه أرقام هاتفها وعناوينها الأخرى، "هذا كرتي، وزّعه على أصدقائك. اليوم مساء عندي لقاء تلفزيوني..."، سمّت لي البرنامج والمحطة... "لازم تحضره!"، قالت بابتسامةٍ. تابعت طريقَها، ومشيت أنا نحو الكتيبة.

كانت صورتها، وحديثها السلس الشيّق يعاد تكراره في خيالي، وقرّرت أن أتّصل بها في أقرب وقت، وأطلب منها ما خجلتُ أن أطلبه، "لعلّها الفرصة التي هيئها لي القدر حقاً!"

في المساء، هيّأتُ القهوة وجلست أمام شاشة تلفازي الصغير أتابع برنامجها، أحسستُ، حين ظهرت لأول مرة على الشاشة، بارتعاشةٍ في قلبي، ونشوةٍ من الجمال، وبالرغم من أني لا أحبّ السياسة ولا البرامج السياسية، إلا أني كنت مشدوداً إلى الشاشة، أتابع ما ستقوله.

بدأت حديثها بتوجيه التحية إلى الجيش السوري، "الذي يحافظ على أمن لبنان"، ثمّ تابعت بنبرةٍ فوقيّة: "مشكلة لبنان الحقيقية تكمن في العمّال السوريين الذين ملأوا البلد بتخلفهم وهمجيّتهم، شوّهوا لبنان الجميل... استولوا على كلّ شيء في لبنان... صرنا نحن الأغراب في بلدنا... لبنان ما عاد هو لبنان..."

تذكّرت حديثها السابق في الطريق، وحالها وهي تبتسم لبذاءات عنصر الحاجز، نظرت إلى عدد المجلة الذي أهدتني إياه، تركت كلّ شيء على حاله وشغلتُ جهاز التسجيل؛ ولا يزال صوته يرتفع ويرتفع حتى غابت كل الأصوات الأخرى، ولم أعد أسمع إلا صوت فيروز، ولا أرى إلا صورة لبنان الجميل.

***

قصة قصيرة

الكاتب منذر فالح الغزالي

في نصوص اليوم