تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

لمى ابوالنجا: الشريرة في رواية أحدهم

أعترف بأنني لم أكن فتاة هادئة مطيعة سهلة المعشر من ذلك النوع الذي يتمناه أي والدين،و أتصور أن تنشئتي وصقل جميع المزايا التي حظيت بها لاحقاً كانت مرهقة لهما لهذا لم أتوقف يوماً عن الإمتنان الكبير لهما وفداؤهما بروحي، كنت حادة المزاج، طويلة اللسان، عنيدة، متفوقة جداً دراسياً وقائدة بالفطرة لدي تأثير كبير ومدمر في حياة البنات للحد الذي كثيراً ما دفع الأمهات إلى إبعاد بناتهن عني لإعتقادهن أني أفسد شخصياتهن بالتمرد على العادات والتقاليد والعصيان للأوامر وعلى الرغم من ذلك العذاب وجدت الكثير من الحب والقبول والصبر من والدي وأفراد أسرتي الصغيرة المحبة الدافئة.

إحدى طباعي السيئة الكثيرة التي إمتلكتها حتى وصلت سن السادسة عشرة هي تأليف قصص وأحداث من الخيال، كنت عندما أتعرف على أصدقاء جدد أو أصادف أي شخص غريب ويسألني عن إسمي أشعر برغبة ملحة في عدم الافصاح عن إسمي الحقيقي أتنقل بين أسماء حركية عديدة مثل "فاطمة خميّس، نوال، روان، رقية، نسيبة، داليا، هناء، هنية، فاتن"

وأتماهى مع العوالم الموازية لكل إسم فتارة أدعي أن والدي صاحب بقالة الحي وأنا الإبنة الوحيدة ناسفة حضور جميع إخوتي وأخواتي من حياتي وعلي ترك المدرسة لمساعدته ماديا، وتارة أجعله ضابط في الشرطة ولدي أربعة إخوة غلاظ شداد يرعبون الجن والإنس معاً، أو أنتظر أن أنهي دراستي الثانوية بأسرع وقت ليرسلني والدي "وكيل ساعات رولكس في المملكة" لدراسة فنون وقواعد الإتيكيت بجنيف.. وهكذا

كنت أكتب ملامح الشخصية التي أقرر أن أتقمصها بحياتها وظروفها ويومياتها وحرصت على عدم إختلاط العالمين ببعضها مطلقاً لاسيما أني وفي مواضع عديدة لم أستطع ممارسة تلك الهواية عند معارف العائلة أو صديقات المدرسة وعندما كانت الظروف لاتسعني بتقمص إحدى أسمائي الحركية كنت أكذب بالتفاصيل الأخرى، وصلت  من الإحتراف والدقة للحد الذي يصعب فيه إكتشاف كذباتي البيضاء، كنت أراها مجرد كذبات بيضاء أستخدمها للمتعة وللإبحار بالخيال وإضفاء بعض المغامرة إلى حياتي الرتيبة المنغلقة وعلى الرغم من ذلك كنت أشعر أن صديقاتي بالمدرسة ينتابهن الشك في أحاديثي والميل إلى عدم تصديق معظم الحكايات لكنهن لم يكشفن عن شكوكهن وفضلن الإستمتاع في السرد القصصي والحكايات الساخنة الخيالية على إكتشاف الحقيقة بل حتى أنني تعرفت على صديقة جديدة تفوقت علي بمراحل بالكذب والغريب أني كنت أعلم أنها تكذب وهي تعلم أني أكذب لكنا كنا نعيش كذباتنا على بعضنا.

في عطلة نهاية الأسبوع كنا نسافر لزيارة أقاربنا في مدينة أخرى تبعد عنا قرابة ال ١٨٠/كلم لأن قضاء العطلة في مدينتي المنعزلة كان أشبه بالعذاب لا يوجد مرافق ترفيهية كثيرة في ذلك الوقت عدا عن الأسواق والمهرجانات الشعبية، ذهبنا إلى منزل خالتي لحضور إحدى العزائم حيث جمعت قرابة الاربعين سيدة ولأن  ذلك الأسبوع صادف فترة الإمتحانات النصفية في المدرسة بالإضافة إلى أن البنات الصغيرات لم يكن مرحب بهن بين الضيوف صعدنا أنا وقريبتي إلى الطابق الثاني للمذاكرة إستعداداً لامتحانات يوم السبت، وأثناء الدراسة شعرت بالملل وتعكر المزاج يعصف بالأجواء توجهت إلى الغرفة المجاورة وسحبت التلفون ورحت أتصل على أرقام عشوائية علنا نجد من نثرثر معه وبعد عدة محاولات مملة فاشلة ردت علينا إمرأة كبيرة في السن سألتها:

- هذا منزل أريح؟

ردت:

-لايوجد لدينا أي بنت بإسم أريج فقط أنا خالتك وداد وعمك عبدالله نأكل مكسرات ونشرب الشاي من أنتِ؟

شعرت أني وجدت ضالتي، عجوز ثرثارة هذا كل ما أبحث عنه لذبح الملل، مباشرة قلت لها: إسمي رقية..

سألتني عن إسم عائلتي فإخترت لقب إحدى العوائل العريقة في المملكة التي تنتمي إليها إحدى صديقات والدتي وخالتي، أبهرها اللقب وراحت تسألني بفضول عن حياتي ويومياتي وعدد الخدم والحشم والغرف التي نمتلك ببيتنا أو قصرنا، ولأجل إضفاء المزيد من التراجيديا قلت لها: لحظة يا خالة صحيح أني أنتمي إلى هذه العائلة لكن وضعي ليس بالجيد كما تعتقدين والدي تزوج والدتي من طبقة فقيرة وكانت ثمرة ذلك الزواج الغير مرغوب إبنة "أنا" لهذا منحت اللقب لكني لم أمنح الميزات كحال شقيقاتي من والدي عشت منبوذة بينهم وأشعر دوماً باللإنتماء كبرت على الحسرة لكني لم أطلب منهم أي شيء لأني عزيزة نفس لهذا قررت أن أجتهد بدراستي وأنجح نجاحاً يخجل أهل والدي حتى من الإقتراب مني"

يبدو أن الخالة وداد إنبهرت بالشخصية بشكل فظيع فتاة في المرحلة الثانوية عاشت كل تلك الظروف الصعبة لديها هدف وصلابة نفسية وأخذت تتفاعل معي وحكيت لها عن مواقف حينما شعرت بالإهانه من قبل زوجة والدي وبناتها وبكيت وحزنت لأجلي وطلبت مني أن أعتبرها صديقتي وأتصل عليها كلما سنحت الفرصة وفي أثناء المحادثة المشحونة بالعاطفة رفعت السماعة إبنة خالتي وقالت: "لمى حبيبتي إغلقي الخط أحتاج إستخدام الهاتف ضروري"..

ولسواد حظي الأعظم ومساويء الصدف لك الليلة أن خالة وداد لديها كاشف وعرفت رقم الهاتف وأعادت الإتصال وهي تزبد وترعد وتشتاط غضباً وتصرخ"ياكذابة تكذبي علي؟ أنا تكذبي علي" وإبنة خالتي تحاول تهدئتها ثم كلمتها خالتي لتفهم الموضوع فأخبرتها مافعلت..

ليصدف أن وداد هذه مالكة لمجموعة مدارس والتي تعمل خالتي في إحداها كمديرة.

صديقة وداد المقربة كانت إحدى المعازيم.

صديقة والدتي التي انتحلت لقب عائلتها كانت موجودة كذلك

ولإنقاذ الموقف صعدت خالتي للطابق الثاني وجرتني من كتفي وانا أرتدي البجامة بشعري الأشعث أمام أربعين سيدة يتفرجن علي أنزل الدرج أبكي كمجرم يساق من حبسه الإنفرادي إلى قاعة المحكمة لأتصل على خالة وداد وأعتذر للجميع على الكذب الذي كذبته.

كنت أردد بيني وبين نفسي: أنا لا أكشف ولا أستحق أن أتعرض لهذا الموقف المهين لكن خير يا وداد سوف أريك النجوم في عز الظهر.

يتبع الجزء الثاني من المصائب

***

لمى ابوالنجا

 

في نصوص اليوم