نصوص أدبية

نصوص أدبية

جيوفانا

حفيدتي الأولى

***

برعم من بذور

النجوم

انبثق

والتف على كأس

غصن

أخضر ريان

كزنبقة الصبح في

حضن النهار

كانت السماء

بلون قرنفل وردي

بدأ القمر ترتيلته

المسائية

على إيقاع تجديد

الحياة

جيوفانا

هدية الله من السماء

إبنة آلهة القمر

بنبونتي الملونة بحلاوة

قصب السكر

تذوبين كخيوط

غزل البنات

تكحلين احداقي

كل ليلة

بأجنحتي

أحتويك وحين

أغمض عيوني

تنامين

بين الجفن والأهداب

محاطة

بهالة من بيان

***

راغدة السمان - أستراليا

 

ثم كبرت في تلك المدينة حيث كان لكل شيء فتوى تبدأ بـ(هذه من الكبائر) وتنتهي بـ(هذا والله أعلم) ..

في عمر الأحد عشر عاماً لبست العباءة السوداء على الرأس والقفازات السوداء وغطيت وجهي بغطاء ثقيل يحجب رؤية الرجال لوجهي ورؤيتي لوجوههم .

كان مظهري مضحك لكل من حولي حتى أطلقت جدتي رحمها الله علي لقب " الدُّجيرة" والتي عرفت لاحقاً أنها أحد الكائنات الأسطورية المرافقة "للنمنم"..

في هذه المرحلة تأثرت كثيراً بمعلمة الدين في المدرسة وكنت أشكو إليها معاناتي من التنمر العائلي وكانت تصبرني أن ذلك نوع من أنواع الجهاد وبقي الحال كما هو عليه حتى وصلت لعمر الخامسة عشر في المرحلة المتوسطة..

في أحد الأيام أردنا الذهاب في زيارة لمنزل جدتي، سبقني والدي للسيارة وما أن رآني أخرج من باب العمارة حتى أطفأ المصابيح الأمامية التي كنت أعتمد عليها لإنارة الطريق بسبب ثقل غطاء وجهي فأعتمت الدنيا في عيني ولم أعد أرى شيئاً مطلقاً، إعترض طريقي أحد أبناء الجيران وهو عائد إلى منزله بعد صلاة المغرب في العمارة الملاصقة لبيتنا وإصطدمت به لأنني ببساطة لم أراه أصلاً فصاح في وجهي "سلامات!! عمياء" بكيت من شدة الإحراج وأكملت طريقي، ما كان ينقصني سوى الدموع لتعمي بصيرتي تماماً، لم أنتبه لعتبة الرصيف ووقعت على صدام السيارة لينفجر كل من كان بالشارع بالضحك..

طوال الطريق لم يتكلم أحد عن حادثة سقوطي في الشارع وذلك عكس جميع توقعاتي مع إخوتي الذين لم أسلم يوماً في مراهقتي من تعليقاتهم على شكلي وسلوكي وطباعي الصعبة..في الحقيقة لا أستطيع لومهم كثيراً ..

يبدو لي أنها كانت تعليمات مشددة من والدي بتركي وشأني حتى أستوعب الأمر وحدي دون أن تتسبب تلك النكت والتعليقات عقداً إضافية في شخصيتي غير الموجودة أصلاً

لكنه تراجع عن موقفه لاحقاً..

اتصلت جدتي وطلبت شراء (كتان، حبهان، كربو، فلفل ناشف، خولنجان بصل أخضر وبازلاء للبلا بلا والتمبيء)

ليست أسماء مرده أو خدّام جان.. بل هي بعض التوابل والبهارات والأغراض اللازمة للأطباق الشرق آسيوية، كانت متعة جدتي في إعداد هذه الأطباق هو ما صنع منها نكهة لم أتذوق مثلها منذ رحيلها، عندما كنت أبيت عندها وأراقبها وهي تطبخ أستغرب كثيراً حينما كانت تردد إسم كل شخص وهي تعد طبقه المفضل، سألتها في مرة عن ذلك فقالت: الحب هو مايجعل الطعام أفضل ..

لم أنتبه حينها لهذه العبارة ولكني أدركت لاحقاً أنني تغذيت بحبها ونفذ حنانها إلى كل خلية في قلبي وفي ذاكرتي..

كانت تقول لي "تعالي تعلمي مني طبخة قبل ان أموت" وأرد عليها بنفس العبارة " خليها بعدين"

ليتني فعلت ذلك..ولكني أعتقد أن ما تعلمته منها الآن أكثر شاعرية من طقوسها في المطبخ،،

توقفنا في سوبرماركت حديث الإفتتاح، لم يكن العمال قد انتهوا من ترتيب جميع التموينات على الأرفف حينما دخلنا..

مشيت في السوبر ماركت إلى جهة المعلبات، أمسكت علبة "زبدة الفول السوداني " إلتفت خلفي ووجدت والدي في الجهه المقابله لا أعرف تحديداً لماذا انطلقت نحوه بهذه السرعة ربما أردت أن يقرأ لي تاريخ الصلاحية..

اتسعت عيناه وهو ينظر إلي ويقول " لا لا لا... لحظة"

ظننت أن ردة فعله هذه بسبب صوتي المرتفع فقط وردود أفعالي الصاخبة أحياناً

لم استوعب شيئاً إلا وقرابة ال٤٠ برطمان "علبة" جبة الشيدر الصغيرة تتدحرج بكل مكان والعامل المسكين الذي أخرجها من الصناديق  ووضعها أمامه ليرتبها على الرف يركض خلفها..

شعرت حينها أن الموضوع أخذ منحى أكثر جدية ورعب لأن والدي بدأ يفقد هدوءه والسيطرة على أعصابه وصبره علي وعلى تهاويلي..

في الطريق أخبرته أنني أحتاج المكتبه لتصوير الدروس التي فاتتني في الرياضيات من دفتر صديقتي ووعدتها بإعادته صباح اليوم التالي.. قال: "اعطيني الدفتر واجلسي انتِ في السيارة يكفي ماحصل في السوبر ماركت" لكني أصريت على النزول بسبب أنه لا يعلم الفصول التي أحتاجها

سألت البائع :" لو سمحت أين مكان التصوير؟" قال: الدور الثاني

مباشرة توجهت للدرج ووالدي يقول لا اصبري أنا الآن..."

لم أسمع بقية الجملة إلا وقد عدت فجأة للطابق الأرضي بعدما صعدت لنصف المسافه للأعلى وأنا أصيح "بابا تعال ساعدني"

***

لمى ابولنجا – السعودية

 

لم يكن وزنه الزائد وقدماه المسطحتين يقفان عائقا امام كسبه للقمة عيشه، من خلال تجواله في الأسواق والمحال في بيع السجائر والشاي. ليعود اخر النهار لمنزله بترامس فارغة وبعض النقود، التي لا تلبث بيد زوجته طويلا لا نها بالكاد تسد قوت يومهم، يدخل بيته بروح مرحة محاولا اضفاء بعض البهجة، على وجه زوجته المتجهم والتي لم تكن بانتظاره يوما، كانت تحتفظ بجمال الجسد وبقلب يفتقد للحب أتجاه ذلك الزوج، الذي كان يظن انه فاز بزوجة جميلة تحبه، لكن اتضح انه كان خاسرا كبيرا، أمام حياة زوجية صعبة لم ينل منها سوى الشكوى والتذمر والإهمال. لم تكن لديها أي رغبه بالعيش معه، بل انها اعلنت عدة مرات عن رغبتها في الانفصال، محدثه نفسها متسائلة كيف لا مرأة بجمالها ان تعيش وتكمل حياتها مع كتله اللحم تلك! ومع الفقر الذي أطبق عليها وحول احلامها الى كوابيس. كان الكثير من الرجال ينظر اليها بعين الحسرة، وهم يلاحظون الفرق الكبير وبينها وبين زوجها، متمنين في سرهم ان تكون زوجة لأحدهم. أصبحت تستغل خروجه من الفجر، لكي تخرج الى السوق وتستمتع بمغازلة الصائغ لها وبائع الملابس النسائية، وآخرون من الباعة الذين كإنوا ينظرون اليها بشغف ويعطونها بعض المال وبعض الاحتياجات الخاصة الاخرى، وتعود قبيل الظهيرة لكي تعد طعام الغداء.

كان الصائغ بالنسبة لها يمثل دور العشيق لانه الوحيد الذي تحدثه عن مشاكلها التي تتخيلها مع زوجها، وعن زواجها القسري ومتطلباتها كامرأة. وبائع الملابس النسائية الذي كان يشكو لها من زوجته المريضة، وكيف يشعر بإهمالها وكيف عبر لها عن أعجابه بها وانه يتمنى لو ان زوجته كانت تشبهها. اعتادت بهذه الطريقة ان تسد احتياجاتها وترضي رغباتها، لكن كل ذلك لم يثنيها عن رغبتها بالانفصال عن زوجها، لو أتيحت لها فرصة الزواج برجل اغنى وأفضل حال منه. مما دفعها بالموافقة على دعوة الصائغ المتكررة لها، في ان يلتقي بها في مكان بعيد عن منزلها ليحدثها عن رغبته بالزواج منها في حال انفصلت عن زوجها، ضعفت امامه ولبت رغبته مستسلمة هي ايضا لرغباتها. رافقته وانطلقا سويا قاطعا مسافة بعيدة قاصدا مزرعته الخاصة خارج المدينة، مزرعة كبيرة جدا تضم أشجارا من الحمضيات والنخيل، وحضيرة لتربيه المواشي، بني داخلها منزلا كبيرا تحرسه كلاب سلوقية كبيرة قيدت بسلاسل طويلة، تراقصت عيناها فرحا بصمت وذهول، وهي تجول بناظريها الى هذا العز الذي اخذ بلباب عقلها. تقدمت وهي تضم يديها تحت ابطيها بحذر استدلتهما حين رأت اثاث المنزل الانيق والفخم، أرتمت عليه قبل أن ترتمي بين ذراعي واحضان ذلك الصائغ، متمنية ان تصبح زوجته ويكون كل هذا ملكا لها، نظر اليها والابتسامة تعلو وجهه تقدم نحوها وضمها اليه بقوة: وجهك جميل ورائحة عطرك ساحرة ومميزة، كم كنت انتظر هذه اللحظة التي تجمعنا سويا بعيدا عن أنظار الجميع انت لي وحدي انا حبيبتي.

كان الطعام والشراب وفيرا ومنوعا وشهيا، دعاها بعد ان تناولا الطعام للجلوس في غرفة النوم والتمدد قليلا على السرير ليستريحا من عناء الطريق. كانت مصرة على حرق تلك المراحل و بسرعة و كل ما يعنيها هو الانفصال عن زوجها والزواج منه، لكن ما كان يعنيه هو الاحتراق في هذا الجحيم الجميل، وأن يمارس خيانته الزوجية كي يرويها بفخر امام رفاقه. بدأ في مناغاتها بكلمات العشق والغزل واقترب منها وهو يتلمس جسدها وينظر الى وجهها الجميل، كان جسدها يرتعش وكأنها بكر، أغرقها في نشوة لذيذة بالتدريج، انتهت بلهاث وأفعال سادية. صرخت من الرهبة واللذة، شعور غريب لم تألفه سابقا انتهى بليلة حمراء. حررها بعدها من بين ذراعيه والنشوة تعتليه، ثم لبس بنطله وزرر قميصه في عجالة وهو يمسح احمر الشفاه الذي لطخ اجزاء من وجهه ورقبته، حاولت ان تتكلم لكنه اغلق فمها بقبلة سريعة باردة ختم فيها ذلك اللقاء الحميمي الذي فقد حرارته بمجرد ان ابتعد عنها ثم ودعها: ابقي الليلة هنا سأعود اليك في الصباح الباكر، كل شئ متوفر لك لا تقلقي، حبست انفاسها وهي تنظر اليه: هل ستتركني هنا لوحدي!؟ دمعت عيناها وخنقتها العبرة ماذا سأفعل؟ اخوتي سوف يفتقدوني وأمي سيفجعها غيابي، زوجي سيقلق علي كثيرا، وسيتحدث عني الجميع بسوء، لا تعرضني للقيل والقال. تقدم نحوها وهمس في اذنها: ابقي الليلة فقط حبيبتي وثقي باني لن اتأخر عليك، انتظري عودتي غدا. 

ساعات المساء مرت ثقيلة، مع هطول زخات المطر وصوت الرعد، الذي شكل مع نباح الكلاب سمفونية حزينة، ألقت بضلالها عليها لتجعل ليلها حالكا طويلا، شعرت بأنه عبث بروحها قبل جسدها، وتركها تكابد المجهول وسط الافكار والكوابيس التي غيبتها عن الواقع وسط وحشه العتمة التي تركها فيها، الى أن افاقت في ظهيرة اليوم التالي على صوت الكلاب وهي تستقبل سيدها وكأنها تود أن تخبره عن مرارة ليلة صعبة مرت لاتشبه باقي الليالي، هرعت اليه بلهفه وعانقته بحميمية محاولة أن تخفي ارتجافات صوتها.

تأخرت كثيرا: كاد الخوف يقتلني. ابعد يدها عنه وتحدث اليها بفضاضة وأطلق زفرات ممزوجة بدخان سيجارته الساخن ونظرات تلوذ بالقلق والحيرة، طلب منها الاسراع بالعودة، الناس يتحدثون عن غيابك إياك وان تتطرقي لما حدث بيننا، انسي كل شيء. عليك ان تبحثي عن سبب مقنع، قولي إنك كنت في المستشفى أو اختلقي أي عذر آخر. سحبها من يدها طالبا منها الصعود الى السيارة كي يعود بها الى اهلها. رفضت الصعود: ماذا سأقول لإخوتي ولزوجي؟ ماذا لو اكتشفوا كذبي، عاد مرة ثانية محاولا سحبها بالقوة كفي عن الكلام ولاتضيعي الوقت تراجعت الى الوراء، وتحدثت معه بعبارات مطمئنه مدعيه امامه الشجاعة: لاشي يدعوا للقلق أتركني فقط لا شأن لك بي بعد الان أنا من أخطأ وانا من يصحح خطئه. فقط دلني على طريق الخروج من هنا، حاول أن يقنعها بالعودة معه للمرة الاخيرة لكنها رفضت، تركها قائلا لها بإشارة حازمة من يده، أذهبي الى الجحيم وإياك أن تذكري اسمي امامهم. خمنت انه سينظر اليها نظرة وداع. لكنه طلب منها بصوت عال، عليك أن تسرعي لأني سأغلق الباب ولن أعود.

لملمت الخذلان داخلها ولعقت جراحها، وهي تجر قدميها بصعوبة كمن يساق الى منصة الاعدام، لكنه كان الى طريق المجهول الذي رسم أمامها خيارين أما مواجهة اخوتها وزوجها وكلام الناس، او أن تميت قلبها وتسير في طريق الضياع. شقت طريقها بين اشجار البساتين المجاورة لمزرعته وهي تبكي بدموع ساخنة دون أن تلتفت خلفها.

بعد ثلاثة ايام متعبة من البحث والتخمينات الخائفة، بين ردهات المستشفيات وبرادات الموتى وسجلات الحوادث توقف البحث عنها حين استسلمت جثتها للتيار وحركة الموج، التي زفت جسدها بلاطبول ومزامير رافقة صياح النوارس واشعة الشمس الحارقة. لتطوى صفحة حياتها في ذلك النهر البعيد دون أن تسمع ما تعهد به زوجها من الوفاء لها طوال حياته.

***

نضال البدري - بغداد/ العراق

 

نعم ولا.

هذا لغز؟

عذراء 80% 20% غير

بريئة؟

نعم

طماعة؟

جاء الرد:

طموحة

كتبت ثانية

تطمع

10%

باردة الأحاسيس

لا 80% 20% نعم

هل أجرت عملية ترقيع لعفتها

توقع10%

بدت السعادة تلوح على أساريري حين جاءت أجوبة الصديق المفترض مطابقة لما سمعته منها، فانسحبت من المقهى الغاص بالزبائن ومشاهد الرصيف الجميل إلى البيت، جلست أراقب المخترقين وأتابع صفقات المديرية وحركات موظّفيها.تناولت غدائي على عجل .. بعض الجبن وخضار، وحين حلّ المساء طلبت من الممطعم القريب (بيتزا) بعد ربع ساعة دفعت للعامل ثمن الطعام والبخشيش ولم أتعّمد النظر إلى وجهه، أغلقت االباب والتهمت طعامي على عجل ثمّ رحت أواصل عملي، قضيت اثنتي عشرة ساعة، بعدها اءني طلب من السيد المدير في أن أبقى في الشغل لظرف طارئ يتعلق بصفقات جديدة.استلمت الرقم السري للصفقة بالهاتف النقال، تحاشيا لأيّة محاولة تلصّص وعدت أكمن وأطارد.

مازال الوقت مبكرا والسعادة تفيض من وجهي:التقطت نفسا عميقا.. إحساس بالصداع والنعاس ينتابني.جاءتني بعد ساعتين إشارة من المديريّة، فأغلقت حاسوب العمل، واضطجعت على الأريكة الطويلة في صالة الاستقبال.الوقت متأخّر قليلا. الحادية عشرة.يمكنني أن أتصل بها.المشاعر تلغي الزمن، وهناك رغية تلحّ.وجدتها صاحية تسهر مع النّت.

داليا.

هل أنهيت عملك؟

قبل ساعات.

هناك أمر جِدّي أودّ أن أحدّثك عنه.

طبعا لم تغامر باالسطو

الحق فكرت.موهبتي تغريني لكنني لم أرد أن أتحوّل إلى شيطانٍ يؤذي الآخرين.

يوما عن يوم تكبر في نظري.

إذن هل تتزوّجينني.

ههه ههه

ماذا؟

ههه ههه

لِمَ تسخرين.

كنت أعرف ذلك قبل أن تنقذني من مصيبة الهاكر.

هذا ضرب من الخيال

بل الواقع

هل أنت واعية لما تقولين؟

وأصرّ على أني صاحية تماما ومسؤولة عمّا أقول.. !

أتأمّل قليلا:هل كانت تطاردني في غلفة منّي؟

كيف كنت تعرفينني؟

إسمع هل تؤمن بالعرافة؟

لا أدري؟

إسمع قبل أن ننقذني من ورطة الهاكر بشهر زارت أمي الشرق هناك التقت عرافا مشهورا كانت تثق به قبل أن يأتي أبي بها إلى الغرب قال لها أشياء عن المستقبل وعندما رجعت سألتني هل أحب مسلما؟

هل فاجأك الخبر

ذلك الوقت لم أكن أعرفك فأجبت بالنفي

النبؤءة..

الخرافة..

الهاجس يلوح من جديد .. على وشك أن تتحقق.. خطوات بيني وبينها، فأتفق معها على موعد، وأغادر الجهاز.

ارتميت على الأريكة، وسرعان ما غرقت في نوم عميق.لا أدري كم طالت نومتي غيابي الوحيد عن هذا العالم الذي أثق فيه.كأني قبلها يقيت صاحيا دهرا.حلمت أني أطير، وأستقلّ الحافلات، أركض في الشارع، أدندن مع نفسي، أعرف جميع لغات العالم، اخترق الجدران

سوبرمان..

لاحدود لقوّتي التي مارستها في شبكة العنكبوت

وحين صحوت، بعثت رسالة إلى السيد المدير أخبره أني مريض ولن أقدر على العمل اليوم.

من حسن حظي أني تآلفت مع الشارع في الحلم

الشّارع الذي لا نهاية له..

قبل الحلم راودتني شجاعة مذهلة في أن أحدد لقاءنا إلى مكان آخر غير منزلي أو مكانها .. هي المرّة الأولى التي أخرج فيها بعد أن مارست عملي الوظيفي من البيت.

هناك رهبة تولّدت في نفسي من الشارع

وقلق من الزحام

كأنّي أرى الشوارع تغيّرت ووجوه العابرين تختلف، هذه المرّة شحذت انتباهي إذ لم يكن يهمّني أن أتفرّس بوجوه االمارّة الذين ألمحهم من النافذة التي أفتحها كلّ صباح لأجدّد هواء البيت.. بعد انهماكي في العمل وقع بصري مرة أو مرتين على ساعي البريد وهو يسلّمني رسائل مضمونة، كنت أعرف أن الرسائل العادية تصل حين أسمع الشِق ّالمعدني أسفل الباب يصدر صوتا وهو يقذف إليّ بالرسائل.. بعض الأحيان أهبّ إلى شقّ الباب فأجد إعلانات لمطاعمَ وشركاتٍ حتّى هذا المشهد اختفى بعد أن حُوّلتُ كل مراسلاتي إلى النت.

كأنّي لا أحبّ أن أنظر إلى الوجوه

ولم اعد أبالي بأيّ مرض أو طاعون يجتاح العالم

يضع العاملون طعامي وشرابي أمام الباب فألتقطه من دون أن أنتبه إلى وجوههم ولا ألمس أحدا

لكنّي

خلال دقائق انتفضتُ من شرنقني

بوضوح أكثر: داليا دفعتني

حفّزّت في روحاً جديدةً

مغامرةً لذيدةً

ويبدو أَنَّهَا أخرجتني من عزلتي لأرى عوالم غريبة تحطيني.اتفقت معها علىى أن نلتقي في المنتزه القريب من محلّ.. سكني الشارع الثالث من جهة الدوار.. منتزه هادئ تعوّدت أن آوي إليه عندما اعتدت على الخروج.

كنتُ في شكٍّ من أمري

كلّ شئٍ تغيرت ملامحه

واستبدت ملامح التبدل في الشوارع

تشوّهت وربما ازدان بعضها بحلّة جديدة

هناك شئٌ ما غيّر المدينة

مشاهد ضاقت وأخرى اتسعت

المنتزه تفسه تقلص حجمه ورأيتُ بعض العمال وأدوات حفر من جانبه الجنوبي

قلت لا شكّ إنها عيني التي اعتادت على ضوء المنزل ترى المناظر بشكل آخر مثل رجل يخرج مباشرة من ظلمة إلى ضوء.

المشاهد لبشر ونبات وحيوات رأيتها على الشاشة ذات بريق ولمعان..

عبرت الباب الرئيس وحثثت الخطى إلى المسطبة حيث تجلس..

وحالما اقتربت تراجعتُ

بُهتُ

وشككتُ في عيني مرة أخرى

والبريق الذي آنسني فترة اعتزالي عن العالم..

داليا داليا

كانت هناك امرأة في الأربعين من عمرها تتتظرني

التجاعيد بدأت تزحف أسفل عينيها

لا زالت جميلة كما هي في الصورة

مدّت يدها وهي تقول:

هذا أنت ربما تغيرت قليلا

داليا؟

نعم .. أخيرا رائع جدا بعد عقدين من الزمان التقينا

كم كنت مغفلا.. نسيت نفسي طاردتُ الهاكرس فاخترقتني السنوات، وطاردني الزمن، تربّص بي حتّى تركتُ السنين تتآكل فلا أشعر بها هل يعقل أني لم أنتبه إلى نفسي أعمل، أدفع الفواتير، أسأل الطبيب، أتبضّع.. أشتري الطعام والملابس عبر النت فلا درك الوقت إلإّا من خلال شاشة صغيرة تلمع أمامي إلى درجة أنّي كنت أتحدث مع داليا كلّ يوم بالكتابة أحيانا وبالصوت أحيانا أخرى أم الصوت والصورة فأرى وجهها مثلما عرفته منذ أن رأيته المرّة الأولى لا يتغيّر.. يتطاول على الزمن.قلت والحيرة مازالت ترتسم على وجهي:

أووه ربع قرن لكن ماذا عنك أنت؟

أنا مثلك نسيت نفسي ولم أنتبه إلى خديعة الوقت

كم مرّت من أحداث..

حروب..

احتفالات

نصر.

.هزائم مات ملوك .. هزّات أرضية.. عوالم تفنى وأخرى تولد.. أشياء جميلة تصبح ممسوخات وأخرى قبيحة تصبح رموزا للجمال.. كان وجه داليا البرئ وهي في سنّ العشرين ينطبع في ذِهْنِي إلى الأبد.. كنا نتحدّث كلّ يوم تقريبا ويكتب أحدنا للآخر ولم نرَ علامات الزمن تزحف على وجهينا

هاكر جديد يتربص بنا

أسميه الآن في هذه اللحظة هاكر الزمن

ولا عتب على صديقني الشبكة هي لاتكذب عليك لكنها لا تنبِّهك إلى خطر يحيط بك

دخلت في ضحك متواصل وضغطت على يدها وأنا أقول :

مارأيك ألا نجلس أو نذهب إلى أي مكان ذي سقف بل نظلّ نمشي ونمشي

فابتسمت، وتساءلت:

ماذا لو تعبنا

قلت بهزة من كتفيّ:

، نقف قليلا نلتقط أنفاسنا بل لا نفكّر بأي مكان نستريح!

وغادرنا المسطبة.. رحنا نمشي ونمشي نتحدث ونضحك نصمت أو ينظر أيٌ منا بعيني الآخر

تعقيب:

كانت هناك نواة لهذه الرواية التي يمكن أن أسميها رواية جيب مهجرية كتبتها في االبدء قصة لمحة ووضعتها في دائرة ثمّ جعلت من الحاسوب أو النت أو الشّبكة العنكبوتية شخصا وتعاملت مع الزمان والمكان بشكل آخر، وفق المخطط أدناه:

 

قصة اللمحة

مطارد المخترقين

كنت سعيدا جدا حين أبلغني رئيسي في العمل أنني يمكن أن أشتغل من البيت.وشغلي نفسه الذي يمتاز بخاصبّة فريدة لا يتطلب مني أن اذهب مثل بقية الموظفين إلى العمل.يمكن أن أكون في البيت وأراقب الكومبيوتر.أحمي المديرية التي أعمل فيها، من المتطفلين والمزعجين والسراق، ومن بحاولون أن يبتزوا الزبائن، أو يتحايلوا على البنوك.

وقد وجدت في ذلك راحة لا متناهية.. أجلس في شقتي المتواضعة وأراقب.. أصطاد الهاكرز والطفيليين عصابات السرقة.

راق لي العمل والجلوس في البيت

وتحولت إلى كتلة من النشاط.

أطنني تحررت من الكآبة تماما.

أجلس صباحا، أفكر وأعد نفسي للعمل.

بدلا من أغادر منزلي في أثناء تساقط الثلوج أو الحر فترة الصيف، وقد أصبح عرضة لهواء المدينة الملوث والزحام والفوضى، أكون بدأت عملي الساعة الثامنة بذهن صاف

راحة

أمان

راتبي الشهري يدخل في حسابي عبر النت.. أطالع باهتمام الفاكهة والخضار واللحوم والألبان على الصفحات الألكترونية فيصل إلي ( الدلفري) وقتما أشاء.

كل شئ يصلني إلى البيت.

أما صلتي بأصدقائي فكانت عبر الهاتف ثمّ انقطعت تماما.

اكتشفت أنّي يمكن أن أعيش من دون صداقات.

ولا يشكّ أحد تماما أن العمل من البيت أغناني عن كثير من المتاعب وجنبني مشاكل الشارع، في الوقت نفسه منحني الهدوءالذي افتقدته في زمن الفوضى حتى اكثر الفنون متعة مسرح وسينما انتقلت إليّ في البيت.

ماعدا أمرا مهما لم أكن لأستغني عنه.

هو الذي يتعلّق بمشاعري وأحاسيي.

الحب

المرأة

العاطفة التي قادتني إلى الآنسة دالية..

في أوقات الفراغ

وليست هي المصادفة

عثرت على أحد المحتالين يحاول أن ينصب على فتاة فاخترفت بطريقة احترافية رقمه السريّ

ثمّ كشفت تلاعبه أمامها

ولعلّها عدتني شهما

أو

بطلا

كتبت لها إنّ الأمر عاديّ ولايستحق كل هذا الثناء

فأعجبت أكثر بتواضعي

وبدأنا نتراسل

حدثتني عن نفسها وحدثتها عن بعض خصوصياتي

كل ليلة قبل أن أنام أكتب لها :تقول :إنها لا اقدر أن تنام إن لم أكتب لها

وشيئا قشيئا

تحولت العادة إلى حب

حب جارف بيننا

هي المخلوق الوحيد الذي أحدثه فكل يومي أقضيه في متابعة الكومبيوتر .

ألغيت الخارج من ذهني

وأقصر عمل أقوم به أفتح نوافذ البيت للتهوية

أو

ألقي نظرة على الشارع من نافذة غرفة الاستقبال

أصبحت محور العالم

كلّ ما في الخارح يأتيني

وحين حان الوقت بعثت لي داليا بصورتها فأرسلت لها صورتي

كانت فتاة رائعة في العشرين من عمرها أصغر مني بخمس سنوات

وهي المرة الأولى التي أحاول أن أخرج فيها بعد أن كلفني السيد المدير بالعمل من البيت

هناك رهبة تولدت في نفسي من الشارع

وقلق من الزحام

كأنّي أرى الشوارع تغيرت ووجوه العابرين تختلف، هذه المرة شحذت انتباهي إذ لم يكن يهمني أن أتفرس بوجوه العابرين الذين ألمحهم من النافذة التي أفتحها كل صباح لأجدد هواء البيت.. بعد انهماكي في العمل وقع بصري مرة أو مرتين على ساعي البريد وهو يسلمني رسائل مضمونة، كنت أعرف أن الرسائل العادية تصل حين أسمع الشِق ّالمعدني أسفل الباب يصدر صوتا وهو يقذف إليّ بالرسائل.. حتى هذا المشهد اختفى بعدما حولت كل مراسلاتي إلى النت.

ويبدو أنّ داليا أخرجتني من عزلتي لأرى عوالم غريبة تحطيني.اتفقت معها علىى أن نلتقي في المنتزه القريب من محل سكني الشارع الثالث من جهة الدوار منتزه هادئ تعوّدت أن آوي إليه عندما اعتدت على الخروج.

كنت في شك من أمري

كل شئ تغيرت ملامحه

واستبدت ملامح التبدل في الشوارع

المنتزه تفسه تقلص حجمه ورأيت بعض العمال وأدوات حفر من جانيه الجنوبي

قلت لا شكّ إنها عيني التي اعتادت على ضوء المنزل ترى المناظر بشكل آخر مثل رجل يخرج مباشرة من ظلمة إلى ضوء.

عبرت الباب الرئيس وحثثت الخطى إلى المسطبة حيث تجلس..

وحالما اقتربت تراجعت

بُهتُ

وشككت في عيني مرة أخرى

داليا

كانت هناك امرأة في الأربعين من عمرها اتنتظرني

التجاعيد بدأت تزحف أسفل عينيها

لا زالت جميلة كما هي في الصورة

مدت يدها وهي تقول:

هذا أنت ربما تغيرت قليلا

داليا؟

نعم أخيرا رائع جدا بعد عقدين من الزمان التقينا

كم كنت مغفلا.. نسيت نفسي طاردتُ الهاكرس فاخترقتني السنوات، وطاردني الزمن، هل يعقل أني لم أنتبه إلى نفسي.. أعمل، أدفع الفواتير، أسأل الطبيب، أتبضّع.. أشتري الطعام والملابس، الناس أمامي صور وأصوات فلا أدرك الوقت .قلت والحيرة مازالت ترتسم على وجهي:

أووه ربع قرن لكن ماذا عنك أنت؟

أنا مثلك نسيت نفسي ولم أنتبه إلى خديعة الوقت

فدخلت في ضحك متواصل وضغطت على يدها وأنا أقول :

مارأيك ألا نجلس أو نذهب إلى أي مكان بل نظل نمشي ونمشي

فابتسمت، وتساءلت:

ماذا لو تعبنا

قلت بهزة من كتفيّ:

عندئذ نفكر ماذا نفعل

وغادرنا المسطبة.. رحنا نمشي ونمشي نتحدث ونضحك نصمت أو ينظر أيٌ منا بعيني الآخر، نقف قليلا نلتقط أنفاسنا بل لا نفكر بأي مكان نستريح!

***

د. قصي الشيخ عسكر

 

أجدادُنا البدوُ

كانوا إذا وعدُوا … صدقُوا

فالكلمةُ تخرجُ من الحلق

مرّةً واحدةً… قالوا

كالرّوح تمامًا

*

أجدادُنا البَدوُ

يَطؤُونَ الحِجارةَ

والرّمْضاءَ

اللّهُ زادُهُمْ

وحَفنةُ التّمر

*

أجدادُنا البدوُ

كانُوا يُؤرّخُون بعام الصّابةِ

أو بعام الوباءِ

ـ مُحمّدٌ ـ عَلِيٌّ ـ عائشةٌ ـ

عندهُم أحسنُ الأسماءِ

وليسَ في الدّنيا أَحَبُّ لديهِم

مِنَ الخَيْلِ…. والنّساءِ

*

أجدادُنا البدوُ

يأكلونَ ما حَضرْ

يَلبسُون ما سَترْ

يَنزلون و يَرحَلون

ولا ينحنُون لأحَدٍ

مِنَ البَشرْ

فَظلّتِ الأرضُ تحتَهم

أضيقَ من خُطاهُم

وَسابعُ السّماواتِ

لم تكنْ مرّةً

أطولَ من أنْفِ

أقْصَرهِم

*

نحنُ الأحفادُ

نقضي أعمارَنا في صناديقَ

والصّناديقُ

في عِمارهْ

ثمّ نقولُ أهلاً وسهلاً

بالحَضارهْ

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

 

كانت البنت قد خرجت خلسة، لا أحد يحفل بالأم وهي تتوحم، هي وحدها أحست بها، أو هكذا بدا لها، هي لا تريد فاكهة، ولا لحما ولا خضراوات نادرة، ولا أي شيء تأكله، قد لاحظت البنت أنها لم تكف منذ الصباح عن الحديث عن الروائح، قالت لها وهي تتشمم الهواء:

- عطر.. عطر غريب.. ساحر يا ابنتي!

دلفت البنت يمنة في زقاق طويل، بسوق زحفت عليه العتمة سريعا، تريد أن تجد قارورة العطر تلك. عشرة دراهم في كفها، تمسك بها بقوة. تذكر أنها في وقت ما كانت قد رأت تلك القارورة الصغيرة العجيبة، في محل غير بعيد بهذا السوق، لا بد أن تجدها، ولا بد أن تقنع البائع بمساومتها، ستحصل على هذا العطر الذي تتوحم به أمها وتأتيها به.

الليل اجتاح المدينة، البنت تبحث عن قارورة العطر، يخبرها صوت بداخلها أنها ستجد ذلك العطر خائفة حائرة.. لكنها مصرة على إيجاد المحل، لا تزال قطعة النقد في كفها المطبقة، تسير بسرعة.. تتوغل في درب مظلم.. تسير وقلبها الصغير يدق.. هناك في عمق الظلام ضوء، تسير نحوه.. هناك، ربما يوجد ذلك المحل.. تسرع الخطى.. ستجد ذلك المحل، لا محالة.. والقارورة الساحرة الصغيرة لا بد انها تتربع على رف بالواجهة الزجاجية للمحل، إنها في شكل قلب فاتن أحمر، يلف جيدها خيط حرير رفيع ذو لون زهري ورأسها الصغير يحمل طربوشا أحمر.. تسير بإصرار، متوجسة، مسرعة.. استدار الدرب.. بلغت بقعة الضوء، وجدت بابا خشبيا مهترئا، به فجوات وشقوق يتسلل منها الضوء، كما تسللت هي من البيت لتحضر ذلك العطر الساحر لأمها، توقفت قليلا، ترهف السمع.. سكينة مطبقة.. تقدمت نحو الباب المهترئ.. قلبها لا يزال يدق بقوة.. دفعت دفة الباب بحذر.. أصدر صريرا مخيفا.. تردد صداه في الزقاق.. اقشعر جسدها الصغير.. فكرت أن تعود أدراجها.. لكن الأم تتوحم بالعطر، تلك القارورة لا بد أن تحصل عليها، نزلت في درج معشوشب مضاء بمصباح معلق في الجدار، كان هناك مدخل.. سمعت خرير الماء.. دخلت.. رأت شموعا تضيء غرفة، دخلت الغرفة.. رأت حوضا ونافورة ماء.. رأت قارورات عطر فارغة، وأخرى بها أنصاف، في كل مكان من الغرفة، في وسط الحوض ثقب صغير كمجرى للماء، سمعت أصواتا رجالية خلف الجدار، هرعت خارج الغرفة، صعدت الدرج، رأت رجلا ملتحيا، يتبعها ويناديها:

- تعالي يا ابنتي!... لماذا دخلت حمام الموتى؟

توقفت قليلا، أجابته حائرة :

- حمام الموتى؟!.. لكنني أريد قارورة العطر الصغيرة الجميلة.

عندما كاد يقترب منها، توجست منه، قال لها في تودد:

- أنت قارورة العطر!

تحسست جسدها ورأسها

- أنا؟ لا!

- تعالي!.. أعطيك عطرا ساحرا

- لكنه عطر موتى!!

خافت منه كثيرا.. كان قد بدأ يصعد الدرجات.. لمحت في عينيه بريقا لم يعجبها.. جرت في الزقاق الطويل المظلم.. كانت تعدو وتصرخ.. وكان هو خلفها، يمسك تلابيب جلبابه بأسنانه وهو يلاحقها.. وكان النور يلوح في أفق الزقاق شيئا فشيئا...

***

قصة

عبد القهّار الحَجّاري

 

 

الفصل السادس من رواية: غابات الإسمنت

في اليوم التالي ذهبت إلى ورشة العمل، كنت صاحبة محل، وظننت أن لجنة السجن ستجعلني أتعلم الخياطة مع مديحة الأقرب إليّ، غير أني فوجئت بقسم الحلاقة.. حلاقة السيدات، في الطريق إلى الورشة قالت لي مديحة بهمس:

- أظنكِ فهمت طبيعة العمل.

- أي عمل؟

- لا تتصنعي البله.. كل ما أروم قوله: لا تعارضي قط.

- أترين ذلك؟

- لا تعتقدي أنك ستتجسّسين علينا، فلن يستفيدوا من أخبارنا شيئا؛ لكن اغتنميها فرصة تقيك عوادي الزمن.

تنفستُ الصعداء؛ إذ إن مديحة تعني أمرًا آخر غير ما فعلته السيدة النقيب معي، فهل أظن أنها اختارتني وحدي في تلك الخصوصية؟ وأنها لا تعنى بالأخريات أو أنهن لا يثرنها، وكانت مديحة تواصل نصيحتها ويكاد صوتها يتلاشى بالهمس:

- أقرب طريق للنجاة ولنصف المدة، انسي قول لا تماما، نسحق وجعنا ونمشي ونبتسم، هكذا سنخذل من ينتظر سقوطنا أكثر.

وافترقنا.. ظننت أن السجينات معي كدن يرين لمسات السيدة النقيب على جسدي من وراء الثياب، وتساءلت: هل فعلتْ الأمر مع غيري؟

ثم اقتنعت أن نظراتهن إليّ لا شك فيها، هناك الطيبات والمجرمات، ولا تستفز واحدة منهن الأخرى، بعضهن يدخّن، وأغلبهن يتحدثن بصوت عال، كان صالون الحلاقة جنب ورشة الخياطة، وكانت هناك لدينا نصف ساعة للاستراحة والحديث، ولم توجد أية رابطة تشدّني للسجينتين اللتين معي في الصالون؛ نجاة نشّالة سليطة اللسان، وأشواق التي لا تعرف واحدة منا جرمها.

كنت ألتقي رفيقتي مديحة في الفرص، ولم أكن بعد أعرف جرمها وسبب سجنها، ولم تسألني عن فعلتي، غير أنني من دونما وازع أسهبت معها في الحديث عن نفسي، تكلمت كثيرًا.. طويلًا، ثم انتبهتُ إلى أنني نسيتُ أن أسألها، هل أكشف نفسي للأخريات من دون أن أعرف من هنّ؟

توقفتُ عن الكلام برهة قلت:

ـ ها إنك عرفتِ عني كل شيء تقريبًا، فهل من حقّي أن أعرف من أنتِ؟

فنظرت إلي بعينين ماكرتين وابتسمت:

ـ تريدين أن تعرفي الآن أم بعد أن نخرج؟

ـ بل الآن؟

ـ حسنا.. أنا مهربّة مخدّرات وزوجي سياسي معارض شهير، طلقني غداة تم الكشف عن حفنة مخدرات في البيت؟

ـ ولمَ لم يُتهم هو؟

ـ كان في الحبس.

ـ وهل صدّق؟

ـ صدق أم لم يصدق، في كل الأحوال هو مات من الصدمة، من الخبر، من التعذيب.. الله أعلم!

ـ هل تزوجتهِ عن حب؟!

ـ أووه.. كان كلّ شيء في حياتي، بل كل حياتي. عندما كنتُ أطلب منه أن يقول لي كلمة لم يقلها لأمرأة قبلي، ولن تسمعها امرأة بعدي.. كان يقول: يا أمّ قلبي وسعادتي.

وهمستُ كأنّي أخاف من شيء مجهول يختلس السمع لكلماتي:

ـ يعني أنك السجينة السياسية الوحيدة من بيننا.

ـ بل قولي زوجي.. أنا ضحية، وأقسم أني ضحية.. لا سامح الله من كان السبب في إرسالي إلى هذا المكان.

انتهت الفرصة فعدنا إلى التدريب، كنت أقف أمام الرؤوس الجميلة المصنوعة من البلاستك، رجال ونساء بشعور طويلة، أقلّبها وأتمعن فيها وأرى التسريحات المختلفة لتلك الرؤوس، أمشّطها وأسدل لكلّ منها شعرها.. أتابع إرشادات المدرّبة ثمّ أتحوّل إلى الأحواض والحنفيّات، ورفوف انتشرت عليها مقصّات وفرش وبضعة أمشاط وعلب صبغات ملونة للشعر.

تلك ستكون مهنتي الجديدة إذا ماخرجت من السجن، كان معي سجينتان أخريان لا تربطني بهما إلا علاقة بسيطة لا ترقى لأن تكون علاقة صحبة وصداقة مثل علاقتي مع مديحة، سألتني الأولى التي كانت تغسل الرأس ذا الشعر الأشقر الطوليّ الخِلقة:

ـ هل صحيح أنك قتلتِ زوجكِ؟

صُدمت للسؤال المفاجيء، على الرغم من أنها كانت تسأل بابتسامة ودودة وتساءلتُ:

ـ كيف عرفتِ الخبر؟

فاندفعت الأخرى ذات الملامح الأربعينية، التي كانت تتدرب على مقص من البلاستك ومشط:

ـ والله، خيرا فعلتِ.. بطلة؛ الرجال يستحقون أكثر من الموت، كلاب مسعورة.

ثمّ أقبلتْ المدربة الطويلة ذات الخمسين عاما وهي تقول محذرة:

ـ هنا لا حديث آخر غير ما يخصّ العمل، وإلا سأرفع تقريرًا بكن إلى السيدة النقيب.

ابتسمتُ في سرّي وتصورت آهات قرفت منها، شعور بالفرح والغثيان، كنت قلقة ومرتاحة في الوقت نفسه، ولا قرف يعلو على رؤية امرأة ترى زوجها عاريا مع أخرى في فراشهما الزوجي، وقد جعلتهما يسبحان في بركة دم، وعيونهما جاحظة نحو السقف، لعلني وجدت في السجن بعض الراحة، ولعلّ السيدة النقيب أعادت لي بعض كرامتي – ربما- وانتقامي.

وأنوثتي أيضا، أنا امرأة تفجرت أنوثة فلماذا خانني زوجي؟ ماذا تملكه الأخريات زيادة عني؟

وكلّ منّا كانت على قدر كلمتها، ونتصرّف بإنسانيتنا بلا غبش، ولا تحقير، ولا نفاق، ولا مكائد، على الأقل هذا ما رأيته في مجموعتنا.

وحالما عدنا من مكان التدريب بنهاية يوم يبشر بالحرية والعمل، حتى رأيت سجينة تصرخ وتندفع نحوي، فهرولت نحوها، لم أكن أحلم، ولا أتوهم، رغم أن الوهم لا يوازي الحلم.. كانت كريمة التي تركتها في التوقيف، ضممتها بين ذراعي، كانت باهتة، شاحبة، صفراء تكاد تسقط فاقدة الوعي، وقبل أن أسألها قالت:

ـ إعدام إعدام، سيشنقونني.

وانهارت في شبه إغماءة، غير أنها كانت تنشج نشيجا متقطعا.

نشيج ميت.. والدموع تسيل على خديها، أيّ سلاح تملكه مخلوقة تعيسة مثلها غير الدمع؟ وسائل لزج يتساقط من أرنبة أنفها، راحت مديحة تمسّد شعرها وتمسح المخاط السائل من أنفها، وأنا أردّد لكي أصبّرها:

هناك الاستئناف، والأمل بالله كبير؛ والسجينات الأخريات يرددن ما أقوله، كأننا بالأمل والدعاء نفتح عقدة حبل المشنقة ليكون سلّما ترتقيه إلى السماء فتنجو من الموت.

***

ذكرى لعيبي

 

 

اقامت امراة ستينية دعوى تحرش على رجل تجاوز الستين بأكثر من خمسة واوكلت محامي عنها فتم توقيف الرجل ثم أطلق سراحه بكفالة ضامنة لحضوره يوم جلسة الحكم وبعد عدة مرافعات حدد حاكم محكمة جنح الرصافة (خ. ك. ت) جلسة الحكم وأكد على حضور طرفي النزاع الجلسة وفي صباح ذلك اليوم صدح المنادي.. محكمة

مرر القاضي نظره على أوراق الدعوة ولاحت ابتسامة خفيفة على محياه ثم نادى على المشتكية وطلب منها تلاوة شكوتها فضج الحاضرين بالضحك وترددت هي فضرب القاضي المنصة بمطرقته مرتين وأمر الجميع بالصمت

قالت المشتكية..

في صبيحة ذلك اليوم كنت ذاهبة الى دكان المضمد لقياس مستوى (الضغط) عندي فوجدته هناك لقياس مستوى السكر في دمه وجلست قريبا منه فهمس هو بالقول..

(اول مرة بحياتي ارى غزالا في غرفة مضمد)

فضج الحضور بالضحك وابتسم القاضي وقهقه المتهم الواقف داخل قفص المحكمة ثم كرر القاضي ضرب المنضدة بالمطرقة وطلب منها أن تكمل..

قالت المشتكية فسألته..

تقصد من بكلامك هذا؟

فرد علي: لا عليك انا أصاب بالهذيان كل ما ارتفعت نسبة السكر في دمي ومع هذا تقبلي اعتذاري وطبطب على ركبتي التي كانت قريبة منه، هنا ثارت ثائرتي وشتمته وارتفع ضغطي حتى تدخل المضمد وفحصني ثم قدم لي كأس من شراب الليمون البارد

فسالها القاضي:

مادام اعتذر منك لماذا الثورة يا حاجة؟

فردت المشتكية:

تمنيته كان شجاعا وأعترف انه كان يقصدني وليس هذيان شخص ارتفعت نسبة السكر في دمه

فاردف القاضي:

وماذا يغير من الوضع لو انه اعترف بأنه كان يقصدك؟

. يتغير كثير يا حضرة القاضي

. كيف؟

. عندما يعترف انه يقصدني سيخالجني شعور وإحساس جميل اني لازلت جميلة والفت نظر الرجال وادفعهم للتحرش بدلا من أن يعتذر بالهذيان.. الست أنثى ولي مشاعر لماذا لا يحافظ عليها هذا المدعي زورا انه يهذي وليس متحرشا بفتاة دخلت دكان المضمد صدفة.

هنا تعالى ضحك الحضور ودوى تصفيق للمرأة صاحبة الضغط والشكوى والستين والاحاسيس الأنثوية .

ضرب القاضي المنضدة بمطرقته الخشبية وهو يقهقه ويفصل كفيه عن بعضهما بعد أن شارك الحضور بالتصفيق.

ثم سألها القاضي وماذا تريدين الآن؟

. اريده أن يكون صريحا ويعترف انه يقصدني بعدها يعتذر مني بقبلة يحددها القضاء أن رغب على خدي أو فوق جبيني.

قال القاضي لك ذلك لكن لنسمع دفاع المتهم الآن ثم التفت القاضي نحو المتهم وسأله:

. بماذا تدافع عن نفسك؟

فقال المتهم..

عذرا سيدي انا لست متعلما بما يكفي ولا اجيد رصف الكلمات وتزويقها من اجل الحصول على حقوقي في الماضي وبراءتي اليوم من تلك التهمة التي هي تدفع للبكاء وليس الفرح او الاتخار بها كما يحصل مع البعض فهل تسمح لي بالكلام على طبيعتي؟

. نعم تفضل لكن مع مراعاة اختيار الألفاظ من غير إساءة

. امرك سيدي

. تكلم

. سيدي انا سكري غير منضبط ويتعبني احيانا وبعد أن تجاوز الحد هرعت للمضمد ورغم ارتجافي كان المضمد مشغول بهاتفه الشخصي ثم دخلت الست (المزيونه) وعطر المسك يسبقها فظننت أن المضمد سينشغل بها ويهملني فقلت ما قلت عسى أن تتنفرز وتترك المكان ليفحصني المضمد.

. ماذا لو قمت بإحالة أوراق الشكوى إلى المحكمة الشرعية وطلبت من قاضيها عقد قرانك عليها بسبب تحرشك بها؟

هنا تعالى تصفيق الحضور للقاضي ولوحت المشتكية بيدها تحية له لكن المتهم استمر بقهقهة عالية فسأل القاضي علام القهقهة أيها المتهم؟

فقال المتهم..

سيدي..

انا مواطن انهكه التعب في بلد لايرحم المسحوقين فيه وعندما سلبني هذا الوطن فتوتي وشبابي وقوتي وبقية عمري رماني على قارعة طريق الامراض من دون ان يعطف علي هذا الوطن بثمن بخس يحميني من غوائل الدهر والامراض لذا كان (المضمد) هو الباب الوحيد الذي يفتح عندما اطرقه هروبا من اوجاعي وهي امراة تنعمت بعيش في كنف والد كان ذا حظوة ووجاهة ومال في عهد سابق وعند الزواج انتقلت الى حضن زوج من الوارثين الجدد الذي جمع المال من كل اطرافه لكنه مات مؤخرا في صراع مع شركائه وهي الان تبحث عن عوض يدفيء فراشها وشيخوختها وابحث انا عن مهديء لأوجاعي في دكان مضمد هل من الانصاف ياسيادة القاضي ان اكون انا عوضا مرتين من دون ان يفكر بي الوطن والقانون ولو مرة واحدة؟

الى هنا ضجت القاعة بالتعاطف معه حتى عجز القاضي عن السيطرة فامر باخراجهم واكمال المحاكمة.

***

راضي المترفي

 

ذاتَ صباحٍ

إِستيقظَ العاشقُ

- الذي هو أَنا -

فوجدَ نفسَهُ طائراً

يترنمُ بسيرةِ الله

والحبِّ والوردِ

والخبزِ والينابيع

*

وذاتَ صباحٍ آخرَ

إِستيقظَ الحالمُ أنا

فوجدَ أَصابعَهُ ناياتٍ

تُرتّلُ سيرةَ الأَرضِ

والناسِ والغرامِ

والنساءِ العاشقاتِ

والمصائرِ الغامضة

*

وذاتَ فجرٍ أَخضرٍ

إِستيقظَ الطفلُ الذي يسكنُني

فوجدَ قلبَهُ يشعُّ اقماراً

ونوارسَ ويواقيت

*

وعندما إِستيقظَ الناسكُ الذي يتَجلّى فيَّ

وجدَ روحهَ تتوهجُ ملائكةً

وأُمهاتٍ وشهداءً

وعشاقاً صوفيين

*

وذاتَ غبشٍ أَبيضٍ

إستيقظَ العارفُ الذي هو أَنا

فوجدَ نفسَهُ كتاباً

يُشعشعُ بالأَسماءِ والرؤى

والوقائعِ المُعتّقةِ

والأَقدارِ اللامرئيةِ

ونصوصِ السماواتِ

و الغيبِ والنشوةِ والعشقِ

والغوايةِ والهدايةِ

فعرفَ سرَّ الأَسرارِ

وراحَ يطوي الارضَ

مثلما يُطوى السجّلُ

وصحائفُ الكينونةِ

وأَلواحُ الأبدية

*

وهكذا ...

أَصبحَتُ في كلِّ صباحٍ

أَستيقظُ فيهِ

أَرى الله في قلبي

وهو ينفحُ فيَّ

من روحهِ

ضوءَ الحكمةِ

وتراتيلَ الخلاص

***

سعد جاسم 

ليْ رغبةٌ في الشعرِ

هل للشِعْرِ رغبةْ؟

يَسهرُ الحُمَّى.. يُرَوِّيْ

مَحْل أيامي العِطاشِ

نَدَىً.. وعُشْبَةْ !

هل لهُ

أنْ يُلْبِسَ الكلماتَ بُرْدَتهُ فَتخضرُّ الرؤى

ويَعُمُّ وعْيَاً سارداً في الناسِ حُلَّتَهُ بأحلا

وتَدُبُّ في أوتار أعينهنَّ عافيةً

وموسيقا...وكُحْلا

فتَصِحُّ بِنْيَتِهَا وتقوى على القريضِ

وتستقيمُ رصانةً

لُغَةً...وصُحْبَةْ ؟!

هل لهُ

أن يحملَ الشعبَ إلَهً

لا يَرى إلاَّهُ حُباً

يستحقُ الحمد في مِحْرابِهِ المغفور ذَنْبَهْ؟!

ويُوافيهِ بِصُبْحٍ يتنفسهُ رَخاءً

بين جَنْبيْهِ معانيهِ تُغَنَّى

ويُصلي نحو (لُقْمَتِهِ) أماناً مُطْمَئِنَّا

ويمُدُّ لهُ يداً تُعْفيهِ عن مَدَّ يَديهْ

لَهُ مُخْلِصَاً

لايُفَرِّطُ شعرةً في حقهِ الحاني عليهْ

في سبيلهِ يَشربُ الموتَ وعَذْبَهْ!

هل لهُ

أن يحتوي وطناً

تَسَرَّبَ من شقوقِ عنائِهِ

طَفَرَاً..وغُرْبةْ ؟!

لي رغبةٌ في الشعر تدفعُني أقولُ...

ولا أقولُ!

وتقولُ أني:

في مدى غَزَلي المُحَدَّثِ لا أُطِيلُ

وأظلُّ أَكْسو بالمشاعرِ

كل سوسنةٍ

وزنبقةٍ...

وخَصْبَةْ!

وتقولُ أنَّ المُعجبات

الرائعات

الدافئات تميُزَاً

قَطَّرْنَ أنفسهنَّ شَهْداً خالصاً

للصَّاحِبِ الموهوب...وَهْبَةْ!

وشَرِبْنَ نَخْبَ وصولهنَّ إلى ضفافِ مشاعريْ

شَرِبَ الندى عصفورهنَّ بألفِ قلبٍ شاعريْ

وأنا وصاحبي رغبتانِ بفرحتينِ

شَرِبْنا نَخْبَهْ!

والشعرُ رغبتهُ تقولُ: ليَ المجالُ

ليَ المجالُ

ليَ المجالْ

فبلِّغوا عني الجَمَالَ بكل حالْ

يا آل بيت الشعرِ

والأدبِ المقدسِ والوصالْ :

إِنِّي بِكُلِّ بَنانةٍ

قلمٌ يُضيءُ.. وشاهدٌ يَهْوَى

ماظلَّ صَاحِبهُ.. ولا في الناس قدِ أَغْوَى

أنا في دِمَاهُ.. وإنني في المُنْتَهى حِبَّهْ

على صِراطي المستقيم أَبُثَّكُمْ

قلبي.. وقَلْبَه!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن – تعز

يا فصحُ قلْ للحبّ مايا لم تَنَمْ

مايا تنير العشقَ في أعلى القمَمْ

*

يا فصحُ قلْ للحبِّ مايا لم تُلَمْ

مايا تحدَّت بالهوى كلّ الهمَمْ

*

يا فصحُ قُلْ للبعث أنتَ خلِ الذممْ

بين الصناديق اشتهى موسى العدَمْ!

*

تحت الصناديق اشترى العرش الشمَمْ!

مايا تنادي كلّ ملكٍ في الصمَمْ

*

فوق الصناديق استوى يبكي الصَنَمْ!

صَوْبَ الصناديق ارتَقَتْ روحُ القَلَمْ

*

بالياسمين المشتهى مايا أتتْ

عيسى مِنَ العلياء يعطينا النِعَمْ

*

بالياسمين المشتهى مايا رَوَتْ

شام الذين تنفّسوا عبق الحِكَمْ

*

هذا الحريق ملاحقٌ ماء القِيمْ

نار الوصاية إذْ تعادي المرتسَمْ!

*

هذا الغريق مسائلٌ قصر الألمْ

دستورُ عشقيَ في حضارات القِدَمْ؟!

*

هذا الربيع معانقٌ مايا الشفا

سحر العيون على نهايات السّقمْ

*

هذا الربيع مخلِّصٌ شعب الشقا

بالوعد مايا قد وفت تحمي القسمْ

*

هذا الربيع معطِّرٌ قلب العطا

بالنبل مايا كم سقت عطشى السنمْ!

***

بقلم: ياسين الرزوق زيوس

روسيا - موسكو 

عبثًا أُحاول...

عبثًا أفتّش عنك أيتها المُثل العُليا

يا صنيعة الشجعان

إن كل ما تعلمته من الكتب؛

تعبٌ هي الحياة

تعبٌ هو الموت.

*

ولكن هل لهذا أكون سعيدًا

هل لهذا رضيّت المجيء؟

أيتها الصخور الشامخات، يا سليلة الرفض الأول

فلنتبادلْ أدوارنا، ولأمتدحنَّ لك الجليد

الذي روى ضمأك.

قالت: الطرقات في كل مكان

ولكنك لن تصل.

قلت: غريبٌ أنيَّ لن أصل

قالت: غريبٌ هذا الجوع الدائم إلى شيءٍ لا تعرفه.

*

الأنبياء صامتون..

والبشريُّ يحمل على ظهره صخرة سيزيف.

آهٍ، ما أثقلها

تلك الحيوات التي تشبه بعضها.

*

في أعماق الخير والشر

البوصلة تشير إلى القبور

الخرائط كلّها تشير إلى القبور

يا إلهي، أأنا صنيعة اليوم الثّامن؟

طفلٌ هرول إلى أمه باكيًا، فقابلته بصفعة !

*

آهٍ، أيتها المُثل العُليا، يا صنيعة الشجعان

يصعب على عقلي القياسي أن يتقبل فكرة وجودك

فأستميحك عذرًا..

أستميحك - أنا متعفّن بالأحلام.

*

أتمنى أن أنزع رأسي كما ينزع الطفل حقيبته

وأنامُ.. في إجازة أبدية.

***

ضرغام عباس

قالت لي أمي أنني ولدت يوم الثلاثاء الساعة الثالثة فجراً وأن ولادتها بي كانت يسيره ولكن كل شيئاً بدا عسيراً بعد ذلك.. الطقس كان شديد التقلب والسماء لم تتوقف عن المطر لثلاثة أيام متتالية لحفتني بالبطانية وغطت وجهي بطرف خمارها الأسود وركضت إلى البيت مسرعة خوفاً من أن تصيبني حمى.

منذ ذلك الحين وأنا أطيل النظر في الأفق سائلة السماء لماذا فتحت لي أبوابها لثلاثة أيام؟ ما الذي أقدمته كي تستقبلني إلى العالم بكل ذلك الأنين..

تنفست سواد خمار أمي في تلك اللحظات السريعة إلا أنه تغلغل لقلبي طويلاً ذلك اليوم حيث خلقت بتفاصيله الغير إعتيادية أكسبتني شاعرية..

لم أتم الثامنة من عمري حينما شعرت بعبء الوجود والسؤال حول من أين أتيت ولماذا!؟ لم أقتنع بأي إجابة مما سمعت ولعل أقسى الإجابات كانت لأخي الأكبر الذي أخبرني أنني قدمت للحياة في سوبر ماركت كهدية مجانية مع علبة حليب مجفف "

بالطبع لم تكن إجابته منطقية لي ولكني شككت بها..

ولدت بتلك المدينة الباردة كنا نقطع طريق الهدا الجبلي كل اسبوع "طريق وعر جدا ورحلة ساعتين نزولا من أعلى الجبل إلى أسفله بلا توقف للوصول إلى مدينة جدة

كان يلزمني أخذ منوم " قبل دخولنا الطريق أو أبقى بلا نوم قبل يوم من موعد عودتنا أو رحيلنا لأني لا أحتمل دوار الحركة، كنت أعيش مشاعر متناقضة.

أصاب بالآكتئاب قبل رحلة نزولنا الى جدة لأنني أحمل هم الطريق ولا أريد مغادرة البلد، كان قضاء ٣ أيام بمنزل جدتي الصغير وحكاياتها وتدليلها لي وهي تعتني بشعري بالزيوت والمساج والحناء ومتابعة برنامج "حروف وألوف" برنامج المسابقات الذي لم يربح به أية متسابق أو مشاهدة مسلسل "دنيا القوي" والرقص على أغاني محمد عبده أكثر سعادة لي من لقاء قريباتي حيث اضطر الى احضارملابس سهرة أنيقة معي لعزائمهم المفاجئة وضيوفهم البرجوازيين ومجاملة مجتمع لا أنتمي إليه..

و أصاب بالإكتئاب في طريق عودتنا من جدة، لأن تلك المفارقات الإجتماعية تشعرني بأنني أعيش في عالم ثالث أكثر بدائية..

ومع ذلك بقيت بقلبي أمنية وحيدة هي أنني أنتقل للعيش يوماً ما إلى جدة والإعتراف بي رسمياً ضمن أحد رموز الطبقة المخملية غير مدركة ذلك الوقت انني فتاة جبلية وان تلك البساطة قد إلتصقت بوجداني، بذاكرتي للأبد..

في رحلة عودتنا للطائف

بعد لهيب شمس مكة وحرارة أرضها ورطوبة أجواء جدة، أستيقظ وأتحسس زجاج السيارة البارد مجرد دخولنا لمنطقة الهدا، وعلى يسارنا سوق الفواكه الطائفي. افتح شبابيك السياره وأفرد شعري وأطلب من والدي يزيد السرعة. كنت أشعر بنشوة فظيعة والهوا البارد يضرب براسي. مرضت كثيرا في موسم الشتاء بسبب هذه الشقاوة"

كان بيت جدتي يقع في منتصف سوق البلد الشعبي. كنت انزل السوق اكثر من ٣ مرات باليوم بسبب أو بدون سبب حتى تفقد جدتي الهادئة الحنونة أعصابها وتوبخني ثم سرعان ما تندم وتراضيني بعشرين ريال اضافية بنزلة رابعة لمحلات أبو ريالين لشراء "الروج السحري" او "طقم الأظافر"

أو الذهاب للبقالة وطلب ماشئت منها والمبلغ "على الحساب"

والعشاء من مطعم الفلافل الشهير "ابوعنتر" وأنا أصارع النعاس بعد الإستحمام وانتظار جدتي تسمح لي أخيراً بالنوم

لأن النوم بعد الأكل يسبب تلبك معوي.

بسبب دلال جدتي لا اذكر أنها تفقدت ملابسي قبل الخروج من البيت على عكس والدتي طبعاً

أخرج مرتدية ثوبي الشعبي الأخضر المزين بالزهور الوردية و"شبشب أسود" حاولت أمي التخلص منه عدة مرات بلا فائدة، أنزع الربطة من شعري الطويل واتركه ينطلق معي كانت لدي قناعة أن تسريح شعري وربطه يفقدني هويتي..

كلما شعرت بالإكتئاب والوحدة.. انزل للسوق. تلك البقعة من العالم التي لاتتوقف عن الحياة..

كانت الضوضاء وأصوات الباعة ينادون على بعضهم وصراخ الأطفال تملأ قلبي..

أركض من السلالم القديمة وجدتي تصرخ لتحذرني كل مره من الدرج المتصدع الذي لم يصلحه أحد حتى موتها

أمر على بائعي الأقمشة أفتح لفة من القماش وأدور داخلها لألفها حول خصري حتى يصرخ بي العم عبد الوارث وأهرب للباب، وأنا أرى نفس الإبتسامة على وجهه، أخرج من عنده، أجلس أرضاً في البسطات أساعد العجائز في بيع العسل وال "المضير" عبارة عن أكلة شعبية مصنوعة من حليب الماعز المجفف، لم أكن أطيقه لكني أسوق له جيدا وحلاة السكر والليمون " وأسأل العجوز بخبث "ماهذه؟" لترد علي بلهجة لا افهمها، كثيراً مانجحت في تحقيق المزيد من أرباحهن لأنني بالطبع كنت أكثر صخباً وجرأة من بناتهن..

أو أقايض العجوز الأخرى على البيع مقابل "ألعاب نارية" تسمى "طراطيع الثوم" لإلقاءها بالصف ثاني يوم وإرهاب المعلمات..

أو ربما كيس كامل من ال "فش فاش" أو مقرمشات "أنا خليجي" وبعض التسالي الأفريقية "حمر، حلاوة حمر،حبحبوه، وبودرة غريبة لا اعلم مكوناتها للان لكني أبتلعت الكثير منها

بعد الإنتهاء من إزعاج البائعات أركض داخل السوق. يسرق قلبي منظر محلات الذهب على مد البصر. أتوقف عندها ألصق وجهي بالزجاج حتى يتسخ ثم أدخل أقيس الأساور والخواتم وأسرح بخيالي أنني أملك كل هذا الذهب، ثم أنزع تلك المجوهرات وأخرج

كنت أفعل هذا بشكل متكرر حتى انزعج بعض الباعة في معظم المحلات وشكوني لجدتي ومنعوني من الدخول والعبث بالذهب". ماعدا بائع في أحد المحلات البعيدة لم ينزعج مطلقاً من ترددي عليه واللعب بسلسلة على شكل "رجل الثلج" يتراقص عنقه وأقدامه مع الحركة مصنوع من الذهب ومزين بالياقوت والفيروز

لأتفاجأ في يوم بعدم وجود السلسلة بكيت كثيراً وقبل خروجي نادى علي وناولني علبة وطلب مني فتحها..وقال لي "سألت جدتك وقالت لي انك شاطرة بالمدرسة واخذتي ترتيب الأولى، هذه التعليقة اللي تحبينها وهي هدية مني لك"

ركضت نحوه واحتضنته واحتفظت بتلك الهدية سنوات طويلة وفقدتها في البحر لاحقاً

عند تخرجي من الثانوية وقبل أن تصاب جدتي بجلطة في الدماغ تفقدها القدرة على الكلام والحركة أهدتني خاتم زفافها"مرصع ب ٦ صفوف من الألماس". احتفظت به لغدر الأيام لكنها وضعت الأمان بين يدي ومازلت حتى هذه اللحظة احتفظ به وبها.

كبرت وتحققت أمنيتي وانتقلت للعيش بجدة لكني أدركت أن بساطة وجمال تلك المدينة هي ما تنتمي إليه روحي.

يتبع..

***

لمى ابوالنجا – كاتبة سعودية

 

ورفرفت من ذرى الجولان قبّرة ٌ

تبكي على حالها والدّمع ُ ينهمر ُ

*

إني أخاف ُ، هنا الفندالُ والتتر ُ

شِدّي الحزامَ ليبقى السّيفُ والحَجرُ(*)

*

أوصيكَ بالحذر الشديدِ يا بلدي

فبعد كارثة ٍ لا ينفع الحَذر

*

إني أتوقُ إلى رؤياك يا وطني

كما تتوقُ إلى الحقيقةِ الفِكرُ

*

إني أتوهُ بلا حِماكَ مُضطرباً

كما تتوهُ بهذا العالم ِ الغجَرُ

*

أهذه الشام ُ دارُ الخلدِ باقية

أم هذه الشام ُ دَرْبُ الخلدِ يَزدهِرُ؟

*

دمشقُ جنة ُعدن ٍ نحوها نحدو

والشرق ُ شاطئُ دفء نحوَهُ السّفرُ

*

والعز يَبدأ من دمشق َ تاريخُه ُ

أرضِ المروءاتِ، حيثُ البَدو والحَضَرُ

*

هنا الضياءُ...هنا السّناءُ والقمَرُ

هنا الجَمالُ ...هنا الدلالُ والسّمَرُ

*

هنا الهلالُ ...هنا الصّليبُ والكتبُ

والحُبّ يلقاكَ والتهليلُ والبَشرُ

*

يا شامُ، يا زينة َ الدنيا، أيا بلدا

يحلو لنا مِثلما للعاشِق ِ النظرُ

*

يا شامُ، يا عشقنا وحُلمَ أحلامِنا

أنّى نظرتُ بكِ التاريخُ والعِبَرُ (**)

*

أنا العروبيّ في العشرينَ أجدادي

ثارَتْ بَنادقهُم للأرضِ تنتصِرُ

*

لِميسلونَ تنادتْ نخبة النخبِ

لردّ بغي أسودُ الغابِ تنتشِرُ

*

وفا المُحبّ أيا شآمُ يَسري بنا

لا لومَ إن شاءتِ الأيامُ والقدَرُ !

*

طلبتُ ودّ كِ يا شآمُ مُشتاقا

أرضُ الجُدودِ لكلّ الناسِ مفتخرُ

*

فيروزُ والشامُ والحنينُ يَسرقني

نحو الطفولة ِ، حيث الكرمُ يُعتصَرُ

*

إني أتوقُ إلى رؤياك يا وطني

كما تتوقُ إلى الحقيقة الفِكرُ .

***

بقلم إسماعيل مكارم

....................

*) الفندال - قبائل متوحشة كانت تهاجم بلدات الفيكينج في شمال أوروبا وتدمر وتقتل. في الشطر الثاني من البيت الثاني المُخاطب هنا دمشق.

**) في كلمة أنى النون هنا فوقها تشديد.

كتبتُ هذه السطور في عام 2008 وقدمتها في لقاء للرابطة السورية في موسكو. دونت هذه القصيدة على وزن البحر البسيط .

في زمن الحصار الجائر

تلك الكذبة التي انطلت علينا نحن الفقراء

اتذكر أقراطي وخواتمي التي تبرعت بها أمي للمجهود الحربي

أو لخزائن الطاغية لا احد يعرف

كنت اتلمس اذني كل صباح

افتقد تلك الموسيقى المحببة

وذلك الرنين العجيب

لذلك كلما رأيت اقراطا تتأرجح على عنق فتاة

أو خاتما ثمينا يلمع في يد امرأة ثرية

اتذكر أقراطي وخواتمي ودموع أمي

وهي تعدني بأساور من فضة وعقد من ماس

أتذكر ارغفتها التي لم تزل ساخنة

ومجبولة بدموع الحنين

تلك الأرغفة التي تمنحنا عشاء شهيا يليق بأحلامنا

وتبقى هي جائعة تحلم

بوجوهنا السمراء التي يضيئها خبز العافية

***

رسمية محيبس

 

أنا الانَ في السبعينَ

الى اينَ امضي

ربطةُ عنقٍ حمراءُ

*

نرسمُ خططاً لسفرنا

نزورُ أبعدَ المدنِ

شجرةُ زيزفون بعيدةٌ

*

عشاقُ دروبِ الحربِ

سذاجةٌ وانتحارٌ

تماثيلُ مترنحةٌ

*

يذيعونَ أخبارَ الانتصارِ

يجمعون الشتاتَ

كذبةُ نيسانَ

*

يقرأون التاريخَ

عشرينَ قرنٍ

دميةً في النفاياتِ

*

تخبرني الكلماتُ

أرسمها لوحةً فاتنةً

عشاً للعنادلِ

*

كلما ايقضتني المسافاتُ

صحوةٌ تتجددُ

اوراقٌ تتساقطُ

*

كلما يزورني الغبشُ

أرسمهُ كالعشقِ

موناليزا مسروقةٌ

*

في شرقِ المتوسطِ

يعشقونَ ادوارَ البطولةِ

سلحفاةٌ عمياءُ

*

الأرجوحةُ تتموجُ كالبحرِ

تهزها الريحُ كرهاً

الفجرُ انتحرَ كمداً

*

ليتَ الايدي لا تصفقُ

لتموتَ الدكتاتورياتُ

قصيدةُ رفضٍ

*

قرأتُ قصصَ الاحزانِ

عديدها جميلاتٌ

قلادةٌ ابديةٌ

*

أسبحُ في الاحلامِ

نجادتي امرأةٌ

سنونو غريبٌ

*

لا أفارقُ إلا الخونةَ

أو فرحَ الغرماءِ

غيمةً مسافرةً

*

موتيلاتُ الغربةِ تشغلني

أنادمُ فيها خلوتي

قطارٌ مضى

*

الحافلاتُ تذهبُ بعيداً

صمتُ ركابها مطبقٌ

طفلٌ حزينٌ

*

عندَ صخورِ البحرِ

ترتجفُ الامواجُ

غزالٌ جريحٌ

*

في كلِّ مساءٍ

تستيقظُ نجمةٌ

محارةٌ تائهةٌ

*

ارتشفُ فنجانَ قهوةٍ

اكتبُ قصيدةً

رفوفاً باليةً

*

وطنُ المشانقِ والسجونِ

هروبُ الانفاقِ

مظفرُ النوابِ

*

أمهاتنا لا يعرفنَ الجدائلَ

السوادُ عادةٌ

ظلَّ تائهً

***

عبدالامير العبادي

وَنَخلةٍ قَامتْ عَلى الهُــزالِ

رأيتُـها تَــنُـوءُ فِي اِنْـعِـــزَالِ

*

مَا بَالهُمْ قَد أهمَلُوا حِماهَـا

ولا يُبالونَ فلمْ تُــــــبَـــــالِ

*

هَانتْ عليهِمْ ما دَرَوْا جمَالًا

ومَا بِهِمْ حِسٌّ إلى الجَـمــالِ

*

فَلا جريدٌ باسقٌ تدلّــــــى

عُـرجُونهُ يَميلُ في اِنـثِــيَـالِ

*

ولا حَمامٌ ساجعٌ يُـناجـــي

مُرفْرفًا يَـحِـنُّ لِلـــوصَــالِ

*

يا واحةَ الجنُوبِ، اُذكُـريـهَا

بينَ سَــواقِــي مائِـكِ الـزُّلالِ

*

إلى خَريرِهَا تَحِنُّ شَوْقًــا

بِرغم عَصْفِ الرّيح والرّمــالِ

*

إنّي الغَريبُ جِئتُها مُعَنّـى

صَبري كصَبرِها على النّــبَـالِ

*

لمّا رآني جِذْعُها تَــدَانَـى

وضـمَّـنِـي فَـحَالُــهُ كَـحَـالِـي

***

سُوف عبيد ـ تونس

......................

هي نخلة باسقة تعترضني عندما كنت أمرّ بجانبها في طريقي إلى ـ النادي الثقافي الطاهر الحدّاد ـ في مدينة تونس العتيقة غير أنّي لاحظت في السّنوات الأخيرة أنها باتت مَوضعًا للنّفايات والفضلات ممّا جعل مرآها يحزّ في النّفس.

 

 

وَها أنذا ...

أحَاولُ أنْ أعبُرَ يَائساً مِنْ

حيثُ أتيْت.

الأرْضُ بِداخلي صَغيرةٌ

بِحجْمِ عَينِ إبرَة.

ورَأسي الثقيل بِأوْجاعِ التفكير

فِي المُستحِيل لا،

لا يُطاق...

**

أحَاولُ، أخيرا، أنْ أصْنعَ مِمَّا

تبَقى منْ ظِلي

طُرُقا جَديدَة

لِلموْتِ

مَادامَ لِجسَدي

هَوْسُ

الفنَاء ...

**

قدْ أكونُ غَريباً

بِلا غُربة،

في قلبِي المُبعثرِ

وَسط حَقيبةِ عَتْماتِ

مُسافِرٍ شاردٍ

فِي وَجهِ رياحِ وُجْهاتٍ

لا تَحمِلُ منْ هُويتي،

غيْر جَفافِ حَلقي

منْ عَويلٍ قديمٍ

مَنْ أكون ...؟

**

وبِمِقصِّ ضَجري.

أقَطِّعُ

وُجوهَ غُربَاء ابتسَمُوا،

بِداخِلِ لوْحةٍ كبيرَة مُعلقة فِي فمِ

الضَّياع.

لمْ يتْرُكوا وَراءهُم مَنْفذاً

لِلرُّجوعِ إلى

مَنْبعِ الألوانِ التِّي،

اختلطتْ بِدمائِهم

حينَ غادرُوا مُدنَ اسْمنتٍ بَارِدة

حينَ اسِتسلمُوا

لأوَامِرَ جَاهِزة

بِالرَّحِيل ...

**

فكمْ يُرهِقني الرَّكضُ وَراءَ ظِلي،

أصبحتُ هكذا، أبَدِّدُ بِإصرار ..

عُنفوانَ خُطواتِي البَطِيئة

نحْوَ أسْفل آخِرِ صُورةٍ التقطتُها لِي

صُدْفة ...

وَحِيدا

بلا وجه

بِلا أرْجُلٍ.

***

حسن حصاري - المغرب

لا تفرحي تاء التأنيث بانفتاح مستعار..

حروفك بوصلة ليل يهتك عذرية الأحلام..

نقاطك ألـ أتعبتها أوزار التاريخ لن تمنع عبور السيل المملح.. ليقبر زغاريدك المكتومة.. ويقايض الباقي من العمر بأوهام مشبعة بالفراغ.. تجيد حشرك في الزاوية

بحمرة وحشة تجملك.. في الربع الخالي من الصمت.. تسكنك.. أبواب الذهول.. توصد عليك.. وحيدة تظلين داخل مساطر القيود.. الألفية الثالثة عاجزة عن رفع حصار النفي.. فلا تنتعشي بسهرات تحترف فيها سراويل الجنز بهلوانية الرقص.. هو سفر بين اختزالات العطش يؤدي حتما إلى زيف الأمنيات.

ومضة غواية أنت في قاموس فحولة لا تستسيغ الشعر

مهما رسمت من صور واتستجلبت من استعارات..

لا تمحو وشم الأحقاد.. لن تؤخذ بعواهنها.. وستُخضع الابتسامات لميزان الصحيح والضعيف.. كشفا لسرك ونجواك.. أمام طيش يتملك الفكر والأحشاء.

يا أنوثة تهتز تحت مخالب الجهل.. فوق تموجات الخطابات.. تائهة أنت في دهاليز الاعياد الكاذبة

عيد الام.. عيد المراة.. عيد الحب.. الخ

فمن يطوق خاصرة النار كيما تحترق نون النسوة

وما تجهش به الأرواح من أحلام العذارى في زمن مقنع بالانفتاح.. مشيد قصوره بعهن منفوش.. بان خطابه بحجارة من سجيل.. على ظهر قصيدة تنداح في عباب

الطيبة...والحب..

في الدماء تشتعل المايات.. صرخات وجع تختفي خلف زيف الأعراس.. مواويل جرح نازف تفشي الأنوثة لفظاعة القيم والممنوع من كشف المستور.. اطباقا على القصائد

بتهمة اعوجاج الحروف..

نحن العصاة على الخضوع.. المتمردات على الخنوع..

لا يعلمون أننا نحترف العطش إن نضب الماء في الكفوف.. شهبا حارقة نظل.. لا تعتنق الانطفاء مهما أتخمتها زخات الغيوم المهربة بين الفصول..

لا نريد للغفوة أن تقيم فينا وهما يعاند اليقظة.. امتصاصا لغضب الانتفاض !

***

مالكة حبرشيد

 

 

الفصل الخامس من رواية: غابات الإسمنت

وقد أقبلتْ الليلة الموعودة..

همستْ صديقتي بأذني: (شدّي حيلك) ستقضين نصف المدة.

لو كنت خارج السجن، لقلت إن هناك طبخة ما يعدّها لي طباخ ماهر، مديحة تلمّح ولا توضّح، ربما هو التحفظ والخوف، فنحن خلال فترة التعارف القصيرة لا نقدر أن نكشف كل ما في نفوسنا؛ لكننا نتشابه في الحنين الذي تتنفسه المساءات الموحشة!

وذهبتُ إلى الإدارة.

هناك وجدتُ السيدة النقيب، الحارس نجيّة تؤدي التحية وتقول: هل من شيء سيدتي؟

- سأصحب السجينة إلى الطبيب، انتبهي جيدًا.. كوني بقدر المسؤولية.. لا أريد فوضى.. سأعود قبل الفجر.

وضعتْ القيد في يدي، أهناك من مرض أصابني؟

قلق لاحقني بعض الوقت غير أنه سرعان ما تبدّد.. لا أشكو من شيء.. صحتي جيدة وقوامي رشيق.. لا شحوب على وجهي، سوى تراكم آثار الأحلام والكوابيس ما قبل النطق بالحكم..

دفعتني برفق إلى المقعد الخلفي، لم تستقلّ سيارتها الخاصة، ولم يكن المكان الذي ذهبنا إليه يبعد عن السجن، حسب ظني أكثر من عشر دقائق، يبدو أننا دخلنا مجمّعًا سكنيًا، فقد توقفت السيارة في موقف معتم، ترجلتْ وفتحت الباب الخلفي، فكّت قيدي، ورمت إليّ بثوبٍ طويل واسع، وقالت بحزم:

- البسيه الآن، إنه كاف ليغطي كل ملابس السجن التي عليك.

أجبت بهزّة من رأسي.

همستْ ضاحكة: لا تحاولي الهرب.

- أين أذهب؟ أنا لا أعرف المكان ولا شوارع المدينة والطرقات، وليس لي من بيت أو معارف هنا.

انفرجت أساريرها، لا عليكِ.. أمزح معك.

سرتُ جنبها وكان الهدوء يلّف المكان، تساءلت كيف نكون في مشفى ولا أسمع حركة؟ والبناية تبدو لمن يراها عمارة للسكنى.

دخلنا مصعد العمارة، فارتقى بنا بعد لمسة من أصبعها، ثم فتحت أحد الأبواب وبسطت يدها قائلة: تفضلي ادخلي.

كشف الضوء المفاجئ عن صالة جميلة الأثاث؛ أريكة جلدية، وفترينة زجاجية لأشكال متباينة من الكريستال؛ نخيل وثلاثة خيول، وفي الطابق الأسفل طيور متفاوتة الحجم.. ترتيب يدلّ على ذوق رفيع وحياة ترف، نقيض ما هو مألوف عن حياة الذين يعيشون حياة مهنية خشنة في سلكي الشرطة والجيش.

- أظن أنكِ تناولتِ الطعام هناك، مرّت أكثر من ساعتين ولن يضركِ الحمّام، ادخلي ستجدين بيجامة وكل ما ترغبين فيه من شامبو وعطر، هذه شقتي، اعتبري نفسك في بيتك.

لكن.. هممت أن أقول شيئا فتردّدتُ.

- لا عليك، لا تفكري بالأمر، سنعود قبل الفجر وسأخبرهم أن يعفوك من أي واجب كما أمر الطبيب.

- متى نذهب إلى الطبيب؟

بضحكة خفيفة:

- انسي الموضوع.

وأغلقتْ الباب خلفي، تعريت.. كنت أقف تحت الماء، وأستحم بغسول الجسم المعطّر والشامبو، أدلّك جسمي فأرى له بريقا، وأجده عاد رائقا ناعما، كأن أيام التوقيف لم تؤثر فيه، أنا جميلة.. بشرتي ناعمة، وبهذا الشكل أكون رائعة مثل صديقتي الجديدة التي يزيدها الحزن وسرّ مخفي في عينيها مسحة من الجمال.. مسحة جمال لا يعكّرها إلا شحوب باهت لا تقدر أن تخفيه أية مادة من مواد التجميل.

شحوب أحسّه ينبع من عينيها الواسعتين، ولا يوحي أنه مرض فتاك.

هذا ماكان يبعث الراحة في نفسي.

طرقات خفيفة على الباب..

- هل أدخل؟

ودخلت.. هل أنتِ خجولة.. هل أدعك ظهرك؟

استديري..

راحت تضع الشامبو على راحة يديها وتفرك ظهري، يداها تصعدان إلى رقبتي وتهبطان على ردفي، ثم تنزلان إلى فخذي فباطن الركبتين.

- رائع جسدكِ ويا لحظّكِ التعس، هكذا هم الرجال لايقدّرون المرأة.

قالت ذلك وأردفت: أليس كذلك؟

- للأسف نعم.

ثم صعدت يداها ثانية إلى رقبتي كانت تدعك بحنو مفرط، وسمعت أنفاسها تهبط وتصعد، وكلما تصاعد شهيقها بطأت يداها في النزول:

- ردفاك رائعان.. كأنهما منحوتان من مرمر.

- حقا؟

- صدقيني صدقيني.

- شكرا لك سيدتي.

بقيت يداها لثوان على ردفي، وكانت أناملها تنقر نقرات خفيفة، وسألتني أن أستدير، قالت ذلك أشبه بالهمس.. استدرت نحوها، فجاءت عيناها بعيني فهمست:

- لا.. لن أترككِ للسجن، اطمئني.

بدأت شفتاها تسترجيان.. ثم اندفعت نحوي وضمتني إلى صدرها وهوت بشفتيها على شفتي.

غثيان مفاجئ أصابني.. دوار.

نفور..

أنفاس كاللهيب تحرقني..

حاولتُ أن أتخلّص منها، فدفعتها بعنف وتراجعت إلى الحائط، نظرت إليّ مذهولة بعينين حزينتين وقالت:

- هل غضبتِ؟ أنا أحبكِ ولا أروم بك شرا.

كنتُ ألهث.

رحتُ أنشج ثمّ انفجرتُ في بكاء محموم.

صفعتُ وجهي بأطراف أناملي.

وقبضتُ على شعري أجرّه.. لا أدري لِم جاءت ردّة فعلي بهذه الصورة، كنت حزينة ولم أكن خائفة، مع كلّ ذلك لم تبدُ لي السيدة النقيب بشكل وحش يحاول أن يفترسني، فتقدّمتْ نحوي، وعلى شفتيها ابتسامة حنون أنسني البكاء وطعم القبلة الغريبة.. كل ما أحسّهُ أني بحاجة إلى البكاء.. نسيت الكلام، فقالت:

- ابكي.. ارتاحي.. البكاء يريحك.. أنا نفسي أحيانا ألجأ إلى البكاء.

خلتُ أنها تهمّ بالمغادرة، فخشيتُ أن تتركني وحدي في الحمّام ولا أحد يوقف بكائي، ظننتُ أني أظل أبكي طول العمر، وشَخصت لعيني بركة من دم يسبح بها زوجي وصديقته، مشهد تجاوزته من المشنقة إلى السجن عبر ليالي قاتمة، فهل هناك شيء أبشع من مشهد ترسمه الدماء؟

فازددت هلعا، نسيت القرف واندفعت نحوها، ارتميت على صدرها وأنا ألهث وأنشج ويداي تطوقانها، فكانت تمسح على شعري وتضمني إلى صدرها.

قالت: انسي الحياة الماضية، وابني حياة على النقيض منها.

نسيت القرف تماما، كان هناك عالم آخر ينتظرني لم آلف له شبها من قبل.

أنا الآن غيري..

امرأة أخرى من عالم جديد.

من كوكب آخر.

لم أفكر مثل قبل أين أذهب، وماذا أفعل حين أقضي حكم السجن، أيّ مكان يؤويني وأي مجتمع يقبلني.. على الأقل هناك في هذه اللحظة يد رحيمة تمتدّ لي، تعاملني صاحبتها معاملة طيبة، تجفف دموعي، وتعدني بالأمان، تطلعتُ في السيدة التي تبحر عيناها في عيني وقلت لنفسي:

لأكن امرأة أخرى.

***

ذكرى لعيبي

 

من قصص الومضة

مقابل كل قصيدة أكتبها يقول العراف ينقص عمري شهرا

مازلت أكتب الشعر كأن الخبر يعني شخصا آخر.

2

عرفتُ من مركز تجميد الحيامن أن هناك 500 أمرأة تلقحن مني، ولائحة القانون تمنحني الحق في رؤية ابنائي الموعودين وقتما أشاء، كنت فرحا بالخبر وتساءلت من من ابنائي وبناتي الخمسمائة سيكون الأحبّ إليّ؟

3

سرق لصوص الصخرة التي يبث كل منا سرّه عندها، مازلنا منذ ذلك اليوم ونحن نبحث عن مكان نلقي فيه أسرارنا.

4

كنت أظنّ ابني رمزي يمزح حين يصف نفسه بالملحد، فلم يكن ليعنيه وهو المولود في بريطانيا أنّ أبويه من العراق وأنّهما كاثوليكيان، وغالبا ما كان يذهب معهما إلى الكنيسة ويحتفل شأنه شأن الجميع بالمناسبات الدينيّة.

لقد سُعِدتُ حين أنهى المرحلة الابتدائية، فرغبت في أن يتقدّم إلى المدرسة الكاثوليكية لا لغرض أن يدرس اللاهوت بل لأنّها من أرقى المدارس في مدينة نوتنغهام.

لكنّ الأمر الذي يبدو غريبا أنّ رمزي قلب المزحة إلى جِدٍّ يوم كتب في استمارة المعلومات الرسميّة الخاصة بالمدرسة الكاثوليكيّة في حقل الدين أنه ملحد!

والأكثر غرابة من ذلك لو كان كتب دين أبويه لأُعفِيَ من ضريبة النقل والطعام التي تشكّل عبئا على ميزانيتي.

سألته وأنا أكبت غضبي: لماذا فعلت ذلك

قال مزهوا بما فعل: أنا ملحد هذا أمر يخصّني.

لكننا في هذه الحالة سندفع كلّ شهر 250 جنيها أجور نقل وطعام

فأجاب بهزّة من كتفيه: هل تريدني أن أكذب من أجل التوفير؟

صُدِمت

حقّا صُدِمتُ.. رحت أسير معه إلى البيت بخطى مثقلة وكأنّي ماش في حفلٍ جنائزيّ بطئ.

***

د. قصي الشيخ عسكر

  

 

اجبرهم الفقر وضيق ذات اليد وخلافهم مع صاحب الدار الذي كانوا يسكنونه، بسبب مطالبته بزيادة في الايجار على البحث عن منزل اخر يناسب دخلهم المادي، ونصحهم أحد الاصدقاء بأن يبحثوا في الاحياء القديمة للمدينة، التي غالبا ما تكون ايجاراتها زهيدة ومناسبة لمن هم في مثل ظروفهم، وبعد البحث والسؤال استطاعوا ان يجدوا منزلا يعود لأرملة، استأجروه مقابل مبلغ بسيط، لقدمه ولأنه منزل مهجور، وبدا هذا واضح للعيان من سياجه المائل وبنائه القديم، وحين دخلوه وجدوه مليئا بالقطط والجرذان فقد جعلت منه البيوت المجاورة له مكبا للنفايات .

باشرت الزوجة بتنظيفه ورفع النفايات عنة، كلفهم الامر وقتا وعناء استغرق ما يقارب الاسبوع، بمساعدة زوجها وابنتيها كشف بعدها النقاب، عن جمال هذا البيت الذي زين بزخارف في الجدران، وأقواس ونقوش زينت باللون الفيروزي . بدا وكأنه قصر لأحد السلاطين أدهش جماله الزوجة وبناتها، واضاف الفرحة على الزوج الذي كان قلقا بشأن هذا البيت الذي ربما لا يعجب الزوجة والبنات . بينما اثنت صاحبته عليهم وعبرت لهم عن شكرها لأنهم جعلوا منزلها يبدو بهذا الشكل الجميل.

كان المنزل يحوي سبع غرف، يتوسطة حوش كبير مفتوح باتجاه السماء، و سرداب تحت الارض اغلق بابه بإحكام، والغرف السبع تم غلق والغاء البعض منها، لأنهم لم يكونوا بحاجة لها جميعا. زينت الزوجة الحوش الكبير بأصص من ورد الجوري والرازقي وبعض النباتات الظلية الاخرى . ليبدو كحديقة داخلية اضافت للمنزل روحا حية، اما البلاط فكان من الطابوق الاصفر المربع الشكل، الذي يصبح أكثر اصفرارا كلما قامت بتنظيفه .

بعد يومين من سكنهم فيه ترددت عليها بعض الجارات، اللواتي تعرفن عليها مبدين دهشتهم وإعجابهم بشكل المنزل الجديد . واستغربت كيف سكنت فيه، فمنذ زمن بعيد لم يطرق بابه احد، كما حدثنا وذكرنا لها تاريخ هذا المنزل فقد اشترته امرأة غنية سقط ابنها الوحيد من إحدى شرفات المنزل، ومات فتشاءمت منه وباعته لأحد التجار الكبار في المدينة الذي انتحر هو الاخر، بعد ان خسر تجارته ثم آل به الامر الى صاحبته المرأة الارملة الثرية التي لم تسكن فيه بل عرضته للإيجار بعد ان سمعت تاريخه، واقصى زمن امضاه مستأجر فيه كان شهرين، لكنها لم تعر لكلامهم اي اهتمام لأنه من الواضح انهم يشعرن بالغيرة والحسد، لما آل اليه المنزل من نظافة وشكل جديد، وهي بالإضافة الى ذلك كانت تبخره كل يوم وتقرأ فيها الادعية وماتيسر من كتاب الله..

شعرت هي وبناتها براحة كبيرة فيه، ولكن بعد اسبوعين من سكنهما فيه حدث شيء !! اثار استغرابها وشكوكها وقلقها فقد خرجت أعداد كبيرة من النمل، وحشرات اخرى غريبة من فتحات في ارضية المطبخ والحوش، وإحدى الغرف وانتشرت في المنزل واصبحت تقلق نومهم بشكل كبير، بالإضافة الى انهم بدأوا بسماع بعض الاصوات الخافتة، التي كانت تخرج من السرداب والتي تشبه الحديث المستمر.

حدثت نفسها بالقول: نحن في فصل الشتاء ومن الغريب ان تخرج تلك الحشرات بهذا الشكل المفاجئ، كما ان هذه الاصوات التي يسمعونها لا يمكن الشك فيها، شعرت بأن هذه الامور ربما تكون نذير شؤم واكثرت من النظافة والادعية، لاسيما وأنها كانت امرأة متدينة .

بعد ذلك بيومين وبشكل مفاجئ سمعت صراخ احدى بناتها في الحمام، هرعت اليها لتجدها جالسة عارية ترتجف، في إحدى زوايا الحمام وهي تبكي بهستيرية، وتقسم بأنها شعرت بأن يدا قد لامست جسدها حين كانت مغمضة العينين ويغطي وجهها الصابون . استغربت الام، وزاد قلقها الذي حاولت ان تخفيه عن ابنتها، هدأتها وقالت لها: انها اوهام لا يوجد أحد غيرنا في المنزل، لا شيء يدعو للقلق او الخوف..

أحكمت الام غلق النوافذ جيدا وتفحصت ابواب الغرف جميعها، وأصبحت مستيقظة بحواسها الخمس، وشرعت بتبخير الغرف وقراءة الادعية، ورش الملح ونقيع ورق السدر في كل زوايا المنزل، لكنها مع ذلك لم تشعر بالارتياح، أصبح المكان يضيق بهم كثيرا، على عكس ما كان عليه في بادئ الامر، مع كثرة الكوابيس التي تراود بناتها والتي غالبا ما تنتهي بـ فزع وصراخ وسماع أصوات تصدر من المطبخ كقرقعة الصحون في منتصف الليل . زاد ذلك شعورها بالقلق والخوف، واخذت الموضوع على محمل الجد، حدثت زوجها بذلك قائلة: يجب ان ننتقل الى بيت اخر، يبدو بأن كلام الناس صحيح عن هذا المنزل فالبنات يشعرن بالخوف ولا يستطعن النوم ولن نبات يوما اخر في هذا المنزل. طمئنها وحاول تهدئتها، فخاطبها: لا تكوني اسيرة لأوهامك عليك ان تكون أكثر عقلانية، لم اصدق اننا وجدنا منزلا بهذا الايجار الرخيص، لا تدعي كلام الناس والخرافات تسيطر عليك، تحملي قليلا لحين حصولي على عمل إضافي يكفينا لإيجار منزل أفضل منه . وصمتت على مضض هذه المرة، ذات مساء بارد وبعد وقت الغروب، حينها كان الجو غائما وقطرات المطر بدأت تنزل تباعا تطرق نوافذ المنزل، هبت ريحا شديدة جعلت أبواب بعض الغرف تصطفق، وتسببت ايضا بقطع التيار الكهربائي، عندها غطى الظلام المكان فقد اختفى القمر ليلتها، فجأة سمعت طرقا على الباب، طرقا خفيفا متقطعا حملت الفانوس وهي تتلمس طريقها، فمن ياترى يأتي لزيارتهم في مثل هذا الوقت المتأخر وهذه الاجواء الممطرة ؟ صاحت من الطارق ! وجاءها الرد وكان صوتا لامرأة كما يبدو : انا جارتك افتحي الباب، فتحت الباب وضربات قلبها تتسارع، تسمرت مكانها بعد أن صدمها مارات وكادت ان تفقد وعيها لولا انها تحلت ببعض الشجاعة ورباطة الجأش، رأت ثلاث نسوة تتوسطهن امرأة برأس ماعز، كن أقصر قامة منها كلاهما يضعن فوق رؤوسهن عباءات سود، يقفن صامتات وعيونهن يتطاير منهن الشرر قربت الفانوس نحوهن وهي لا تصدق ما ترى !! فلربما كانت تحلم، لكنه لم يكن حلما وما اكد هذا زخات المطر التي كانت تبلل ثيابهن واجسادهن، سرت في جسدها قشعريرة كادت على أثرها أن تفقد وعيها لكنها تماسكت مرة اخرى، قالت لها المرأة التي برأس الماعز بلهجة آمرة وصوت مخيف جدا، اتركوا المنزل فورا فقد تحملنا منكم الكثير انت تحاربنا لكنك لن تهزمينا، ارحلوا قبل ان نفعل بك وبعائلتك شيئا تندمين عليه مدى حياتك يا امرأة. ثم اختفت النسوة في الظلام الدامس وبقى صوت المطر....

***

 

نضال البدري - بغداد/ العراق

 

لا يذكر سالم بالتحديد كم كان عمره حين غادر القرية، ما يذكره أن ذات مساء عاد ابوه بعد غيبة طويلة ومعه خاتم ذهبي وصدرية فضفاضة صفراء هدية لأمه، أما حظ سالم من عودة أبيه فلم يتعد بعض الحلويات، ذوب سالم خيبته في التظاهر بالتلذذ بها وهو يتابع عيون أبيه تكاد تلتهم أمه، لا تتوقف يداه عن ملامستها،أما اليه فقد اكتفى بقبلة ونظر؛ ليلتها رافق سالم أمه الى عين ماء قريبة ، تعرت في ظلام الليل رغم رياح الخريف الباردة، وبصابونة معطرة مما كانت تجلبه خالته من المدينة؛ اغتسلت أم سالم تحت بعض النجوم التي كانت تطل خجلى من بين غيوم تتبدد في حزن .. ثم عادا،وأمه ترزم ثيابها الرثة بين أحضانها وكأنها تحتمي بها من رياح الليل بعد أن غيرتها بالصدرية الصفراء الفضفاضة ..وسالم خلفها يرافقها خطوة بعد أخرى متمسكا بطرف الصدرية يصغي الى مديح أمه ودندنات السعادة تقفقف على شفاهها من جو الليل البارد وكأنها تحاول أن تغيِّب عنه صوت عواء الذئاب البعيدة ..

بعد اطلالة على والده الذي غفا في ركن البيت، ضمته أمه الى صدرها، وعلى خده طبعت قبلة حارة وناولته رغيفا وزيتونا،،ثم حرصت على أن ينام بعيدا عن فراشها .وقد اثاره أن يرى لأول مرة كحلا في عيون أمه وصباغة حمراء تلون وجنتيها القمحيتين ..

تعوَّد سالم من أمه في غياب أبيه ما أن تضع راسها على الوسادة حتى تشهق بغصات وأحيانا تبكي قبل أن تضم صغيرها اليها وهو معها على نفس الفراش لاكما أبعدته اليوم،وآثرت أبوه بمكانه بجانبها ..وبغطاء دافئ يقيه برد الخريف.. بعض القلق ما أستحوذ على سالم وغطاؤه المهترئ لايقيه من نسمات برد تخترق شقوق الباب والنافذة ..

عتاب قوي كان يسري في الظلام بين أمه وأبيه وحديث طويل عن المدينة وملاهيها ومغرياتها وبناتها اللواتي " كيطيحو الشهر بالنهار جهر" ، قبل أن يتحول الفراش الى معركة قوية من زفيروشهيق وكلمات لم يفهم لها معنى ..

كان ينام ثم يصحو وحديث الفراش بين أمه وأبيه كالقصص الطويلة التي ترويها جدة صديقه حسن والتي تتكرر يوميا ولا تنتهي،الى أن ينام الأطفال من حولها دون أن يسمعوا للقصة نهاية أوختام ..

ما أن اصبح الصباح حتى وجد أمه قد بادرت الى إخراج كل ما استأثرت به ولديها مخزون من سمن وعسل وبيض،واعدت حرشة ومسمن لم يتذوق مثلهما مذ غادر أبوه القرية ..

تمنى سالم أن تحدثه أمه عما وقع واي شيء جعلها أكثر حيوية ونشاطا كطير لا يتوقف عن الزقزقة والقفز لإرضاء أبيه والثناء على هديته اليها ..

"ماعرفتش واش هديتك باش تسكتني ولا كنت عايشة ف بالك "

لم يكن يهيمن على تفكير سالم بذكرى غير صبيحة خالته التي تخاصمت مع زوجها وأتت ذات ليلة للمبيت عندهم، فارة من غضب زوجها بعد غياب دون إذنه،فلحق بها ثم تصالحا بتدخل من أمه،لكن ما أن هم بها حتى ركلته بقدميها فتحول الفراش الى معركة من سب وشتم وضرب ثم خرج الزوج بلا عودة وقد ترك خالته وهي طالق..

تعمدت أمه أن تحمله ليلتها وتخرج به الى الحوش حيث أكمل الليل على تليس من الحلفاء .. ظلت خالته شهورا بعد طلاقها تشاركه وأمه غرفة نومهما الوحيدة، تعيش معهما دون أن تغادر القرية، ثم رحلت أياما لتعود محملة بما لذ وطاب من فواكه وخضر، حلويات وألبسة ..

غصة تصعد الى صدر سالم وقد اكتشف أن لغة الحب لدى خالته كانت أقوى مما يملكه أبوه ..

صحا ذات صباح ليجد أمه قد أعدت رزما مما خف من الألبسة ، واهتمت خالته بتغيير ثيابه استعدادا للرحيل عن القرية.. كانت أمه تكح وتشكو ألما في صدرها، يعاتبها أبوه لانها كثيرا ما تفرط في العناية بنفسها خصوصا في فصل خريفي يتقلب جوه بين لحظة وأخرى ..

كانت الرحلة شاقة متعبة والمسافة طويلة الى محطة صغيرة ثانوية لا يتوقف فيها القطارالا ثواني ..

لم يدر سالم كم مر من الوقت قبل أن يصل القطار الى محطة المدينة، فبعد المسافة وتعب الطريق قد هدهم بعياء فخلدوا جميعا الى النوم، داخل القطار... كان سالم لا يفتح عينيه الا على أصوات الكراسي التي تكركر كرحى طاحونة القرية،و سعال أمه وقد راعه أن يصير وجهها ممتقعا شاحبا ..

لم يكن البيت الذي ولجوه بأحسن مما كان في القرية، فالفرق كان في المساحة فقط، غرفتان صغيرتان ضيقتان بسقف قصديري لا يتسع كل منهما لأكثر من فراش صغير محصور بين جدران الطوب الأربعة ، استأثرت أمه بواحدة مع أبيه والثانية كانت له ولخالته بعد ان تم اقتطاع زاوية منه لاستغلالها كمطبخ، اما الموقع فلم يكن غير درب طويل في حي هامشي غابت عنه نسائم القرية وحضرت روائح الصرف الصحي ..

خالته أول من اعترضت على السكن وموقعه:

" تسرعت يازوج أختي ،توجد هوامش بها مساكن أحسن وقريبة من مدخل المدينة "

ثم قطعت وعدا بتغيير هذا الجحر بما هو احسن، في حين أن أمه كانت راضية مستسلمة لا يهمها غير حضور أبيه الذي كانت تحرص ألا يغيب عن عيونها بالنهار وأحضانها بالليل ..

تفاقمت حالة أمه و اشتد داء صدرها حتى صارت تلفظ دما كلما سعلت ، لم ينفع معها علاج ولا افادتها إقامة في مشفى عمومي طيلة شهر فاسلمت الروح ..

بعد أيام تم الانتقال الى سكن جديد وفي موقع أحسن قريب من أحياء سكنية جديدة،و بسرعة تقلدت خالته مهام أمه في كل شيء وكأنها ما فارقت زوجها الا استعدادا للاستحواذ على أبيه والاستلاء على مكان أمه، وكأن أباه كان يترقب موت أمه ليبدا حياة جديدة مع خالته ..

كانت خالته تغادر البيت بمجرد خروج ابيه الى عمله كحارس في أحد الأحياء ثم لا تعود الا بعد منتصف النهار ومعها ما يكفي من أكل ..

شتان بين أمه وخالته فلئن كانت هذه أصغر، وربما أجمل،فهي أكثر اهتماما بنفسها وبأصباغ لا تخلو من وجهها تجاوزت ما وضعته المرحومة أمه فرحا بعودة أبيه الى القرية، لكن سرعان ما تبادر خالته الى غسل أصباغها بمجرد رجوعها الى البيت وقبل رواح أبيه من عمله ..

لم يكن سالم كأبيه يرى ويتجاهل و يتعامى، ربما لمسٍّ من عدوى أصابت اباه من أمه فصار تعبا منهوك القوة، بل كان سالم كثير التساؤل عن خروج خالته اليومي، أين تذهب؟ وما عملها بالضبط؟ هل حقا تشتغل في بيت أحد الموسرين كما تدعي بعد أن شرع سالم يحاصرها بأسئلته؟ وهل العمل في البيوت يتطلب كل تلك المساحيق التي تداوم على استعمالها قبل الخروج للعمل؟

كان استسلام أبيه لخالته وضعفه أمامها هو غير استسلامه مع المرحومة أمه التي كانت تؤثراباه عليه وعلى نفسها، كان أبوه طيعا لدرجة أنه يلبي كل ما تأمر به الخالة، حتى حين أراد ان يسجله في مدرسة رفضت،ونصحته بأن يبحث لابنه عن عمل في أي مكان يكتسب منه خبرة ويذر دخلا ولو قليلا الى أن تتدبر هي أمرتشغيله فخضع الأب لاقتراحها ..

كان سالم في دراز قديم لنسج الأغطية الصوفية حين وقف عليه ثلاثة من افرد الشرطة يسالونه عن ابيه وأمه، تملكه خوف لم ينقده منه سوى معلمه حين استفسر الشرطة عما وقع ..

"أمي ميتة من سنوات، وأبي تزوج خالتي بعدها.. يخرج باكرا الى عمله كحارس بالنهار في أحد الأحياء وخالتي تشتغل في أحد البيوت،لا اعرف له عنوانا "..

من خلال حديثه مع رجال الشرطة أدرك أن خالته تشتغل بالدعارة كواجهة وتوزع المخدرات على من يطلبها بأوامر من مالك البيت الذي يأويهم ..

أصابه الذهول، معاول تضرب راسه وتهدم كل ذرات نفسه ..كيف أحكمت قناعها فتقبل كذبها حين أخبرته انها تعمل في أحد بيوتات الموسرين؟ ...

صار يعيش وحيدا في البيت فخالته محبوسة بتهمة الدعارة وبيع المخدرات، وأبوه محبوس على ذمة التحقيق حيث يشك في علمه بما كانت تقوم به زوجته، بل وربما يساعدها في ترويج سموم ما توزع ..

متاهة مظلمة صار يحياها، تدمر حياته ..باي وجه يقابل غيره؟

صار لا يعايش غير طيوف امه أرقا بالليل وتفكيرا بالنهار..

"ماذا جنيت يأ امي من رجل نسي ابنه بلاهدية بعد غياب طويل؟ ومن خالة استحوذت على من ابعدتني عنك من أجله،وأثرته بدفء في ليلة خريف باردة؟

"ماذا أعطتني المدينة من طفولتي الى لحظة شبابي غير البطالة والجهل ومزيد من الفقر والمذلة والعار؟

"لو بقيت في مسكننا القروي لا نقد ت نفسي ولو كراع أجني قوت يومي" ..

ذات ليلة وقد هدَّهُ السهد،هيمنت عليه فكرة العودة الى القرية فربما يجد عملا في معمل الدوم الذي انشئ مؤخرا ..

كان سالم يلملم بعض الثياب من خزانة البيت حين لفتت انتباهه صدرية أمه الصفراء مكومة في قعر الخزانة وكانها مليئة بتبن، لما فتحها كانت المفاجأة ..عشرات الأوراق المالية من مختلف العملات الوطنية والدولية .. وخاتم أمه الذهبي ..

أعاد الأوراق الى حالتها مكومة في صدرية أمه، وأدخل الخاتم الذهبي في خنصره، وضع كومة الصدرية في قفة بالية كانت في البيت وغطاها بثياب أخرى خفيفة ثم خرج الى محطة القطار عائدا الى قريته حيث طيوف أمة وحبها يهاتفه من أعمق أعماقه..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

 

نفسي لوصْلُك ِبالمُنَى تَتَلَهَّفُ

ولِحُسْن ِغُصْنك ِتَستفيضُ وتنْزِفُ

*

ما أرْهَفَتْ لُغتي أماليدَ الهوى

أبداً ولاعَكَفَتْ حُرُوفيَ تَعْز ِفُ

*

إلاَّك ِ ضَاءَتْ في سمائيَ نجمة ٌ

آنَسْتُ منها وِدَادُها يَتَلَطَّفُ

*

ويَؤُمّني عَلَمَاً بعينيه ِ اسْتوى

ويَحُوطني بِحفاوة ٍ تتشرَّفُ

*

ماكان تَنْشُدني البُرُوجُ جميعُها

إلا لأني فضاءَهــُنَّ الأنظفُ

*

فَلَكَاً لَهُنَّ يَدُرْنَ في ملكوتِه ِ

مَهْوى الحِسَان ِ وكل مَنْ تَتَعَفَّفُ!

*

تُهْديني * واثِقَةُ الهوى * باقاتِها

ما أنْكَرَتْ ظِلِّي ولا تَتَأَفَّفُ!

*

صلى عليها العُمْرُ خَمْسَ تَبارَكَتْ

وسَلَامُ حتى...هَمْسِنا يَتَوَقَّفُ!

***

محمد ثابت السُميعي

 

حين تأتيني هواجسي

مُثخنةً بأهداب الحنين،

يمتدّ فـيَ الأفق،

وتنفتح الأشواقُ على غدٍ هَروب.

وتمضي بنا الأوقات إلى منتهى العمُـر

حيث الزّادُ ما اقترفت

الجوارحُ والأفهـام.

وأنا ذاك المُــــرابي..

أَقرِض الشّعر وضياءَ الفجر،

لأرقب انكسار الشمس على شَفا الكون.

وكنتُ إذا ما الليل ألقى إليّ

بسِرّ من أسرار النّدامى،

تأوهَتِ الأفلاكُ وأبدتْ

على وجنة الأفــق خجل الأَبْكــار..

لكنّي كلما أحاطت بيَ الهموم

أتأبطُ شعري وأحتنك يراعي،

وأوراقي ميدانُ لهوي وانزوائي.. !!

وبيني وبين ذاتي

مسافات من التّـيه والحنين،

تُبعِدني عن عيون الشعر

وهواجس السائرين على درب

الأنين ..

لله ذرك يا لَحظة مِـنّـي،

تنفلتُ كما الصبح من عقال

الليل الطويل الطويل.. !!

***

محمد المهدي – المغرب

14/04/2023

أحبّ بلادي ..أحبّ بلادي

فحبّ بلادي هوى بفؤادي

**

أغار عليها وفي غيرتي

جنون كمس الهوى في اعتقادي

**

أحبّ بلادي وفي حبّها

غرام يؤرقني بالسهاد

**

رضيت بحبّك رمزا وفخرا

وسحت بأرضك كلّ البوادي

**

وطفت الصحاري وجبت البراري

وفي كلّ شبر أنادي: بلادي

**

وحملني الحبّ ما لا أطيق

فأعلنت حبّك في كل نادي

**

وإن سألوني .. لم ذا الغرام؟؟

لقلت: غرام الهوى والوداد

**

شربت من الحبّ صفو الأماني

ونلت بحبّك كلّ مرادي

**

فإن كانت الأرض مهد الأنام

فأرض الجزائر مهد الجهاد

**

ومهد البطولات مهد الفدى

وجنّة خلد لكل العباد

**

وموطن أهل النهى الفاتحين

وأحرار شعب أبيّ جواد

**

أحبّ بلادي وإن سألوني

لقلت: الجزائر حبّي وزادي

***

تواتيت نصرالدين

 

في صَباح يَومٍ رَبيعيٍّ مُشّْرِقْ.

شَاهَدّْتُ حِمَاري (أَبا الرَّيْحَانِ) يَبكي بُكاءً مُحْرِقْ.

قُلتُ يا حِمَاريَ العَزيْزِ:

أَجاركَ اللهُ مِنْ كُلِّ أَمرٍ مُرهِقْ.

ما الامرُ يا (أَبا الرَّيْحَانِ) وأَنتَ للدُّموعِ تُطّْلِقْ؟.

قالَ لي (أَبو الرَّيْحَانِ):

اسكتّْ يابنَ (سُنْبَه) ... فالأمرُ جِدُّ مُصّْعِقْ.

قلتُ يا (أَبا الرَّيْحَانِ):

فَضْفِضّْ ما بقَلّْبِكَ مِنْ هَمٍّ مُخّفِقْ. (مخفق من الفشل).

تَكَلَّمّْ مَعي فأَنا صَديقُكَ المُصّْدِقْ.

قالَ حِمَاري (أَبو الرَّيْحَانِ):

نعم ... أَشكو إِليكَ يَا ابن (سُنّْبَه)، فأَنّْتَ أَخٌ مُشّْفِقْ.

لَقَدّْ وَصَلَني مِنْ بَعضِ إِخوَتي؛ خِطابٌ مُقّْلِقْ !.

قُلتُ يا حِمَاري يا (أَبا الرَّيْحَانِ):

هَلّْ مَاتَ زَعيمُكُم ذَا القَوّْلِ المُفّْلِقْ؟.

صَاحِبُ الرأْي السَّديْدِ والمَنّْطِقْ؟.

ذُو الخِطَابِ الرَّصِيْنِ المُذّْلِقْ ؟. (المذلق : الفصيح)

قَالَ حِمَاري:

قَبَّحَكَ اللهُ مِنْ مُتَشَائِمٍ مُفّْتِقْ. (يَفتِق الهموم).

قُلْتُ:

يَا حِمَاري يَا (أَبا الرَّيْحَانِ)؛ أَخبِرني بِخَطّْبِكَ المُحّْدِقْ؟.

قالَ حِمَاري (أَبو الرَّيْحَانِ):                                                

كُلُّ هَمّْي مُسْتَقّْبَلُ شَّعبِ العِرَاقِ المُقّْلِقْ.

فَأَكثَرُ الأَطفَالِ يَعيْشونَ الفَقّْرَ المُزعِقْ. (مزعق : مُرّ).

وَ الشَبَابُ يُعانُونَ شَظَفَ العَيّْشِ المُرّْهِقْ.

العَطَشُ أَهلَكَ الأَنْعَامَ والحُكومَةُ لا تُشّْفِقْ.

وَ لا وزيرٌ مِنْ حُكومَتِنا؛ يهمُّهُ الأَمّْرُ وبالحَقيّْقَةِ يَنّْطِقْ.

فَيَشّْكوْ حَالَنَا للعَالَمِ؛ لَعَلَّ (الأَتراكَ) بِنَا تُرفِقْ.

و (تُركيَا) لا تَرعى للجِوارِ حقاً وللمَاءِ تُطّْلِقْ.

وَ لا الفَاسِدونَ يَرحَمونَ هذا الشَّعبَ المَزِقْ. (المَزِق: الممزق)

فَهُمّ بهِ نَهْبَاً وأَكلاً ... أَكلَ الذِّئابِ لِحَيْوانٍ نَّفِقْ.

للهِ دَرُكَ يا عرَاقُ؛ كَمّْ نُورُكَ عَلى العَالمينَ مُشّْرِقْ.

فَلِلْعراقِ في سَمَاءِ العِلّْمِ نُجُومٌ تُبْرِقْ.

أَسَاتيْذٌ في كُلِّ عِلّْمٍ لِلمَعَارِفِ تُخْرِقْ.

أَطبَّاءٌ في فُروعِ الطِّبِّ لَهُمْ راياتٌ تُخْفِقْ.

مُهَنّْدِسُونَ في العَمَائِرِ لَهُمّْ شَأْنٌ مُشّْدِقْ.  

و أَضَافَ حِمَاري (أَبو الرَّيْحَانِ) بصوتٍ مُفّْرِقْ:

و نحنُ الحَميرُ ؛ لا وَظائِفَ لنَا والبَطالَةَ بِنا تَحّْرِقْ.

فلا بَضَائِعُ نَحّْمِلُ؛ فكُنّْا بأَحمَالِنَا مِنَ النَّاسِ نَسْتَرزِقْ.

كُلُّ هذا يا ابنَ (سُنبَه)، وتُريدُنِي أَنّْ يكونَ وَجّْهي بَهيّْجٌ طَلِقْ؟.

قُلتُ يا (أَبا الرَّيْحَانِ):

لقَدّْ أَدميّْتَ قَلّْبي ... وأَكادُ أَموتُ وأَنا فَرِقْ.

و من الحزن كأَنَّ السماءَ عَلى رَأْسِي تُطّْبِقْ.

يا (أَبا الرَّيْحَانِ) ... يا ابنَ الرَّافِدَيْنِ، كَمّْ أنْتَ وَطنيٌّ مُشْفِقْ؟.

فالفَاسِدونَ خَانُوا الضَّميرَ، وسَاروا بالطَّريقِ الزَّلِقْ.

لقَدّْ خَانُوا الشَّعبَ، وكَفَروا بِحَقِّ كُلِ مَخْلُوقٍ قَدّْ خُلِقْ.

لقَدّْ خَانُوا الشَّعبَ، وكَفَروا بِحَقِّ كُلِ مَخْلُوقٍ قَدّْ خُلِقْ.

***

محمد جواد سنبه

  

البحر أمامي، الأمواج تتكسر عند الصخور الناتئة، فتتحول إلى موجات صغيرة،الأفق يعانق زرقة الماء التي تتحول إلى خضرة مشوبة بالبياض وأشعة الشمس المنفلتة من بين الغيوم الرصاصية تعكس ألوانا متداخلة على سطح البحر، على بعد خطوات مني اعتلى صياد في متوسط العمر صخرة متشحة بالسواد وطرح صنارته في البحر،علَّ سمكة تعلق بها، كان منشرحا مستمتعا بالأجواء.

تقدمت خطوة إلى الأمام،أصبحت على مستوى واحد مع الصياد، رش رذاذ الموج وجهي ومناطق أخرى من جسمي، أحسست برعشة نشوة سرت في كل ذاتي، التفت إلى الخلف رأيت زوجتي منشغلة بجمع أصداف البحر وقطع الأحجار المتناثرة بين الصخور وعلى الرمل، تركتها لحالها، وعدت لأحضن بفرح طفولي سحر المنظر المبهج الذي كانت ترسمه الطبيعة أمامي، قلت لنفسي : "أريد هدنة تبدد بعضا من ثقل السنين الماضية، وتُسكّن إلى حين أوجاع الخاطر والبدن، وتسمح لي بمواصلة الرحلة دون توترات طارئة، فالطوارئ لا تحمل إلا ظلال الكآبة و بؤس اللحظة، وتزيد شدة التمزق والتشظي."

نادتْ عليَّ زوجتي تدعوني لمغادرة المكان، رفعتُ يدي مطالبا إياها بالتريث لحظة، وافقتْ، ثم عادت لأصدافها وأحجارها، وعدت أنا إلى عالمي أمارس طقوسي بصيغة خاصة بي، سألتني موجة حمقاء وهي تلقي بمائها وزبدها نحوي :"أتبحث عن الزمن الضائع عند البحر؟.."

لم تترك لي فرصة الرد وأجابت عن سؤالها:" لن تجد هنا إلا الضياع دون زمن، ولن ترى إلا الوجع المضمر في سحر المنظر وجمال الصورة".

استفزني الأمر وأيقظ داخلي مرارة لم أفهم سِرّ انبلاجها، هناك طبعا شيء غير طبيعي يقلب مزاجي ويضعني في مواجهة حقائق ووقائع ذات حمولة سلبية تقتل ذلك الإحساس السابق وتصيبني بالخرس، تراءت لي فجأة بين أحضان الموج المتلاطم جثثا آدمية تطفو على سطح البحر، تذكرت نصيحة قديمة لوالدي :" احذر يا بني البحر والنار والمخزن".

اهتز وجداني بقوة، تلاشت جمالية المنظر، وقفزت الى الذاكرة جُملة من التساؤلات الغامضة، وفُتِحتِ الأقوس، وتناسلت الجمل الاعتراضية في نسق ناشز لا يقود الى معنى.

للبحر جوع من نوع خاص، فهو يعشق ابتلاع المغامرين الباحثين عن لقمة عيش افتقدوها في أوطانٍ ضاقت بأحلامهم ودفعتهم قربانا لأمواجه القاسية، حتى إذا صعدت أرواحهم لباريها عاف جثثهم وقذف بها بعنجهية.

أحسست فجأة بِيدٍ تضغط على كتفي، وصوت يوقظني من سهوتي، تبينت أنه لزوجتي التي هتفت بي:

- عُد إلى رشدك يا فيلسوف عصره، فأنا لم أعد قادرة على تحمل لسعات البرد.

***

محمد محضار

14أبريل 2023

 

بعد أن أنهى الدراسة في كلية العلوم سيق لكلية الضباط الاحتياط لأداء الخدمة الإلزامية وتخرج منها برتبة ملازم مجند ونسب إلى مدرسة القتال في الديوانية ورغم أنه لم ير مدينة الديوانية سابقا إلا أنه حرص على السؤال عنها ومعرفة أحوال أهلها وكيفية التعامل معهم من معارفه الذين لهم اطلاع على أحوالها واعتبر تنسيبه للعمل فيها خلال خدمته الإلزامية فرصة للتعرف على أحوال أكبر مدينة في الفرات الأوسط وتمنى أن يتعلم من أهلها ما اشتهروا به (الحسجه) .

. اعتاد سريعا على جو المدرسة والتدريبات العسكرية فيها وكون شبكة علاقات صداقة مع الضباط والجنود إذ كان حريصا على أداء واجباته التدريبية والشؤون الأخرى وكان متعاونا فحظي بمحبتهم وتلقى عدة دعوات للزيارة في بيوتهم وتعرف على المدينة وبعض احيائها بشكل جيد وذات يوم دعاه زميل ملازم أول إلى بيته على طعام عشاء في حي المعلمين فقبل الدعوة شاكرا واتفق معه على اللقاء في أحد مقاهي الحي قبل موعد العشاء بأكثر من ساعة وأثناء جلوسه في المقهى كان يراقب المارة ويعجب بالزي العربي الخاص بالمدينة حيث يضع رجالها على رؤوسهم (عقال) تتميز به الديوانية عن غيرها من المدن وأثناء هذه المراقبة مرت شابتان جميلتان بزي حضري جميل ودقق بملامح اطولهما فكانت زميلته في الكلية والقسم حسيبة حميد الجاسم فهب واقفا بقصد إيقافها والسلام عليها لكنه تذكر أن بغداد غير الديوانية فتوقف عند باب المقهى ملاحقا بنظره تلك الزميلة التي تركت سيرة حسنة في الكلية لمدة أربعة أعوام دراسية .

. في هذه الأثناء وصل صديقه فاتجها سيرا على الاقدام وفي منتصف الطريق وجدا الفتاتين بنفس الاتجاه فرمى عليهن صديقه السلام وحياهن بحرارة وقدمه لهن باعتباره صديق ورفيق سلاح وعرفه باسمائهن هنا ابتسم هو وابتسمت حسيبة ومدت يدها مصافحة وقالت: نزار عبد الكريم جواد زميلي في كلية العلوم وفي نفس القسم لأربع سنوات اهلا بك في مدينتنا الديوانية .

. في الطريق تحدثا عن ذكرياتهما في الكلية وكبريائها الذي وصل حد الغرور إذا لم تشارك الطلاب في اي فعالية خارج الدروس ولم ترتبط بأحد وصراحتها ووضوحها وحصر وجودها في الكلية على تلقي العلم فقط فلم يقترب منها أحد الطلاب ولم يكن لأحد معها غير الزمالة والاحترام بعدها أخبرها أنه يؤدي خدمته العسكرية في الديوانية وهو اليوم في زيارة لبيت صديقه وأخبرته هي أنها عينت مدرسة وتقضي فترة التدريس في القرى والأرياف الآن في منطقة ريفية من نواحي منطقة الدغارة ثم توادعا عند باب بيت مضيفه على أمل صدفة أخرى لكن صديقه دعا حسيبة للعشاء باعتبارهم جيران فتشكرت واعتذرت ودخلت الثانية البيت فعرف أنها اخت صديقه .

. عندما عاد إلى مكانه كانت حسيبة تشغل كل تفكيره بجمالها الأخاذ وشجاعتها كامرأة متعلمة وكبريائها واعتدادها بنفسها وتمنى لو أن الوضع هنا يكون أفضل انفراجا من جو الكلية ويستطيع مفاتحة حسيبة ومعرفة رأيها به لو تقدم لخطبتها من أهلها لكنه لا يعرف ظروفها وهل للعلاقات العشائرية سطوتها حتى على خريجات الكليات أو لا وسهر أغلب ليلته بحثا عن حل يصل به إلى ضفاف حسيبة وخطبتها والاقتران بها وتكوين أسرة حتى داهمه النعاس .

. إعادت صدفة لقاء نزار في نفس حسيبة ذكريات ايام الكلية وسنواتها وكيف حددت نفسها بتصرفات مشددة حيث لم تشارك الزملاء جلساتهم وسفراتهم ولم تقهقه أمام أحد قط كما لم تساير الموضة وكانت مثال للاحتشام والعفة طوال تلك السنوات لكنها تساءلت وماذا بعد كل هذا ؟ ألم يحن أن يكون لي زوج وبيت وأسرة؟

هل اتزوج على طريقة امي وجدتي وانا المتعلمة ؟

ثم قالت لنفسها كان نزار طيلة أيام الدراسة شابا مؤدبا لم تسجل عليه شائبة من أحد وعلى حين غرة سالت نفسها .. لو تقدم نزار لخطبتك هل توافقين به ؟

فضحكت ساخرة من نفسها ودست رأسها في وسادتها .

. منذ دعوة العشاء ونزار يتغير كل يوم وتظهر عليه اعراض الشرود وكثرة التفكير والإهمال لنفسه وقلة الأكل ففطن له صديقه وطلب منه الخروج معه في نزهة في المدينة بعد الدوام لكنه مانع في البداية وفي الاخير رضخ لامر صديقه وفي زاوية مقهى غير مكتظ طلب منه صديقه أن يبوح له بمشكلته عله يستطيع مساعدته لكنه رفض وبعد الحاح اشترط نزار على صديقه القسم بالكتاب المقدس على أن يبقى الأمر سرا بينهما فاقسم صديقه وصغى له بمحبة أخ فأخبره بحبه لحسيبة وعجزه عن إيجاد طريق لمعرفة رأيها بالزواج منه هنا تهللت اسارير صاحبه وأخبره أن الأمر ليس بتلك الصعوبة وحسيبة جارتي مذ كنا أطفال وأبوها رجل متعلم متفهم لكن حسيبة ذا شخصية قوية وصريحة ماذا لو رفضتك ؟

إذا كان رفضها مبرر سأعيش اليأس فترة واعرف أنها ليس لي بعدها ربما اشفى من حبها مع علمي أنها لم ترتبط بأحد طيلة أعوام الكلية ..

طيب امهلني يومين ولا تسألني ماذا سأفعل فقط تذكر اني أقسمت لك على سرية الموضوع .

. في اليوم الثالث دعاه إلى بيتهم ولم يسمح له بالرفض أو الاعتذار وأخبره أن هناك مناسبة في بيتهم وهو ضيف الشرف وعليه أن يكون نزار الذي عرفه اول مرة من شياكة وأناقة وحسن تصرف واختيار المفردات وفي المساء كان البيت يزدحم بالضيوف ومن ضمنهم حسيبة وأبوها وكانت المناسبة عيد ميلاد اخته وشعر نزار بالحرج إذ جاء من غير هدية للمحتفى بها لكن صديقه اجلسه وطلب منه مفتاح سيارته وخرج لحظات وعاد مسرعا وبيده علبة هدايا فاخرة وأعلن أمام الجميع عن هدية صديقه نزار عبد الكريم جواد وفتح العلبه أمام الحضور وطلب من نزار أن يقدمها بنفسه فكانت اغلى هدية قدمت في الحفل وسط انبهار الجميع وظن البعض أن نزار سيعلن خطوبته على المحتفى بها .

. دارت حوارات جانبية شارك فيها نزار مع حسيبة منفردا ثم عرفته على أبيها وتحدث مع آخرين ثم طلب بعض الحاضرين من نزار أن يبين لهم كيف رأى مدينتهم وهل يفكر بعد انتهاء خدمته العسكرية أن يتزوج من امراة ويعيش في المدينة؟ فوقف نزار شاكرا الجميع وأخبرهم أنه ليس غريبا عن المدينة وانهم يشاركونه اليوم الاحتفال بعيد ميلاد اخته وهو المضيف وبخدمة الجميع فهناه الجميع بحرارة وصفقوا له وهنا سأله صديقه .. وماذا بعد ؟ فقال

كل خير ان شاء الله

فاضاف ابو حسيبة القصد هل اخترت فتاة من الديوانية ؟

. نعم بكل تأكيد ياعم

. وهل فاتحتها؟

. ابدا والله يتحول خجلي إلى خوف أمامها

. والحل ؟

. فكرت بكل الحلول لكني اخاف الرفض

. هل تعرفها ؟

. عز المعرفة ؟

. ماذا تحتاج لمعرفة رأيها؟

. مساعدة من رجل بحصافتك

. هل تحبها ؟

. كل الحب ياعم

. ماذا لو رفضتك ؟

. ساحترم رأيها واكتم

. انت مدعوا عندي في بيتي وحدد الموعد

. اسمح لي ياعم بتقبيل جبينك ويدك

. جبيني نعم يدي لا

. انت بمقام والدي

. وليكن

. هنا تمشى نزار خطوات باتجاه مكانه ومر من قرب حسيبة فابتسمت له وقالت :

كنت خطيبا مفوها فشكرها وسألها ماذا تقدمين لي في بيتكم ؟

. ما يقدم للضيوف ؟

. طلبي أكبر

. ماهو ؟

. فهمس وكست الحمرة وجهه .. انت

. ضحكت وقالت يالك من خبيث ماكر

. ودع المحتفلون أهل البيت وخلت غرفة الضيوف على نزار وعائلة صديقة وهم معجبون بشجاعته الأدبية ولباقته وحضوره الجميل وشكرته اخت صديقه وامها على الهديه ثم اختلى بصديقه وعانقه وشكره بامتنان فضحك صديقه وقال له :

لم يساورني الشك بذكاؤك لكنك اليوم كنت مذهل وضربت عصفورين بحجر

. رد نزار هذا بفضلك وجهودك وكرم اصلك وعائلتك ثم ودعه وخرج .

. زار نزار بيت حسيبة وجلس مع أبيها وحدثه بكل صدق ووضوح عن نفسه وعائلته ووضعهم الاجتماعي والمادي ولما وجود قبولا أخبره أن يرغب بالاقتران بحسيبة أن لم يكن عنده أو عندها مانع ، فأخبره الوالد بموافقته لكن شرط موافقة حسيبة وقبل أن ينهض ليسالها رأيها دخلت حسيبة بابهى طلعة واخبرت والدها أنها موافقة لمعرفتها بسمو أخلاق نزار والرأي الأول والأخير لك .

قال الوالد: على بركة الله بعد أن ينهي خدمته العسكرية وتنهين انت فترة القرى والأرياف.

. وبعد عدة أشهر اندلعت الحرب فنقل نزار إلى المعركة ثم وقع في أسر العدو وانقطعت أخباره وبعد قرابة السنة تزوجت حسيبة من آخر وأنجبت وتوفى زوجها ومرت السنين وفي عمرة شعبان هذا العام التقيا على صعيد عرفات وهما ارملان متقاعدان فاتفقا على الزواج

***

قصة قصيرة

راضي المترفي

 

ما زالتْ عينِي ترْبُو إلى النّرْدِ

تتَلمَّسُ نَظَراتُها الزَّواياْ

تبحثُ عنْ رُكنٍ تأتِي منهُ الغَنيمةُ

وهَلْ في النّرْدِ غنيمةٌ؟

أصابعُ الفتيةِ تَقَلُِبُهُ بمهارةٍ

عينِي تَقَلِّبُهُ بتعجبٍ

كلٌّ منَّا يَنتظِرُ منهُ أنْ يثبتَ

على ما يَتَمنّاْهُ

ما زلتُ أنا أيضاً أتمنَّى

وتلكَ اليتيمةُ أيضاً تَتَمنَّى

وعيناهَا تربوانِ لفُستانِ العيدِ

هي تَحلُمُ

وأنا أحلُمُ

بوطنٍ   تسُودُهُ العدالةُ

الاجتماعيةُ بينَ الأفرادِ

أترى النّرْدَ مُتكافِئَ الفرصِ؟

على اللوحِ البُنِّي

يَتَدَحْرَجُ

بكلِّ ما أُوتِي من قوةٍ في الدفعِ

ليستقِرَّ مَذهُولاً

لِفَرحِ بَعضٍ، وَبكاْءِ بعضٍ

كرَصَاصَةٍ طَائِشَةٍ

في عرسٍ

أو جِنَازَةٍ

أو نائِبٍ قذفتْ بهِ الصدفةُ

ليَصُوغَ تَشريعاً على مقاسِ يدِهِ

***

كامل فرحان حسوني

 

القسم الثاني

أطلق ضحكة مكبوتة أعقبتها ابتسامة صفراء مثل زهور النرجس في المنتزه التي بدأت تتلاشى منذ بدأ الدفء يدبّ:

لأنني أحبها َ

فتظرت إليه بأسف

وهل نضرب الذين نحبهم؟

قال من دون تفكير:

أمك طائشة تبدّل رأيها دائما لاتثبت على فكرة ولا وسيلة عندي لأعيدها إلى صوابها إلّا بالعنف.إنّها تدفعني لسلوك أهوج.هل اقتنعت؟.

لزمت الصمت، فقال:

ألا يحب الطفل لعبته (وتساءل من غير أن ينتظر جوابا مني)لماذا يكسرها إذن؟

بقيت صامتا واستمرّ:

ستفهم حين تكبر

هل تذهب معي

سأذهب معك إلى البيت لكن شرط ألا تكون عنيفا.

لن أذهب إلى المنزل سآخذك إلى السينما ثمّ نتعشى في أيِّ مكان ترغب.

فغادرت المسطبة متذمرّاً:

لا سأذهب إليها

هذه المرة ، قبل أن أترك المنتزه، راودتني فكرة مجنونة حقّا

من دون تردد

أغيّر طريقي

لن أهرب إلى المنتزه، أمامي قسم الشرطة، أكشف الحقيقة لهم أفضح سرّ البيت سوف يأتون ويرون الكدمات على وجه أمّي، إما أن نعيش نحن الإثنين سعيدين وقد يعود إلينا أبي أليفاً بعدما يتعهد أمام الشرطة بالتخلي عن العنف وضرب أمّي.

لكن

جاءت النتيجة على وفق أحلامي

بعض تأنيب الضمير

ولا أظنّ أنّي أخطأت

لو طاوعت أبي وذهبت معه إلى السينما ثم تعشينا خارج البيت ، لما طلع عليه الموت من مكان ما.

التقرير الطبي يقول:كان في حالة سكر شديد، سائق السيارة التي صدمته نفسه كان قد تخطّى حدود السّرعة داخل المدينة وبذلك تكون في قبضة أمّي حفنة كبيرة من المال دفعها لنا التأمين.وحسب شهادة بعض المارة إنّه كان يزعق، رآه حارسا البار الواقفان عند البوابة يندفع بجنون إلى وسط الشارع

تهوّر..

لامبالاة

لا أحد يظن أن رجلا بإرادة أبي يمكن أن ينتحر

الأدهى

أنّه إذا سَكِرّ أصبح أليفا كالحمام

وأظنّني ولا أخدع نفسي سمعته يتغنّى باسم أمّي حتّى يغفو من ثقل سكره

والأغرب

أنّي وجدت أمّي تبكي عليه بحرقة، أمّا أنا فلم أحزن كثيرا.سوف أفتقده.كان يرغب في أن يكسب صداقتي لكنني فرحت في الوقت نفسه بمبلغ التأمين الكبير.

أتابع باهتمام قضية أمي.. لعلّ أفضل صديق ينفعني بحلّ اللغز شبكة النت

لماذا بكت أمي على أبي الذي كان يضربها بقسوة ويرسم على وجنتها بكفيه الغليظنين علامات زرقاء؟

ولم تفرح بالتعويض بل فكّرت أن تتصدّق به.لا تريد أن تأكل من دم أبي، وهمّت -لولا اعتراضي -أن تتبرّع بالمال على روحه لفقراء يعيشون في الشرق البعيد أو تحفر بئرا في بلد إفريقي باسمه يسقي العطاشى.

أمنح صديقتي الشبكة كلّ المعلومات فتصل حالات تضايقني

قد تكون مقنعة غير أني أشعر بحنق منها

أكتب:

هل أحبت أمي أبي قبل الزواج؟

اللاب توب:

أمّك أحبّت أباك ثمّ اكتشفت بعد الزواج طبعه الحاد

اللاب توب يضع خطّا اخضر تحت كلمة تحبه وترى فيه ماضيها الجميل

أكتب:

هل أحب رجل آخر أمي؟

اللاب توب:

الاحتمال الآخر أمك أحبها رجلان أحدهما وسيم وآخر رجل وسيم فيه خشونة كانت تحب الآخر.. لكنّ الرجل الأقلّ وسامة هجرها، فاغتنمها أبوك فرصة لكي يحقق حبه وانتقامه

تحت كلمة هجرها خط بني وتحت يحقق انتقامه خط أحمر

أنا: هل تعلم يا صديقي أن أمّي اعتادت في جميع المناسبات المشهورة أن تزور قبر أبي وبيدها حزكة ورد بيضاء!

اللاب توب

التعليل الثالث

أمك منحت نفسها لشخص أحبته فستر عليها أبوك شرط ألا تعترض على أيّ تصرف منه

خط أحمر تحت كلمة منحت وآخر داكن تحت ستر

اعترض:

أمي مولودة في الأصل من مجتمع شرقي محافظ.

اللاب توب

هي ليست ملاكا

أسخر.. أستهزئ فاللاب توب يشعرني أنّه صديق في بعض الأحيان فأحاول أن أدفع عن شرف أمّي:

تذكرتُ أيها الصديق العزيز شيئا مهما أمي كانت تحبّ التين كثيرا والرجل الذي راودها من أمريكا اللاتينية

اللاب توب يسأل جادا بقسمات صارمة.

ماعلاقة الأمر؟

جوابي بسفاهة لا متناهية:

سميت اللاتينية ليس بها تين.

You are vile

أصمت.

اللاب توب يبعث لي علامة تعجب.لايغشني.يعرف درجة يقظتي ومهارتي في التعامل معه للمرة الأولى أسخر منه ومن نفسي وأمي والعالم.وهو يحاول أن يتفاعل مع أبعد الاحتمالات بدرجة اليقظة ذاتها التي يتعامل بها مع الاحتمالات القريبة..

أسأل باهتمام:

إلى أي احتمال أنت تميل؟

- الثاني

أغذي اللاب توب بمعلومات أخرى أخفيتها عنه:

أبي قبل الزواج كان ملاكما.عمره ست سنوات حين جاء مع والدية إلى بلد المهجر.لم يمارس أية هواية غير الملاكمة.. حصل على بطولة محلية.وكان يطمح إلى العالمية.يحلم أن يصبح مشهورا مثل محمد علي كلاي في أحد النزلات انتكس فتخلى عن أحلامه.جاءنا بوجه متورم، مزرق، ذي كدمات داكنة حتى إن والدتي خشيت أت يكون تعرض لارتجاج في المخ من قسوة الضربات..

بعد الإضافة الجديدة...

جاءت النتيجة مطابقة للاحتمال السابق وكنت أظن اللاب توب يغيّر رأيه أو يُرجع عنف أبي إلى اعتزاله هوايته المفضلة الملاكمة التي كرهها عقب هزيمته القاسية ولم يعد يتابع أخبار الملاكمة وأبطالها عبر شاشة التلفاز..

هناك أكثر من مجال أمامي

أغيب في المجال الواسع جدا الذي يمنحني أيّ شئ ماعدا البراءة فيما لو فعلته:

أتابع بريئا

أطلع في تلصصي على ملفاته، وأتساءل:

هل يمكنني أن أصبح مليونيرا؟راتبي ضخم وحياتي مرفهة.أعيش وحدي بعد وفاة أمّي، مع ذلك وجدت نفسي مثل التمساح.

كوسجا

حوتا

لا...

الحوت والكوسج لا يكمنان لفريستهما ولا يذرفان عليها الدمع بل يهاجمان بكلّ وضوح ويطاردان جهرا

أما أنا التمساح فأكمن لكلّ ما أراه غريبا...أليفا كان مثل الغزال أم متوحشا كالأسد

لحدّ الآن لم أهاجم بريئا

هناك فرق جوهري آخر بيني وبين التمساح: صورة السِّلفي التي التقطتها من الهاتف تثبت أنّي غير منفر ولا كريه...شكلي ملامحي فيها بعض الحيويّة وليست بقاسية ربما أتمتع ببعض الوسامة طولي 175 سنتمترا

لا أعتقد أَنّ هناك عيبا في صورتي

أقصد المرآة فأجدني عاديّا

أما الآن فأبدو أمام هدفي بصورة أخرى تثير القرف

أتابع الرجل البرئ المليونير

منذ أوّل خطوة يخطوها في الشبكة العنكبوتيّة

أخترقُ مستشاريه وأتتبع أرقامه السريّة فينتهي بي المطاف معه إلى أحد المصارف في سويسرا

أتحسس خيوط الضّعف

غنيّ ّ

ثروته في هذا المصرف خمسة ملايين ولعلّ له رصيدا في مصارف أخر

ماذا لوحققت ضرية لا تخيب في ربح مليون؟

أقدر أن أتجاوز إلى أكثر من هذا الرقم لكني حتى في سرقتي وانتقامي أريد أن أكون رحيما

مذهل

أين كنت من قبل عن أمثال هؤلاء؟

لن يضيره شئ

هل يضيره حين يخسر، مبلغ مليون.. أقلّ قليلا أم أكثر، يمكن أن يفقده في جلسة قمار أو سباق خيل.. لِمَ أستبعد ذلك؟

سيذهب ضحية وسيط آخر

مثلما أجيد صيدَ المخترقين أقدر أن أكون واحدا منهم

رئيسهم الذي لا يكشفه أحد

أتممت الخطّة في ثلاثة أيام

غذّيت بوهم

وحقائق

زوّرت

وتسللت

التنفيذ جاهز.. لِمَ لا أصبح مثل المتلصصين الألمان والرّوس.. على الأقل أحقّق لقب مليونير في بضع ساعات؟

وصورة السِّلفي معي وربما هي التي ذكرتني بصديقتي داليا

فلمحّت إليها

هناك مليون.. ثلاثة ملايين أي رقم.. ينتظرني

كيف؟ لم أفهم قصدك؟

تابعت أحد أصحاب الملايين

معقول!

لِمَ لا هو في قبضتي الآن!

أنت الذي أنقذتني من عملية احتيال!

وهل أنا ملاك؟

نعم أنت ملاك

صحيح؟

ملاك ملاك انت أطيب قلب

لا أريد أن أصبح جشعا خلال لحظة تمرق كالسهم

أخيب ظنّ داليا بي

الخير وحده يطاردني

التناقض في أن تأخذ بيد إنسان وتصفعه في الوقت نفسه

تحيي وتقتل

هناك إنسان يظنني لا أفعل الشّرّ

داليا هل صَدَّقت؟‘ني أمزح معك ألا تحبين المزاح؟

طبعا لا أصدّق

أعود فالغي خطتي

اذن من أجلك أنت لن أتعاطى بالشر حتى من باب المزاح

اقتربنا أكثر وأكثر

ورفع كل منا السِّتار عن نفسه أمام الآخر

كانت تستشيرني في كثيرٍ من الحالات التي تواجهها في العمل ولحياة الخاصّة

عواطفنا أيضا كبرت

تعقّدت

تشابَكَتْ

عزيزتي كيف حالك؟

انا بخير كيف أنت

أكون أكثر مرحا حين أحدثك

:الوجه المدور يزيده التماعا بريق الشاشة.يبتسم لي

حسنا اتصلت بي ٌقبل أن أخلد للنوم.

الآن انتهيت من عملي قبل دقائق!

أنا أصبحتُ مثلَك: اليوم أخبرني المدير أنّي يمكن أن عمل من اللبيت.

ذلك رائع.. ما الذي كنت تفعلينه قبل أن أتصل يك؟

أنسِّق برامج عمل الشركة ليوم غد.

جميل جدا

تساوينا اذن

أَمَّا اذا التبس عليك أمر فيمكنك الاتصال بي لأطردَ أيّ طفوليّ أو مُخترق

لكننا وان انعزلنا يمكن ان نلتقي ذات يوم

بلاشك

تصبحين بخير

قبلاتي

تصبح على خير

بعد وقت ما قد يكون بضعة أشهر أو سنة ربما أكثر سألتها:

هل لك علاقة سابقة؟

لا أدري لِمَ تمنحني الكتابة للآخر بعدا أفضل مما لو أتحدث معه بلساني وجها لوجه.عليّ أن أكون ذكيا في الاستنتاجات فليس هناك من تعابير وجه ولا حركة يد ولا نبرة لسان تساعدني ومثلما أنا عليه أجد الآخر في موضعي:

لا أنكر علاقة عابرة نعم

ماذا تقصدين بعابرة

لا تتصنع عدم الفهم

ولِمَ لا تقولين إنّه الفضول أو...

أو ماذا؟

أظنّها وهواجسي لن تخطئ هي المرأة التي أحقّق فيها رجولتي:

الغيرة

جاءت المراسلة على الشكل التالي:

نحن في بلد أوروبي متحرّر...هنا الفتاة متحررة إن لم تتخلص من عذريتها تثير قلق أهلها

قصدك هل أنا عذراء؟

أنت ذكية

بل السؤال سخيف

شكرا

أظنها تبتسم، هل احتقرت سؤالي:

لا تستغرب إذا قلت لك إني عذراء نحن شرقيون مسيحيون ربما اندفعت في مراهقتي فقبلني صديق في المدرسة لكن بقيت البكارة ترافقني هل ارتحت؟

تقصدين لن بحدث ذلك إلا من خلال الزواج؟

- نعم

- بالتأكيد

في تلك اللحظة وبعدها بأيام أو أعوام جلست أفكر.صديقي العنكبوت له شبكة واسعة تغطي الدنيا

يدخل البيوت ويتغلغل في غرف النّوم ، يعرف الأسرار والخفايا.. كنت أجده هذه المرّة في هيئة شخص مهيب.رجل في الأربعين من عمره يضع قبعة على رأسه ويرتدي ملابس متضاربة الألوان سترة سوداء وسروالا أبيض.حذاء أحمر لماع لكنه كان يسدل القبعة على عينيه ويمدّ رجليه على الكرسي المقابل لي.

هكذا كنا أنا وإياه

لم أنزعج لجلسته الرزينة العبثيّة، فهو يظهر لي -كلّما ألتقيه- بشكل آخر جديد يختلف عن الشكل الذي قبله.

أمازحه:

أنت حرباء.

فيبتسم من غير ردّ

هل يتنكّر، فهناك الكثيرون يعرفونه ولا برغب في أن يتحدّث مع أحد.

من حقي أن أسئ الظنّ بأصدقائي فقد شاهدت الكثير الكثير من الغش والخداع وأحبطت أعمالا جبارة مخيفة واصطدت حيتانا كبيرة فتّاكة

بعضها خرافيّ انقلب إلى حقيقة لا شكّ فيها

طلبت لنا آيس كريم، فرفع القمع من دون أن يحرّك القبعة إلى هامته.كانت نيتي أن أطابق صحة المعلومات التي قرأتها عن داليا مع مايقوله صديقي.دوّنت:

داليا النسور.مسيحية من الشرق.آنسه تعمل في مؤسسة النقل العامة.أمها موظفة في المطار.أبوها يعيش في أمريكا.

بدأ الفأر يرقص,الفأر المؤشر:

ماذا ترغب في أن تعرف.

أدرك جيدا أن صديقي لا ينطق إلا إذا سألته.حيادي.يمنحني المعلومات الجيدة.لن ينبهني إذا حاول هاكر أن يخترق حياتي.لكنّه ينفعني في أغلب المواقف:

ماذا ترغب في أن تعرف.

عذراء

نعم ولا.

هذا لغز؟

عذراء 80% 20% غير

بريئة؟

نعم

طماعة؟

جاء الرد:

طموحة

كتبت ثانية

تطمع

10%

باردة الأحاسيس

لا 80% 20% نعم

هل أجرت عملية ترقيع لعفتها

توقع10%

بدت السعادة تلوح على أساريري حين جاءت أجوبة الصديق المفترض مطابقة لما سمعته منها، فانسحبت من المفهى الغاص بالزبائن ومشاهد الرصيف الجميل إلى البيت، جلست أراقب المخترقين وأتابع صفقات المديرية وحركات موظفيها.تناولت غدائي على عجل.. بعض الجبن وخضار، وحين حلّ المساء طلبت من الممطعم القريب (بيتزا) بعد ربع ساعة دفعت للعامل ثمن الطعام والبخشيش ولم أتعمد النظر إلى وجهه، أغلقت االباب والتهمت طعامي على عجل ثمّ رحت أواصل عملي، قضيت اثنتي عشرة ساعة ، ثمّ جاءني طلب من السيد المدير في أن أبقى أستمرّ في الشغل لظرف طارئ يتعلق بصفقات جديدة.استلمت الرقم السري للصفقة بالهاتف النقال، تحاشيا لأيّة محاولة تلصّص وعدت أكمن وأطارد.

مازال الوقت مبكرا والسعادة تفيض من وجهي:التقطت نفسا عميقا.. إحساس بالصداع والنعاس ينتابني.جاءتني بعد ساعتين إشارة من المديريّة، فأغلقت حاسوب العمل، واضطجعت على الأريكة الطويلة في صالة الاستقبال.الوقت متأخّر قليلا. الحادية عشرة.يمكنني أن أتصل بها.المشاعر تلغي الزمن، وهناك رغية تلح.وجدتها صاحية تسهر مع النت.

داليا.

هل أنهيت عملك؟

قبل ساعات.

هناك أمر جدي أودّ أن أحدثك عنه.

طبعا لم تغامر باالسطو

الحق فكرت.موهبتي تغريني لكنني لم أرد أن أتحول إلى شيطان.

يوما عن يوم تكبر في نظري.

إذن هل تتزوّجينني.

ههه ههه

ماذا؟

ههه ههه

لِمَ تسخرين.

كنت أعرف ذلك قبل أن تنقذني من مصيبة الهاكر.

هذا ضرب من الخيال

بل الواقع

هل أنت واعية لما تقولين؟

وأصر على أني صاحية تماما ومسؤولة عمّا أقول.. !

أتأمّل قليلا:هل كانت تطاردني في غلة منّي؟

كيف كنت تعرفينني؟

إسمع هل تؤمن بالعرافة؟

لا أدري؟

إسمع قبل أن ننقذني من ورطة الهاكر بشهر زارت أمي الشرق هناك التقت عرافا مشهورا كانت تثق به قبل أن يأتي أبي بها إلى الغرب قال لها أشياء عن المستقبل وعندما رجعت سألتني هل أحب مسلما؟

هل فاجأك الخبر

ذلك الوقت لم أكن أعرفك فأجبت بالنفي

النبؤءة.. الخرافة.. الهاجس.. على وشك أن تتحقق.. خطوات بيني وبينها، فأتفق معها على موعد، وأغادر الجهاز.

ارتميت على الأريكة ، وسرعان ما غرقت في نوم عميق.لا أدري كم طالت نومتي.كأني قبلها يقيت صاحيا دهرا.حلمت أني أطير، وأستقلّ الحافلات، أركض في الشارع، أدندن مع نفسي، أعرف جميع لغات العالم، اخترق الجدران

سوبرمان..

لاحدود لقوتي التي مارستها في شبكة العنكبوت

وحين صحوت، بعثت رسالة إلى السيد المدير أخبره أني مريض ولن أقدر على العمل اليوم.

من حسن حظي أني تآلفت مع الشارع في الحلم

قبل الحلم راودتني شجاعة مذهلة في أن أحدد لقاءنا في مكان آخر غير منزلي أو مكانها.. هي المرّة الأولى التي أخرج فيها بعد أن مارست عملي الوظيفي من البيت.

***

رواية جيب

د. قصي الشيخ عسكر

 

 

إلى صديقٍ، أيقظ الفرح الحزين

لم نلتق، وما زلنا، منذ أربعة عقود

قيس لطيف

***

وأنا أقرأ أو أكتبُ في خيالي البعيد

كنتُ أريد أن يقتربَ مني ذلك الزمن

أن أمسكَ اللحظات وهي تتهاوى أعالي الروح

أن أمسكَ بيد ذاكرتي لتتفتّق شقوقها، تشتعلُ فيها الدموع

تتفتّح أبوابها العصيّة على كل آه ذُرفتْ

أسقي بها ذلك الصدى، وتلك الحجارة الصماء

تبوحُ لي عمّا غاب واندثر

كأصوات الظلمة حين يتسربلُ في طياتها دعاء

تبحثُ عن فم المدينة الذي ابتلع مصائرنا

وشحّ في عروقها الياسمين

نامتِ المدينة، وبقي الصمت يطوّح هذي الأعمار

وكلما صنعَ لي الضوء نافذة،

تُقرّبُ المجازات والاستعارات ما يشاء الرب مني،

أستكين

رويدا رويدا..

قلتُ : إذ كان طيفكَ عليّ يمرُّ ويتّسع

يوقظُ صباح الغرفة،

يقلّبُ الجرح

يخشى المكان نفسه من أعجب الذكريات

لِما باب بيتنا القديم دافئا ما يزال!

لِما الحروب سيّجتْ كلامنا وجوعنا سنوات!

**

اقتربتْ شاشة العرض الآن

وانمحى عنها السراب..

حاولتُ أن أجدكَ في المشهدِ

أو أجد المشهد فيك

لكنّي متراكما ما زلت في حبال الوهم المتراصفة

هي تنفلتُ مني، بل انفلتُ أنا منها صوبكَ

لتصحو نار العناق المؤجلة لأربعة عقود

شققن الدروب والغناء والكتب والهجرة والعناد

فلا تبكِ يا صديق و يا حبيب

فقد نضجتْ قهوة الصباح

والشِعر دمدم، أينع بما نشتهي

أو قد نسكر به مرّة .

فأطلق عصفورك في فضائهِ..

آه ..... لا تؤاخذني بما نسيتُ

الفضاء ورقة !

***

زياد السامرائي

 

الفصل الرابع من رواية: غابات الإسمنت

حين عدتُ وجدت السجينات نائمات في أسرتهن، نور خافت؛ والوحيدة التي رفعت رأسها وهمهمت هي نائلة العاصي.

كانت صديقتي مديحة مسترخية على فراشها، لا يبدو أني أستطيع الكلام خلال هذه الأجواء، غير أنني لاحظت حركة نائلة العاصي، وشعرت بها تخطو وسط الممر، خمّنت أنها ذاهبة إلى الحمّام؛ لكنها اقتربتْ من سريري.. كدتُ أرى عينيها تنطبعان على وجهي، ومالت بفمها نحو أذني:

ـ هل جلبتِ سجائر؟

ـ آسفة لا أدخن.

ـ إذا طلبوك المرة القادمة، أرجوكِ اجلبي سجائر.

ـ لا بأس.. حسنا.

وعادتْ وهي تتمتم بكلمات لا أفهمها.

في اليوم التالي انفردتُ بصديقتي مديحة، وحكيت لها عما جرى مع السيدة النقيب مديرة السجن، فهزّت رأسها وقالت:

ـ إذا أردتِ حقـًا أن تقضي نصف المدة، فأطيعي.. لا حيلة لك سوى تنفيذ الأمر مهما كان، وستفهمين كلّ شيء فيما بعد.

ـ هل أكون جاسوسة؟

ـ أبدًا، لا.. هذا تفكير غير صائب.

ـ هل تخبرينني؟

ـ الأفضل أن تكتشفي بنفسك.

ـ هل مررتِ في نفس التجربة؟

ـ نعم وبشكل آخر.

وبعد فترة صمت:

ـ ما الذي تعرفينه عن نائلة العاصي؟

فابتسمت وخفضت صوتها:

ـ سألتكِ عن سجائر؟

ـ البارحة تسلّلتْ إلى سريري.

ـ هذه مدمنة.. المخدرات استهلكتها، يبدو أن لها قريبة أو صديقة تدعمها بالنقود كلما حلّ موعد الزيارة؛ لكنها انقطعت عن زيارتها لسبب ما؛ قد يكون افتضاح أمرها أو مرضا جعلها ترقد في الفراش، وقد بانت أعراض الهستيريا على نائلة، وأظن أن أمرًا ما سيحدث لها!

اجتاحتني لحظات استغراب:

ـ ومن يجلب لها المواد؟

فتلفّتتْ وهمست في أذني:

ـ أم خالد؛ الشرطيّة نجيّة عبد الرحمن، ألم تقابليها البارحة؟

ـ نعم؛ لكنني سمعتها تكيل المديح لمديرة السجن.. وجهها عبوس ولسانها حلو.

ـ منافقة.

ـ هل تعلم السيدة النقيب أنها تهرّب؟

ـ لا لا.. لا أظن.. محال.

ـ لكنها لم تلمّح لي ولو بإشارة.

ـ هي لا تغامر إلّا إذا بدأ الطّرف الآخر.

وما كدنا نكمل الحديث، حتى تعالت صيحة من وسط العنبر اهتزت لها الجدران، استغاثة أم هلع؟

رعب.

خوف.

تراكضنا إلى الداخل فوجدنا، نائلة العاصي مستلقية على الأرض منفرجة الساقين، وقد انحدر ثوبها أسفل ركبتيها، كانت هناك رغوة تتلاطم كالموج على شفتيها، ويداها قابضتان على السرير، كأنما تحاول أن تسحبه باتجاهها ليهوي عليها، راودني خوف وهلع، صرخت: إنها حالة صرع.. وصاح صوت مكلوم: اللهم أخزِ الشيطان، أما مديحة فقد نظرت إليّ بيأس كأنها تعترض على ظنّي البريء.

حزن.

ويأس.

قبضتُ على عضد صديقتي كأنني ألوذ بها.

أهرول إليها.

كنا جميعا مسمّرات حول نائلة، يئسنا تماما ولم نقدر أن نفعل شيئا، ما عدا سجينتين؛ واحدة هرعت الى الحمّام وملأت كوبا من الماء رشّته على وجه نائلة التي زاد صراخها، والأخرى راحت تدق باب العنبر بيديها تنادي على السجّانة.

كان كل شيء يشير إلى الريبة والفوضى.

مشهد جعلني أمام تجربة البكاء بذل حقيقي..

ذلّ الدنيا التي أجبرتنا على تحمّل العيش وكأننا فزاعات في حديقة رجال بلا ذمة ولا ضمير؛ رجال كالقمامة يتفاخرون بذكورتهم القذرة، وآخرون بلحاياهم وعمائمهم المزيفة، التي أتاحت لهم التلاعب بعقول الناس وإصدار فتاوى البؤس، بل تأويل آيات القرآن وتفسيرها حسب منافعهم وملذاتهم، رجال بسببهم أدمنت نائلة المخدرات، وكريمة ارتكبت جريمة قتل، وثالثة زورّت، ورابعة سرقت... وأنا بنت ليل وهوى.. أي قهر هذا؟

***

ذكرى لعيبي

 

الديدان

والجراد

صوب ارخبيل

الخراب

تعكرها شهوة العنادل

الى دالية الامان

ورفرفات عصافير

الحقول الخضراء

وقرب ينبوع

من الق الماء

والفضة البيضاء

تنصب الايايل

والغزلان العاشقة

فخاخها في

طريق

النمور

الفهود

والذئاب

اما انا فساقضي مسائي

مساء تيقنت به

بان العالم في

طريقه الى

الانكسار

مساء سابذر في

تربته بذور

الامل الناجز

بذور التعاطف

والسلام

بذور الحكمة

الخضراء

والامان .

***

سالم الياس مدالو

جرى لقائي الأول به في بيته القائم فوق الجبل تحت الاشجار، كنت يومها في زيارة لصديقي، أخيه الاصغر، وبما أن أخاه كان مسافرًا، كان لا بدّ لي من الجلوس إليه ومشاركته شرب فنجان القهوة العربية الاصيلة، كما تقتضي العادات والتقاليد. بسرعة كبيرة تمّ التعارف بيننا، في البداية جرى الحديث عن الربيع الاخضر، بعده انتقل بمبادرة منه، لا أعرف كيف.. للحديث عن الخريف، وعبثًا حاولت أن أحدّثه عن الربيع، فقد كان يمتلك قدرةً هائلةً على جرّي إلى ما يحب من حديث خريفي أصفر، وأعترف أنه جرّني إلى خريفه، فأقمت معه وإلى جانبه فيه طوال تلك القعدة، وقد كان بإمكاني أن أنصرف عنه بسهولة.. لما فاض به من أفكار سلبية من شأنها أن تدمّر جبلًا راسيًا.. وليس كاتبًا مبتدئًا مثلي فقط، غير أن حبّي لارتياد مجاهل النفس الانسانية دائمةَ الغموض شدّني إليه، وجذبني إلى أقراص ابتسامته الدافئة الحنونة. هكذا بإمكاني القول إن لقائي الاول به كان مصادفة، أمكنني الانصراف عنها ومغادرتها إلى لا رجعة، إلا أن لقائي الثاني به كان عمدًا وقصدًا وحبًّا في المغامرة، التي يحتاج إليها كلّ انسان مبدع وعاقل، فكيف أذا كان هذا الانسان كاتبًا في بداية طريقه.. من قرية مهجرة وتضيق بأحلامه ربوع بلاده؟

في الفترة التالية لعلاقتي به، لاحظت أنه مجبول من طينة غريبة، فيها كلّ ما تريده وترغب فيه النفس وعكسه، فهو طيّب وشرير في الآن وهو عازف عن النساء زاهد فيهن وفي الآن ذاته مقبل مجنون بهن!! أما بالنسبة لي فقد اكتشفت أنه عاشق متيّم بي وكاره رهيب لي في الآن ذاته، بل إنني كثيرًا ما ألقيت القبض عليه خلال محاولته سرقة بعض من أحلامي.. وأصدقائي المقرّبين، إلا أنني سامحته لإيقاني أنه إنسان غير مُضرّ، وأن كلّ ما يفعله ويقوم به إنما يُدخل نفسَه فيه دون إرادة منه، ورغبة في إثبات الذات في عالم.. أعرف أكثر من سواي أنه يسحق أكبر ذات إذا أمكنه، كما سحق العملاق جولييت الجبار نملة.. تائهة عاشت في جواره.

لم يكن صديقي هذا يُحبّ العمل، وكان من الصعب وأكاد أن أقول من المستحيل عليه، أن يتواجد في مكان واحد أكثر من ساعتين، بعدهما كان يبدأ في الغليان، إلى أن يخرج منه- من المكان- كما يخرج العريس من بيته، وقد وجد بما اتصف به من حيلة مُضمرة وخبث موارى، أن يعثر طوال الوقت على من يعيله ويقدّم إليه كلّ ما نَشدَه وطلبه على طبق من صبر وتضحية. وحدث بعد معرفتي به أن قمت بنشر عدد من القصص، فاتصلت بي إحدى القارئات واقترحت عليّ أن ازورها في قصرها الفاره، القائم في أعماق البلدة القديمة من مدينتي الاثرية التاريخية الحضارية الناصرة. خلال زيارتي لها، فهمت أنني مهجّر ومعتّر في الآن ذاته، ولا أجد المكان الملائم لمواصلة كتابة القصص الحبيبة.. العزيزة على قلبي وحياتي. عندها أرسلت نظرة واسعة نحوي، وارفقتها باقتراح نادر، أعتقد أن جبران خليل جبران هو الوحيد الذي حظي بمثله في أدبنا العربي من بطلته الاجنبية ماري هاسكل. اقترحت عليّ تلك الفاضلة أن أقيم في إحدى غرف قصرها وأن أتفرّغ لكتابة القصص، وهي ستتكفّل بمقامي ومعاشي.. فرحت بالاقتراح، وشرعت في الكتابة مثل مجنون عثر على عقله فجأة.. وعلى غير توقّع. أعترف هنا أن ما حظينا به، أنا وقصصي، من اهتمام لفت انظار القراء في بلادي وفي عالمي العربي أيضًا، إنما كان بفضل تلك الفاضلة أطال الله في عمرها وكثّر من أمثالها.

مثلما يحدث عادة في الحياة.. والقصص أيضًا، ما إن نبه اسمي حتى اتصل بي صديقي إياه، وتحدّث عما قمت بنشره من قصص في الفترة الاخيرة، والجِمال تشيل، وكان من الطبيعي والذوق السليم، أن أدعوه لزيارتي حيث أقضي جلّ وقتي. لم تمض سوى دقائق حتى شعرت بطرقة قوية على باب غرفتي، هرعت إلى الباب وفتحته برقة كاتب قصص.. كان هو يرسل ابتسامة نحوي، وإلى جانبه السيّدة صاحبة القصر.. أما هو فقد دخل غرفة الكتابة وأما هي فقد استأذنت لإعداد القهوة العربية الأصيلة.. احترامًا وتقديرًا لضيفنا العزيز.

بسرعة متوقّعة اتخذ مجلسه قُبالتي، وراح يرسل إليّ نظرات غامضة فسّرت نفسَها بنفسِها بعد وقت قصير من دخوله الغرفة. في البداية أجرى تحقيقًا موسّعًا معي عن العزّ الغامر المحيط بي، فأجبته بمحبة صديق، بعدها تحوّل إلى الحديث عمّا نشرته من قصص منذ أتيت إلى تلك الغرفة في ذلك القصر، ولا أعرف كيف زحف كعادته قالبًا لي ظهر المجن، وبدلًا من أن يواصل مديحه لما كتبته وأنتجته في أعماق القصر، راح يكيل لي النقد ويصف كتاباتي بأنها نمطية، وبأنني يجب أن أخرج إلى آفاق أرحب من العالم، لأكتب عن تجارب أوسع وأرحب. أعترف أن انتقاداته هذه لم تكن الاولى، فقد سبق وطرحها في لقاءات أخرى ماضية وسبق لي وأجبت عنها بأن الانسان الكاتب المبدع قد يرى الله في أصغر الامكنة وأضيقها!!

دخلت علينا، في تلك الاثناء، صاحبة القصر، وبيدها صينية وعليها غلاية قهوة وإلى جانبها ثلاثة كؤوس، وضعت الصينية على الطاولة أمامنا، ولا أعرف ما الذي دفعني لأن أطلعها على انتقادات صديقي لي..، ما إن سمعت صديقتي ما قلته لها، حتى اشرأبت برأسها، وتوجّهت إلى صديقي ذاك مثل لبؤة تعرّض شبلها لخطر مُحدق، ونفرت به قائلة ما مفاده إن هذا الرجل، وأشارت إلى، يخصّني، ومضيفة انني سأقوم بسحق كل من يتعرّض له أو يُعرّض بكتابته، وأنهت قولها الغاضب بقولها: يكفي انني أنا أعرف قيمة ما يكتبه كاتبنا النصراوي المبدع.

ما إن نطقت بقولها الاخير هذا، حتى رأيت صديقي يستأذن في الخروج، ويولّي مثل طائر رُخٍ أتعبه السفر من الف ليلة وليلة إلى أعماق الناصرة، كان يبدو حزينًا.. في ذروة الحزن، وعبثًا حاولت أن أفسر حزنه، هل دفعه إليه مقارنته بين وضعه، وبين ما صارت إليه أموري من انتعاش، هل شعر أنه أهين أمامي، وأنني لم أدافع عنه كعادتي، هل وضعته تلك المرأة صاحبة القصر، أمام فشله المزمن وجهًا لوجه، فلم يطق نفسه وهرب منها ومني.. من القصر.. ومن.. وقبل أن أنطق كلمة: الناصرة، انتابني شعور أنه قد يخرج فعلًا من الناصرة وأن تلك ستكون المرة الاخيرة لرؤيتي إياه، عندها جنّ جنوني وطرت وراءه مثل طائر رخ آخر. أرسلت نظرة متفحّصة متمنّية أن تجري أموره بسلام، وبعيدًا عن كلّ توقّع قريبًا منه، رأيته هناك يجلس تحت إحدى الاشجار العارية، ويضع رأسه بين يديه. كان أشبه ما يكون بكومة من الحزن طلعت من أعماق الارض لتتخذ مكانها تحت تلك الشجرة. تقدّمت منه بخطى حافلة بالمحبة والتسامح، وضعت يدي على كتفه بشعور مبلّل بأحاسيس الفقد والخسارة المتوقّعة، وقلت له إنني لا أريد شيئًا منه وإنه إذا كان يسره أن أترك غرفتي في ذلك القصر وأنطلق معه في طريق العودة إلى الشارع فإنني سأفعل. عندها رفع رأسه وأرسل نظرةً مرفقةً بدمعة مَن فشل في كل شيء، وربّت على كتفي قائلًا عُد إلى غرفتك.. عُد إلى هناك.. فهناك مكانك الصحيح. في تلك الغرفة وبين جدران قصصها.. ومضى في طريقه محنيّ الظهر.. وكأنما هو يحمل جبالًا من الأسف.

***

قصة: ناجي ظاهر

 

 

لم تكن تدرك يوما ما أن الشجرة الكبيرة التي احتضنت لقاءهما تحت ظلها الظليل وترنحت بحفيف أوراقها اليانعة لهمسهما الجميل.ستبقى شاهدا على حبها الموؤد في لحظة من لحظات الخيبة لأمل راودها في الواقع والخيال أياما وشهورا إلى أن استفاقت على وقع الصدمة.. على أن من كانت تظنه فارس أحلامها قد سافر دون علمها إلى عالم غير عالمها وقارة غير قارتها وموطنا غير موطنها وموطن الشجرة التي كانت تجمعهما ذات لقاء.

لقد أدركت بعد هذه الصدمة حجم الخيبة كما أدركت أن البكاء على الأطلال لايجدي نفعا وأن الحياة لابد وأن تستمر وأن الإستسلام ضعف وهوان.. لملمت أحزانها وضمدت جراحها بما أفرغته على نفسها من صبروجلد. ورغم ذلك كانت الذكرى تؤلمها كثيرا إلا انها كانت متشبثة بأمل قد يزهر أيامها وسنواتها القادمة.

لقد أرهقتها الأيام بصنيعها ولم تكن تضع في حسبانها أن فارس أحلامها غير الذي كانت تحلم به سوف يزهر حياتها بلقاء جميل سيدون على دفاتر العمر. لقد قررت أن تعيش حياتها من غير بأس وكدر وأن تؤمن بالقضاء والقدر. وكعادتها كأنت تذهب إلى عملها كل يوم الذي جعلته ملاذها الأوحد في الحياة.. وبينما هي جالسة في مقعد من مقاعد الحافلة أثناء توجهها إلى عملها تلتقي صدفة بفارس أحلامها الذي جلس إلى جانبها.. وبعد أن حياها وبادرها الحديث وتشعبا معا في حديثهما إلى تفاصيل كثيرة من حياتهما.. وتسرب لكل منهما شعوررهيب بلآخر.وأثناء نزولهما في إحدى المحطات وقبل أن يتوجه كل واحد إلى وجهته طلب منها أن يكون بينهما لقاءآخر فوافقت على ذلك وقدمت له رقم هاتفها حتى يتسنى له مكالمتها لتحديد موعد اللقاء. وبعد أيام قليلة وانتظارلسماع المكالمة.. يرن هاتفها فتكلمه ويكلمها وعلى وقع همسهما الجميل اتفقا على تحديد موعد اللقاء الذي اختاره هو بأن يكون تحت الشجرة الكبيرة التي جمعتها دون علمه مع من فارقها إلى الأبد. فتتعجب من صدفة تحديد هذا اللقاء وفي صبيحة الغد تخرج كما خرجت من قبل لتصل إلى تلك الشجرة فترتسم نصب أعينها ذكريات الماضي بكل صغيرة وكبيرة. وقبل وصول فارس أحلامها بدقائق معدودات. ترفع رأسها إلى أعلى وتخاطب الشجرة بلغة المتفائلة: اليوم لقاؤنا هاهنا وسأبايعه على المحبة والوفاء وسأسميك شجرة البيعة وبينما هي على هذه الحال يربث على كتفها.. يحيها.تبادله التحية بوجه بشوش وابتسامة عريضة ويسترسلان في الحديث ودفء الهمس الذي يقودهما في النهاية إلى تحديد موعدا متجددا للقاء آخر.

هكذا كان يجتمعان ويفترقان. وكم كانت دهشتها كبيرة عندما كان يقول لها:

سأبايعك على الحب والوفاء تحت هذه الشجرة التي شهدت لقاءنا.وما هي إلا أشهر قليلة بلقاءات مثمرة بالحب والوفاء اتفقا على أن يكون بينهما ميثاقا غليضا. فتقدم لخطبتها من أهلها. وبعد فترة الخطوبة. جاء يوم الزفاف والفرح المنتظر لتنقل إلى البيت الزوجية في موكب بهيج وطقوس فرح مبهرة. وأثناء مرور الموكب بالشجرة في وسط المدينة. يأمر العريس صاحب السيارة التي كانت تقيلهما وتتصدر الموكب بالوقوف.فيتوقف الجميع وينزلان يدا بيد متجهان نحو الشجرة على أنغام الفرح ليلتقطا من الفرح صورا تذكارية حينها تخبره أنها قد سمت الشجرة بشجرة البيعة. فيردّ قائلا : لقد صدقت ياحبيبتي فهنا كان لقاؤنا وهنا كانت بيعتنا على الحب والوفاء. وهكذا يعودان إلى سيارتهما ويواصلان السير في موكبهما الجميل نحو حياة زوجية صنعها حبّ رائع ونقي تحت شجرة سماها شجرة البيعة.

***

تواتيت نصرالدين

........................

ملاحظة: القصة مستوحاة من قصة (يوم من حياتي) للأستاذة والأديبة المحترمة سليمة أحمد

كانت ليلة دافئة واستقبال كبير بعد فراق طويل مع اهله، لفه الحب والشوق وشعور بالراحة والحب وسط قبلات جدته التي ضمته الى صدرها وراحت ترقيه بالآيات القرآنية، والادعية وسحب البخور التي طافت فوق رأسه وعفرت ثيابه الانيقة التي كان يرتديها والمؤطرة بإحدى الماركات العالمية، اما والدته فقد طوقته بذراعيها وامطرته بالقبلات الممزوجة بالدمع بالكاد أفلت يدها، وراح يقبلها وهو يقسم بشعرها الاشيب انه لن يتركها ابدا.

اختلف مظهره كثيرا عما كان عليه قبل ان يغادر بلده فقد أصبح ذا جسد ضخم وعضلات مفتولة تلفت نظر المارة، خصوصا الفتيات المراهقات من اقاربه اللواتي اقبلن بلهفة لرؤيته في منزله..

كان يشعر بشوق كبير لمدينته ورغبة للتجول بين شوارعها التي مازال يذكر كل تفاصيلها، وان يتفقد اصدقاء الطفولة وسياج مدرسته الذي ملء بصور الذكريات، الا ان أكثر ما كان يشده ويثير لهفته هو رؤيته للطائر الذي حدثه والده عنه. كان يود ان يرى ذلك العائد من كبد السماء والذي حط برحاله في المدينة قبل أن يصلها.

في اليوم التالي وبعد أن أخذ قسطا من الراحة من عناء السفر، قرر الخروج مع والده، حاملا كاميرته، قاصدا الاماكن التي شده لرؤيتها حديث والده. كانت الزحام يسود المكان الذي اكتظ بالمارة، واصوات الحمالين الفتية بمظهرهم وانحناءة ظهورهم المتعبة والمائلة الى الامام وهم يتقاطعون في سيرهم بخطوات متعرجة بين المارة والسيارات.

راح يتأمل الأبنية وهو يرى الصروح القديمة من بعيد. ثم صوب عدسة كاميرته حول المكان، الذي كان يحمل طابعا تراثيا جميلا. فكان أول ما وقعت عينه عليه، جامعا كبيرا زين سياجه بزخارف قديمة بالغة الروعة، ويعلو مأذنته هلال من النحاس قد اكتسب اللون الاخضر الفاتح، اما الجانب المقابل له فقد كانت هناك كنيسة قديمة كبيرة جدا، بنيت فوقها قبة نصف دائرية يعلوها صليب وبالقرب منه جرس كبير وضع داخل بناء مربع الشكل من الطابوق. اطال النظر ثم سأل والده والابتسامة تعلو وجهه: أليست هذه هي الكنيسة يا أبتي؟

- نعم هي بعينها.

- واين اللقلق؟ لم أره!!.

صمت الأب برهة.. ثم أجابه متلعثما: أنظر هناك، لذلك السوق الكبير الذي امامنا يسمى (سوق الغزل) لعلك تتذكره حينما كنت صغيرا اصطحبك معي. مازالت تعرض وتباع فيه كل انواع الطيور وحتى الجارحة منها والكلاب والغزلان والحيوانات الغريبة. بإمكانك أن تلتقط الصور التي تعجبك وتشتري لو أحببت الطائر الذي تريد.

صمت برهة ثم أعاد عليه السؤال.. أبي سألتك عن طائر القلق أين هو؟

أنا حتى لم أر عشا فوق الكنيسة كما حدثتني.

ظل الاب صامتا، مدهوشاً... لولا صوت رجل كبير كان ينصت لحديثهما، بدا وكأنه من قدامى سكنة هذه المناطق: اتسألان عن طائر اللقلق؟.

لقد طار بعيدا ولم يعد، بعد أن غادر القس الكنيسة التي كان يخدم بها الى خارج البلد ولم نعد نراه، ربما غير اتجاه هجرته أو استقر بمكان آخر، من يدري!!. الطيور عندنا تعيش وتتكاثر في اقفاص وليست حرة كما تظن. والنادرة منها والمهاجرة غالبا ما تحنط وتعرض هناك، بإمكانك ان تشتري واحدا من السوق الكبير الذي امامك فهو مخصص لبيع جميع انواع الطيور والحيوانات الأخرى، ثم نهض وسار مبتعدا بخطوات متثاقلة.

من يكثر من السؤال تتعمق هاويته. التفت الى ابيه، وخيم عليهما الصمت ثم غادرا المكان دون جدوى.

***

نضال البدري - بغداد / العراق

 

مذ فتحت عائشة عينيها على الحياة وهي لا تعرف غير وجه أمها، وحدها من تملأ سمعها وبصرها، وتجاويف صدرها، تخرج الأم كل صباح، بعد ان تملأ بطن الصغيرة بما توفر لها من أكل مما جلبته معها وهي عائدة مساء، ثم تتركها في غرفة صغيرة ليس فيها غيرحصير مغلف ببطانية صوفية باهتة، وبعض اللعب اللدائنية الرخيصة؛ لا تقلق الصغيرة الا من اقماطها حين تتبلل، وتمتليء بما تتغوطه طيلة يومها، فتشرع في البكاء الى أن ينكتم لها صوت بنومة على الحصير..

لم تكن أم عائشة غير شغالة في البيوت، يوم هنا ويوم هناك، تقفل باب الغرفة على الصغيرة بالمفتاح حيث تقضي عائشة يومها فوق الحصيرة، عليها تلعب، وعليها تنام، الى أن تعود الأم مساء، فتنظف حالها، ثم تقسم ما جلبت قسمين، بعضه تسد به عشاء عائشة، وبعضه يظل زادا ليوم غد..

صور بين الضبابية والوضوح في مخيلة عائشة عن ابيها، كورقات تتموّج في ذهنها، ما أن تتبدى حتى تغيب ثم تعاود الظهور كشمس الخريف قبل أن تستقر بأثر، ثم تترسخ في ذهنها عبر لحظات كانت تصحو فيها من نومها على صوته يشتم ويلعن، وقدمه تركل أمها الضعيفة وقد تكومت مستسلمة في احدى زوايا الغرفة تتقي بدراعيها رفس قدميه وضربات يديه، وشتائم من قاموس لسان بديء قذر، ذاك ما كان يحدث اذا عاد ليلا والسكر يطويه، او قبل ان يغادر البيت صباحا، لا يستطيع فتح عينيه قبل أن يدخن حشيشه.. فقدغبشت صورة الأب في عقل عائشة وظل عنفه إشارات دماغية قوية تصدر رنينها كلما رأت احدى صور العنف ولو على حيوان ..

كانت عائشة لا تعرف لماذا يسلط أبوها كل هذا القهرعلى أمها، فعمرها لم يكن ليسمح لها ان تعي الكثير، ثم لم يلبث ان غاب الأب عن البيت نهائيا بعد خصام شديد حضره بعض الجيران وأطلقت أمها زغرودة لم تغادر سمع عائشة أبدا...

قبل المدرسة لم تدخل عائشة روضا ولا كتابا، لكن في المدرسة تعرفت على أطفال الحي وكونت مع بعضهم دائرة اجتماعية ضيقة وحذرة، خففت عنها وحدتها، فشرعت كدودة تخرج من شرنقتها، تسمع، وتشارك، وتتبادل الحديث باختصار شديد، فهي لا تستطيع التحليق في أفق ابعد من قدراتها، وهي أصلا لا تفهم للتحليق معنى أو تملك له وسيلة، فالخوف والحذر ما يلازمها، الحرمان والاحساس بالنقص هو قشرة حزنها، خصوصا حين تسمع الأطفال يتحدثون عن آبائهم، وعن حب هؤلاء الآباء لهم، عن الهدايا التي يجلبونها لهم.. كان صدرها يضيق أسى كلما وجدت نفسها بينهم لاترتدي الا ما تأتي به أمها من بقايا ملابس أوسع أو اضيق من مقاسها حسب ما يجود به أهل الاحسان ممن تشتغل عندهم أمها ..

كان الألم يعصرها كلما خرجت من المدرسة ووجدت آباء وأمهات في انتظار أبنائهم، فتسير وحيدة دامعة العينين او متمتمة مع نفسها: أين غاب أبي؟اين أهل أمي؟ لماذا لايزورنا أحد؟

كانت الام تدرك لوعة عائشة وتحاول كلما وجدت فرصة أن تخرج بها الى حديقة عمومية، فتشتري لها مما توفره حلوى رخيصة، وأحيانا تزويقة شعبية، ان تتظاهر أمامها بالشجاعة والايجابية، فهي تدرك ان البنت في حاجة ماسة الى ذلك للتخفيف من وحدتها وغياب الأب من حياتها ..

لم تكن عائشة تلميذة متقدمة في دراستها فهي بالكاد تحصل على معدلات تمكنها من النجاح، حتى الام لم يكن باستطاعتها ان تساعدها، فهي نفسها لم تتجاوز الصف الثالث ابتدائي من تعليمها كررته مرتين بعد أن دخلت المدرسة وهي كبيرة السن، ثم أوقفها ابوها عن الدراسة بعد موت أمها، وحين أراد الزواج فضل ان يتخلص منها صغيرة بزواج حتى لا تضايقه في كوخ صغير ودخل هزيل..

كان زوج أم عائشة في عمر والدها، تزوج قبلها بثلاث نسوة لم ينجبن له، فكان لا يمكث مع زوجة سنتين او ثلاث حتى يطلقها، كان من النوع المزاجي المتقلب، فسَّخ الخمر دواخله، وخرب الحشيش عقله وقوته الذكورية ..

لم تنجب ام عائشة الا بعد ثلاث سنوات من زواجها بعد توليفة نباتية هدية من عمتها العجوز، طفقت أم عائشة تضيفها للطبيخ اليومي بالتقسيط، وما يمكن تمريره الى الزوج من خلال ما يشرب من شاي وقهوة وغيرهما، وقد كانت فرحة الزوج بعائشة كبيرة رغم أنه لم يكن بالزوج العطوف الحنون كما كانت تمني نفسها، وكما أوهمها أبوها حتى يتخلص منها، ولكنها تحملت تسلطه وخشونته غصات تتشربها حتى تعيش في ظله بعيدة عن قصر ذات يد ابيها، لكن سرعان ما تغيرالزوج وصار أكثر شراسة مُذ زارها ابوها ومعه أخو زوجته، فقد داخل الزوج الشك في ام عائشة وفي عائشة نفسها، وهل هي حقا من صلبه، فطلاقه لثلاث نسوة قبلها لم ينجبن، جعله يشك في رجل لم تعرفه ام عائشة من قبل سوى ان اباها صادفه وهو في الطريق لزيارتها فدخل معه البيت ..

رفضت ام عائشة أن تدخل مع الزوج أروقة المحاكم من أجل العدة والنفقة، فالقرف الذي غطى على نفسها جعلها تمقت رجلا لا يتقن غير الضرب والشتم، ثم انها صارت تخاف منه على البنت، فرجل ينكر بنوته ويغيبه السكر والحشيش لا تدري ماقد يوسوس به شيطانه على اقترافه ؛ وهي قادرة ان تعري على ذراعيها وتنفق على بنتها، وطلاقها منه كاف لان يمنحها حريتها وراحة نفسية لم تتذوقها مذ تزوجته، وقد تدخل الجيران وطردوا الزوج العربيد من البيت بعد شكايات متعددة استجابت لها السلطات ..سكنت أم عائشة البيت بدل طليقها حفاظا على بنتها مقابل أن تؤدي كراءه الشهري ..

كانت عائشة تنمو وقد طبعها الصمت، لا تتكلم الا لضرورة، بلغت المرحلة الثانوية من دراستها وهي لا تبالغ في علاقات صداقة مع تلاميذ الثانوية التي تدرس فيها، ورغم ذلك كانت لاتفارق وجهها بسمة اصبغ الحزن عليها مزيدا من الملاحة والقبول، لون قمحي زادته ملامحها الطفولية جاذبية هي ما كان يثير الشباب اليها، وخدان قلما يغيب عنهما لون الرمان الأحمر، عينان واسعتان بلون بني غامق، وشعر اسود يرتاح على كتفيها في رقة وانسياب، أضاف لأنوثتها وحزنها حشمة مما يوحي للرائي انها أنثى غامضة، رغم ملاحتها المبهرة و المثيرة ؛ كانت اقل لمسة عفوية من صديق قد تحسسها ببرودة تسري في ذاتها فيهتز جسدها ويضطرب، او بحرارة ترتسم حمرة ..على وجنتيها فتكسبها جمالا..

حين عادت هذا المساء من الثانوية فاجأها أن تجد أمها مع أستاذ الاجتماعيات بباب المنزل، كانت الأم قد عادت من عملها فوجدت الأستاذ في الانتظار!!..

ركب الخجل عائشة كعادتها وقد احمرت وجنتاها والأستاذ يمد يده للسلام عليها، بسرعة سحبت يدها من يده بعد أن حاول الضغط عليها .. تذكرت انه كان يتابعها بعيونه اثناء حصصه الدراسية، وانه تجاوز عن سؤال لم تجب عليه في مراقبة اول أمس ومنحها نقطة عالية ..

أبعدت عن عقلها فكرة خطرت ببالها:لا يمكن!! .. رجل تجاوز الأربعين يأتي لطلب يد تلميذة يتيمة، فقيرة في السابعة عشرة من عمرها، ولماذا هي بالذات ومعها من التلميذات من هن اغنى وأجمل، ولهن عائلة ونسب يسيل له اللعاب؟وكثيرا ما توددن اليه بإغراء كان يستحليه خصوصا اذا كان بعيدا عن رقابة الذكور من التلاميذ ..

انسحبت عائشة، وولجت الباب تاركة أمها مع الأستاذ ..

حين دخلت الام بادرت اليها عائشة تسألها عن سبب الزيارة

ضحكت الام وعانقت عائشة وهي تردد:

ـ الله يحبك ياحبيبتي!! فقد ساق اليك رجلا بوظيفة، غني، يعشقك، ويريد ان يتزوجك، هو أرمل، وأكبرمن سنك، لكن الرجل لا يعاب..!!

حركت الام رأسها دورتين وقد أغمضت عينيها كمجذوب في لحظة انتشاء وسط دائرة الجذبة ثم تابعت بنغمة خاصة:

"أقرع وبفلوسو ارى ذاك الرأس نبوسو"!!..

تنثرت عائشة من أمها ودعَّتها بقوة عدوانية فاجأت الأم التي كادت ان تسقط على قفاها، وقد ركب عائشة غضب حانق:

ـ ماذا؟يخطبني!! .. لنفسه أم لأحد ابنائه الكبار!! .. أدركت الآن لماذا منحني نقطة عالية لا استحقها، من يفعل هذا لايمكن ان يثاق، وهل ترضين لبنتك أن تقبل بشيخ على وشك الهرم، وان تتحمل وهي صغيرة تربية أطفال ربما في عمرها وأكبر؟هو لايريد زوجة، هو يريد خادمة صغيرة تقوم بأعباء بيته، تكمل تربية الصغار من أبنائه، و يستعيد بها شبابه، ثم يفرض عليها سطوته بالليل، وإذا لم تلاعبه كما يريد تحول الى جلاد ..هي سطوة لن يستطيعها مع من يلتففن حوله باغراء، آباؤهن يحتلون مراكز ادارية اواقتصادية كبيرة، فما معنى انا؟ أم "ظهر الحمار القصير"، ورقة مقطوعة من شجرة؟؟!! ..

انخرست الام، جحظت عيناها، هل من تتكلم هي عائشة التي تخجل من ظلها؟ عائشة الصامتة التي لا تحرك ساكنا في البيت، ويشكو اصدقاؤها عزلتها التي تفرضهاعلى نفسها؟ "ما اغرب ما اسمع وكان عائشة أمرأة خبرت الحياة والرجال"!!

بصعوبة قالت الام وكانها تقتلع الكلمات طعما من سنارة عالقة بلسانها:

مابك عائشة؟أهذه انت؟ام مارد يتكلم على لسانك؟

ترد عائشة بتحد فسرته الام وقاحة من بنتها:

ـ ذي انا يا أمي العزيزة، اذا اتعبك العمل فارتاحي وانا أخرج بدلك، لا اريد تعلما اصير فيه بضاعة للمقايضة، يساومني من هو مؤتمن على تربيتي وتنشئتي وتوجيهي، أبدا لن أتزوج رجلا أراد ان يستغل موقعه ويجدد شبابه على حسابي، كما استغل فقري وظروف امي ..

أدركت الام ان عائشة لم تكن البنت التي توهمت صمتها حشمة وحزنا، بل كانت خزانا صامتا مشحونا بالبارود، وها هو قد وجد ثقبا صغيرا منه قد انفلت كعفريت من قمقم .. سألتها ما بك؟ اقنعيني وسيكون ردي عليه غدا بالرفض..

ضحكت عائشة في حنق وقد كادت أن ترتمي على سرير نومها ثم تراجعت، حولت وجهها الى أمها وقالت:

هنيئا لي بك!!..هل هذه سلبية منك ام تخلصا مني؟، تماه منك أم طمع!!.. معناه انك وافقت واعطيت وعدا برد..

ضربت يدا بأخرى ثم تابعت:

معناه مسحتني من الحياة، صحيح محجورة تتكلمين بلسانها، هل تريدين ان اقنعك؟

اسالي جسدك عن اثر الركل واللكمات، اسالي ذاكرتك وما اختزنت من كلمات العهارة حتى صرت انا نفسي بعد ان وعيت اكاد اثق ان ليس لي أب حقيقي، أسمعيني زغرودتك التي انطلقت منك بعد خروج أبي بلا عودة، هل تريدين ان تعيدي حياتك في بنتك؟ هل تعرفين لماذا لا احصل على الرتب الأولى كما يصلها غيري؟ هو أني اتحول كل ليلة قطعة من ليل طويل، أنا والليل تغسلنا دموع اليتامى ومن قهرهم الزمان، واستأسد عليهم الرجال بلا حظ، حتى نصبح وطريقنا سالكة لغيرنا بلا اسى على جدران المباني ..

بدات ام عائشة تستعيد احداثا توهمت انها صارت في لفائف النسيان،، لكن هاهي تستعيدها ألما على كل عضو من ذاتها، قلبها يصعد حتى حلقها، تضع اصبعي يديها في مسامعها عساها تمنع تلك الكلمات النابية القذرة التي كان يتجنى عليها بها أبو عائشة، ظلما وكذبا، لكن ما فاجأها هو عقل الصغيرة كقناص ماهر بوعي لما كان يتردد ويقال، فكيف استطاعت أن تختزن كل ذلك العنف في ذاكرتها الصغيرة؟..صمت عائشة إذن لم يكن الا أحداثا تلعب على مسرح دواخلها، تستعيدها بعيدة عن كل رقابة خارجية، آلة صامتة تعيد طحن ماضي أسرة غاب فيها رجل بعد ان بصم حياتها بكل قسوة وجبروت واهمال ..

بادرت الى عائشة ضمتها الى صدرها وقد تركت دموعها تعبر عن اسفها والخطأ الذي ارتكبته في حق بنت ما عادت طفلة صغيرة بل هي اوعى وانضج مما كانت تتوهم، شتان بين من عضته الحياة، دخل المدارس، تعلم وقرأ الكتب فسبح وغاص واستوعب، ومن لسعته الحياة بأنيابها بلا علم فنهشت حقيقته وحياته ثم رمته على الهامش يعيش على الفتات

بعد يومين طرقت عائشة باب الإدارة بعد أن عدلت من هندامها وهي تهتز، فهي تخشى هيبة المدير رغم البشاشة التي تتربع على وجهه حين يكون واقفا بالساحة او متحدثا مع بعض الأساتذة، ثم دخلت بعد أن أتاها من الداخل اذن يسمح لها بالدخول .

كان المدير يراجع أوراقا بين يديه، رفع بصره اليها بعد أن خلع نظارتيه ثم قال نعم، ماذا تريد زائرتنا اللطيفة؟

أحست أن قلبها سيخترق صدرها، وان خداها صارا كتلة نارية من خجل، تنفست بعمق وهي تفكر .. كيف ابدأ؟

لا حظ المدير اضطرابها، ووجهها تتناوب عليه الصفرة والحمرة، وقف من مكانه وخرج اليها يدعوها للجلوس على كرسي وراء مكتبه ..قال:

مابك لا تخجلي، أنا كأبيك، تكلمي، هل انت في حاجة الى شيء؟

كلماته قذفت في نفسها نوعا من الهدوء والسكينة، فتحت فمها وقالت:

ـ سيدي!! .. عندي مشكلة، اريد مساعدتكم على حلها، على شرط أن تظل هنا، لايعلمها الا الله ..

تعبير سليم من تلميذة مؤدبة، رجع الى اريكته ثم قال:

خير ان شاء الله، أسمعك قولي:

قالت وهي تضطرب:

الأمر الأول سأحكي لكم عما وقع، والثاني أتمنى ان تستدعوا صاحب الامر ونعالج المشكلة هنا جميعا بهدوء وصفاء نفس، بلاحقد ولا شوشرة، أكره أن يتفزفز الشخص المقصود بين ألسنة الأساتذة والطلبة ..

وجد المدير نفسه امام بنت عاقلة تتكلم برزانة وثبات رغم الخجل الذي يلفها، لكن امام طلبها لم يكن يتصور ان المشكلة تتعلق بأستاذ بل قد يكون طالبا أو حارسا حاول المزاح معها بما لا تريد، فقال:تفضلي..

لملمت عائشة كل شجاعتها، بلعت ريقها ثم قالت:

ـ احد الأساتذة أتى الى بيتنا لخطبتي، وقد استغربت ان يكون الحريص على مستقبلي هو من يطلب يدي رغم كبر سنه

وأولاده الذين قد يكونون في مثل عمري أو أكبر، ربما استغل فقري، ربما توهم اني لن اعارض وانا أسهل من غيري، فأوافق على ان اصير خادمة وزوجة ومربية لأبنائه، انا حقا لست بالطالبة الذكية التي قد تأتي منها المعجزات، ولكني اثابر واعمل حسب قدراتي وما يسمح به فقري وظروفي المنزلية، انا سيدي أكره أن أصير كما صارت امي وقد زوجها جدي لرجل أكبر منها فعانت قبل ان يطلقها وظلت تدعو على جدي حتى مات ..

انخرس المدير لما كان يسمع، شرع يقارن بين وعي ووعي، وعي أراد ان يمارس سطوة خيالية، مشوشة وغير واقعية، ووعي تألق داخليا عقلا ونفسا، استجمع جرأة بواقعية وصراحة ودخل الكلام من وضوحه، وجد المدير نفسه بين أستاذ غافل، حالم، يحاول فرض واقعه على غيره بالتباس او غرور، وبين طالبة بارعة تصرفت بأبدع ما يقتضيه موقف وهي قادرة أن تتسلل الى قلوب الناس والأحداث برشاقة ..

"هؤلاء من يحتلون المناصب والمواقع وكأنهم ما خلقوا الا لذلك " .. ردد المدير بخبرته مع نفسه ثم تنبه وقد غيبته أفكاره عن الجالسة أمامه وقال:

ـ اعتذر ابنتي من هو هذا العاشق العبقري الخاطب؟

ــ السيد حمدون، أستاذ الاجتماعيات!!...........

لم يتفاجأ المدير لما سمع الاسم، فمن طبع الاستهتار على نفسه لن تغيره قوة ولا تجربة لان "النفس حين تفقد جمالها الابدي لاتحافظ الا على انانيتها العرضية " ..

مرة أخرى يقوم من مكانه ويقول للتلميذة التي اعجب بها ايما اعجاب:

ـ هل تسمحين باقتراح ولك حق الرفض أوالقبول؟..

تبسمت في وجهه وقالت: نعم سيدي اسمعك .

ـ مارأيك تتركين لي الامر وساحل المشكلة بلاحضورك ولا يعلم استاذنا بمجيئك أصلا الي ..؟؟

فكرت قليلا وقالت: حسنا لكم ماتريدون، انا فقط لا اريد ان تتشوه له سمعة بين الأساتذة والطلبة ..

قال المدير وهو اشد اعجابا بها:

وانا من رايك، فشكرا بنيتي ومكتبي مفتوح في وجه تلميذة ذكية مثلك ..

خرجت عائشة وكانها ازاحت عنها جبلا ثقيلا، تشعر بخفة جسمها وبشائر السلوى و النور من حولها ..

***

محمد الدرقاوي

 

عُودي لماضينا العتيقِ وجُودي

بالفُلِّ.. والريحانِ.. والمَوْعـــُود ِ

*

ماكان ذِكْرُك ِفي الحياة ِبِوَارد ٍ

لو لم تكوني في نطاق ِحُدودي

*

فأنا الذي أسماك ِحُبّاً خالداً

وأقامَ عَرْشُك ِفاستوى بوجُودي

*

وأحاطَهُ مِن كل نافِثَة ٍغَوَتْ

أو لامَّة ٍ.. بنَبَاهَة ٍ .. وجُنُود ِ

*

فإنْ اهْتَدَيْت ِ فعانِقِيها دَيَانتي

وإنْ أبَيْت ِ عليك ِ إثْمَ يَهُود ِ !

*

هذا صِراطي واضِحاً لا غَرْوَ فيه ِ

لاعاشَ مَنْ خانَ الهوى وعُهُود ِ

*

فَلْتَحْفَظِيها كي تظلِّي حَظِيتي

ولِعَهْد ِماضينا العتيق ِ فعودي

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

 

 

تفتحين عناوين البحر من نافذة تبلسم ارتواء اليقين وهمسات الغروب

ترنو إلى عمقها عيني تحلق وبنفسجات السفح وشهقات خرير السماء في نغمات الظلوم

تقتادني بسماتها في افقها الممتد لأرتوي من صدرها عذوبة اللحن البنفسجي

تتداخل لحظات الأصيل في ذاكرة الرعشة وارتشاف وخزات العليق البري

جديلتها سلم تصعد فيه الروح ترتسمها صفحات الشتات والجمال يعانق الخيال

بيمناها تتسع دائرة الأفق الممتد بين الحنايا نجما وحيدا يدندن لحن ما تبقى من غرام

روحها الزرقاء مشرعة في دهاليز نجمة الليل ونافذة الوداعة في ضفيرة العناب

تتغامز عيون النحل تجلب العسل من رضابها تصفر الغمازات تحتشد حالات الرذاذ

يعبرني الوجل في انهمار فتاة تساقط البرد فتتكون من بقايا حلمي غصات العناق

بحرها اللجي يظلل احلامنا في المنافي لينساب الوجد في هذيان الياسمين

هي المنافي تضيق وتمطرنا عيون الحواف تعبرنا لسعات الليمون في غزل النشميات

هذه نوارس الشاطيء الممتد من وجد النساء الممهورات حتى تلظي قطيع الظباء

مرج الأحداق يلملم وجدها الزاهي في حدقات الليل وهدوء ضجيج المسافرين في الغياب

قصيدتي لعبة يشكلها طفلي في رعشة البرعم الغض ودلال همس الفراشات هيام

تقيم الروح في سهواتها وقميص الحداثة في شرنقات الخطاب ولذعة زهرة الجلنار في خطاي

تهمس شرفات نصها المرمري يلازمني الحنين في وشوشات قبرة وقبلات الرذاذ

يا زمن الغياب في الرحيل تنثر صورتين في شعراء الصيف ورعشات الخريف في الذكريات

تتساقط البسمات من رعشات ورق الدمع على عتبة سيدة تتصابى في ممرات رقصات الوفاق

زهوها المضبب يشعل لوعة المصابيح في مفازات حلم الينابيع وحلم لوركا في الكتاب

تتوشح من صرخات الوجوم محبرة في حدود خارطة نزيز المطر في خاصرة السؤال

تبقى لسعات الحنين تدور في خلدي ثغرها يتفتح منه الزهر ويذوب في شفتي هدب الغلال

من بسمتها تورق حواف القمر ويورق صمت المدينة حين ابتلاع أضواء الغناء

هي الغيوم البعيدة تأتي محمرة الوجنات تلامس أهداب العين لينهمر العشق والتحنان.

***

نادي ساري الديك - رام الله

إليها وهي تحاورني في اختناق الممرات ونوارس ترشد السابلة على عتبات الابواب .

 

في نصوص اليوم