نصوص أدبية

نصوص أدبية

على أرضنا البكرِ

تمرُّ الحكاياتُ، ويمرُّ السلاطينُ

ينثلمُ السيفُ بالسيفِ

يخدشُ الدرعُ الدرعُ

يبكي الدمَ دماً

حينَ سالتْ دماءٌ أُخرُ

لا ادري إلى اينَ تمتدُ هنا جذورُ الموتِ

معَ مَنْ يأتي أصطفافنا؟

لنا أمهاتٌ يجمعنَ الضيمَ فوقَ الضيمِ

والاضاحيَ بشراً

الطيورُ تأنُ وأنا وانتَ ياصديقيَ

إلى متى يأخذنا الجنُ بعدَ الجنِ

وجوهٌ تطاردُ الغبارَ

تشتري لهُ عناوينَ الخدرِ

وجوهٌ لا تعرفُ الإبصارَ لعلو السماءِ

الحناجرُ تصارعُ ذاتها

الضياعُ لا يحفزُ الكسالى

هي الارضُ التي خلقتْ بوراً

تتعسفُ ،تضطهدُ نموَ الأغصانِ

أيُّ أشباحٍ سماويةٍ تتنمرُ

تسرقُ تجلياتٍ لخطوطِ املٍ مرتجى

هنا غريبةٌ الرقابُ وهي تطأطئُ نفسها

وهنا لا نتسلى بالأعالي الشاهقةِ

نجدُ أنَّ الإبصارَ للسماءِ إلحادٌ

جميلٌ أنْ نبحثَ في عديدِ النجومِ

عن كهوفٍ لرجالٍ يبحثونَ عن الحريةِ

الاصالةُ هنا تتدحرجُ بينَ أقدامِ

النكراتِ

يالبؤسكَ صديقيَّ الشاعرَ

وأنا اراكَ تحني رأسكَ

ويالبؤسُ مَنْ يصفقُ

إني أرى اليدَ خُلقتْ لترسمَ حمامةً

ونخلةً وصورةً لشاعرٍ ثائرٍ

قضبانٌ وحبلٌ يسرقُ أوردةَ الحياةِ

ياأطفالَ هذهِ الارضِ أتحدوا

غداً ملائكةُ الربِ تأتي

تهبكم أجنحةَ الخلاصِ

تتوجكم فناراتِ عطفٍ

تضيئُ معموراتِ اللهِ

ياحسرتي على نسوةِ حينا

وجوهٌ تتلبدُ بالملحِ والعذابِ

تستظلُ برمادِ الدروبِ

ببقايا دخانٍ أعتدةِ الحروبِ

ياحسرتي لدواوينَ الحبِ

لا ترتلها نسوتكَ ياعراقُ

ولا أزهارُ الحدائقِ اكاليلَ

لصدورهنَ المتشحةِ بمواويلِ العذابِ

***

عبدالامير العبادي

جِنينٌ…ويحَنا جَمرٌ على جُرح

مَدى الأعوامِ تَشريدٌ ونكباتُ

*

فَـصائـلٌ وأحْزابٌ تَـنـاحَرت

إلى متى تُذكّيها  الخِلافَــــات

*

تعِبنا من شِقاقات اﻷشقّـاء

فمَا جَدوى أحاسيسٌ وآهـاتُ

*

تَوابيتٌ…توابيتٌ…أمَا يكفِي

وأشلاءٌ…بِـهِمْ سَارتْ جَنازاتُ

*

هُمُ الفَلْذاتُ نُهديهم قَرابينَ

هُمُ الأحياءُ…أمّا نحنُ أمواتُ

*

نَعمْ مَوْتَى ونحنُ مُجْرمُو حَرْبٍ

وإلاّ أين أجْياشٌ …ورَاياتُ

*

وأينَ العدلُ فِي عَصر القُوَى العُظمى

وباقِي النّاس هُمْ فيهِ هباءاتُ

*

وأين الحقُّ ؟حقُّ الحُرّ وقّادٌ

وأينَ الفِعلُ…لا…إلاّ شِعاراتُ

*

وأين المالُ ؟مالُ النّفطِ أنهارٌ

وراءَ البحرِ مَجراهَا حِساباتُ

*

معَ الدّولار…بالمِلْيارِ…قدْ سِيقَتْ

ومِنْ قَصْرٍ إلى قَصر…وقَيْناتُ

*

ونحنُ الكدحُ طولَ العُمر فِي صَبرٍ

لأجلٍ العِزِّ تَحدُونا طُمُوحاتُ

*

طُمُوحاتٌ مُناهَا الخيرُ والحُبُّ

كذَا نحيَا … ومَا فِينَا عَداواتُ

*

فَلا شَرقٌ ولا غربٌ…هيَ الأرضُ

لكلّ النّاسِ عند السّلم جنّات

*

كفَى ما قَدْ رأينَا فِي فِلسطينَ

كَمِ التّاريخُ يُشْجِينَا ونَجْماتُ

*

معَ الأحبابِ….فِي جِينينَ لُقْيانَا

...! بِرغْمِ اللّيلِ تأتينَا الصَّباحات

***

سُوف عبيد - تونس

 

فجأة.. وبسرعة غير محسوبة جيدًا، انقلبت الاشياء في المؤسسة شارعةً بالتغيّر والتبدّل، نام الجميع في الليل ليفيقوا في الصباح وقد تغيّر كل شيء. وبدلًا من رائحة القهوة العربية الاصيلة ابتدأنا نشم في الأصباح التائهة رائحة "النس كافيه". أكثر من هذا توصّل أفراد الادارة السابقة، ذكاءً أو تذاكيًا الى أنهم يفترض أن ينسحبوا تقليصًا لخسائر كورونية قادمة توقعوها شامّين رائحتها البائخة عن بُعد. نتيجة لهذا كله بات الوضع في المؤسسة أشبه ما يكون بِفَلّة حكم أو بسفينة غارقة، وبعد أن حمل رجالات الادارة السابقة ما خفّ وغلا ثمنه هاربين به ومولّين الادبار حالمين بليالٍ دافئة في أحضان زوجاتهم، برز نوع آخر من رجال الادارة غير المؤهلين ومن غير رجال المعرفة والخبرة، وراحوا بخبراتهم المحدودة يحاولون إعادة ترميم ما أفسدته مياه الكورونا في سفينة المؤسسة العظيمة، وكنت أنا الكاتب المتطوّع في المؤسسة أتابع الامر من بعيد وأفكر في كيفية الاستمرار رابطًا بين فترة ما قبل الكورونا وما بعدها.. وعلى لساني ألف سؤال وعلامة تعجّب، لهذا كان لا بد لي من أمرين أحدهما المكوث في المؤسسة أكثر ما يمكن من وقت والتفكير في تقييم أودي. وبما أن العين بصيرة واليد قصيرة فقد توصّلت إلى أنني ينبغي أن أخصّص ميزانية محدودة لشراء المناقيش من المخبز الواقع في الطريق إلى المؤسسة ووضعه في ثلاجتها الكبيرة.

بعد أن هدأت العاصفة وابتدأتُ بالتفّرس في الوجوه الجديدة، اكتشفت أنني أعرف معظم هؤلاء فبعضهم نبق كما ينبق الفطر بعد شتاء شديد والبعض الآخر كنت أعرفه وابتدأت بالتعرّف عليه كل يوم مجددًا كما فعلت هيلاري كلنتون مع زوجها في فضيحة مونيكا داخل البيت الابيض، المهم أنني بينما كنت أضع المناقيش في ثلّاجة المؤسسة.. شعرت بأقدام تقترب مني. والتفت إلى مصدر الأقدام لأراها تتخطاني وتعبر إلى الداخل. تركت مدخراتي من المناقيش وتبعت الاقدام، لاقف قُبالة صاحبها سعد. كان هذا واحدًا من الاصدقاء القُدم، الذين عرفتهم عن بُعد وربطتني بهم علاقات صداقة متقطّعة.. تحكمها المودة حينًا والمصادفة أحيانًا. وضع سعد يده على كتفي وهو يقول:

-ها نحن نجتمع مجدّدًا.. سنكون معًا.

هززت راسي علامة الموافقة، فتابع يقول:

-مؤكد أن أحدنا سيكون سندًا للآخر.. الوضع ليس سهلًا ويحتاج إلى هِمّةٍ ونشاط..

وافقته مرة أخرى بهزةِ راسٍ أقوى من سابقتها، فدبّ فيه حماس متجدّد، قال:

-هناك الكثير من الامور تحتاج إلى نفض.. وقلب سافلها عاليها.

بينما نحن نواصل الحديث بكلمة منه وهزّة راسٍ منّي، شعرت بأقدام تقترب من حيث توقّفنا، ولم تمرّ سوى هُنيهة سريعة حتى تبيّن لنا أن القادم هو الزميل سعدون. تركني سعد وتوجّه إليه كأنما هو عثر على مَن يَستمع إليه بعيدًا عن هزّات الراس المتواصلة، وفوجئت بالاثنين ينفجران بالضحك.. سألت نفسي عن سبب الضحك.. ضحكهما.. فلم أعثر على جواب.. ابتسمت مجاملة لهما، فما كان منهما ألا أن توجّها إلىّ قائلين بصوت كاد يكون واحدًا:

-مؤكد أنك ستكون عونًا لنا في تنظيم الامور وإعادتها إلى مسارها الصحيح.. المؤسسة تحتاج إلى دماء جديدة تضاف إلى القديمة.

وغمز الاثنان نحوي طالبيَن منّي الموافقة على اعتبار أنني واحد من بقايا الادارة السابقة وفلولها الحائرة، أرسلت هزّة أخرى إضافية من راسي، اعتبراها موافقة مني على الانخراط في إعادة البناء والتّرميم. وغمز كلٌ منهما للآخر ضمن إشارة أننا يجب أن نبدأ.

في الايام التالية فوجئت بالاثنين، سعد وسعدون، يدخلان المؤسسة مرتديين ملابس عمل خاصة ويدفعان بوابتها الحديدية الخارجية بأقدام مَن ينوى أن يقوم بثورة تغيّر وجه الكرة الارضية وليس وجه مؤسسة بسيطة في بلدة صغيرة يطلق على أمثالهما صفة مدينة تزلفًا ومجازًا. فتح الاثنان حقيبة كبيرة أحضراها خصيصًا لتنفيذ أعمال وترميمات في المؤسسة، وسحب كل منهما فرشاة طلاء وباليد الاخرى مجحاف دهان محترف. هجما على جدران مدخل المؤسسة وراح كل منهما يحف بمجحافه ويطلي بفرشاته ضاربًا فرشاة في الشرق وأخرى في الغرب. بعد أن لوّن الاثنان جدران المدخل بألوان مختلفة.. فبدت مثل جوكر يريد أن يحقّق النصر الحاسم النهائي في لعبته، جلسا يتحدّثان مبتسمين، وبإمكاني أن ألخّص حديثهما بكلمات قلائل: هذه المؤسسة تحتاج إلى نفض تاريخي.. بعد الكورونا سنجعلها توجّ وجًّا.. وسوف نُمكّنها مِن أن تتخذ مكانتها اللائقة بها في المدينة.. بعدها انهال الاثنان باللوم على الادارة القديمة، واتفقا على أن نجاح عملهما مرهون بالإجهاز على كل أثر لرجالات الادارة السابقة. ودفنه في حفرة عميقة بحيث لا يظهر لهم أثر" . على مَن يريد أن يقوم بثورة حقيقية في هذا الجوّ العربي الموبوء.. أن يهدم القديم وأن يبني الجديد الحقيقي مكانه"، قال الإثنان وصهلا مثل حصانين جامحين. في إحدى اللحظات الحاسمة رأيتهما هما الاثنين، وقد وقفا وراحا يهزّان ارض المؤسسة بدبكة فلسطينية ويُطلقان الاغاني والزغاريد الشعبية الرافعة من شأن العمل باليد.. تمهيدًا للعمل بالعقل.

للحقيقة أقول إنني لم أشاركهما عملهما هذا ولا صهيلهما ذاك، وحتى حينما توجّهت إليهما عارضًا عليهما المساعدة تقية.. تحسبًا وخجلًا، انبريا يقولان لي: نحن ما زلنا شبابًا بإمكاننا أن نقوم بالعمل على أفضل وجه.. أما أنت يا ختيار بإمكانك أن تواصل جلوسك في مكتبك.. لا أنكر أن شهامتهما المفاجئة هذه راقت لي قليلًا وشجّعتني على سؤالهما ما إذا كانت أعمال الترميم ستطول، فردّا عليّ قائليَن.. سنعمل على مهلنا.. في كل الاحوال لن نفتح أبواب المؤسسة في القريب.. يبدو أن حِبال الكورونا ستطول.

بعد أيام فوجئت بالاثنين يدفعان بوابة المؤسسة الحديدية بأقدامهما ويدخلانها متضاحكيَن.. وراحا يتجوّلان في غرفها وردهتها ناظريَن إلى الجدران الملوّنة بألوان الجوكر الشرس.. ما حدث بعدها أنني رأيتهما من زجاج غرفتي يهجمان على ثلّاجة المؤسسة.. يفتحان بابها الكبير ويأخذان بقذف مناقيشي مُتناوليَن إياها وقاذفين إياها عبر النافذة القريبة." الآن اكتمل عملُنا.. المؤسسة جاهزة لاستقبال روادها"، صفق الاثنان وراحا يرقصان.. عندها نظرت إليهما.. وراح فمي بالانفتاح حتى صار بوسع باب المؤسسة.

***

قصة: ناجي ظاهر

كثيرا ما كان يصادفها في طريقه،صباحا وهو يقصد متجره، أو مساء عند الرواح،عيونها الكحيلة الناعسة من وراء نقاب شفاف هي ما كان يثيره بسحر جذاب. انثى فارعة الطول، جلابيبها المغربية مزدانة بأصداف أمامية والتي كانت تغيرها كل يوم تقريبا، بذوق وحس فني تدل على أنها ميسورة الحال.. عنها حكى بعض من فضولي الحي:"مطلقة، أتت من مدينة شمالية لتدير مؤسسة تعليمية خاصة".

حاول كثيرون التقرب منها طمعا في مالها و سعيا اليها بهوى مفتونين بقدها وأناقتها، لكنها كانت صارمة في صد كل من يحاول التحرش بها، أو محاولة التقرب منها ولو بتعارف وصداقة، ايمانا منها أن لكل رجل قبضة هدفها السيطرة أولا وأخيرا، لهذا فهي تفرض على نفسها عزلة تامة، لاتكلم أحدا غير تلميذات مؤسستها ان صادفتهن في الطريق..

حين دخل مكتب متجره هذا الصباح، أخبرته كاتبته أن أنثى محجبة صاحبة مؤسسة حرة قد توسلتها أن تحجز لها موعدا معه،وحبذت لو يكون الموعد بعد السادسة مساء..

استغرب أن تسال عنه متحجبة، فهو عادة لا يربط علاقات مع هذا النوع من النساء، ولا سبق له التعامل مع زبونة يقمطها السواد، فهذا عنده مبالغة، وكل مبالغة نقصان، وقد ازدادت حيرته حين وصفت كاتبته المرأة، فعرف أنها المطلقة التي يصادفها في طريقه، وتحرم على نفسها أن تتعرف على رجل أو يتعرف عليها رجل..فما الذي حملها على طلب موعد معه ؟ !!..

بعد السادسة بخمس دقائق اقبلت، دخلت المكتب يتقدمها عطرأنثوي هادئ؛ انزلت لثامها ودفعت قب جلبابها الى الخلف،ثم مدت يدها بسلام بعد أن خلعت قفازها الأسود عن يدها اليمنى، أشار لها بالجلوس على كنبة من وراء مكتبه "غريب محجبة تمد يدها لرجل بسلام وتعري شعرها ".. قبل ان تستقر على الكنبة فتحت جلبابها من قُدام،فظهر صدرها الناهد وقدها الممشوق كاشفا عن ساقين طويلين مرمرين مفتولين، تتحرش بهما فوق الركبتين تنورة داخلية بنفسجية بزهور، اعادت نقابها ثم رفعته فوق شعر أسود فاحم تنسدل خصلاته على جانبي جيدها،.".جمال مبهر يتخفى !!..تحجبه جلابية وعنه يتكتم نقاب، كيف تحرم أنثى مثلها أن يتقرب منها رجل ؟.." بخبرة أنثوية ادركت دهشته من سلوكها، وخمنت ما يمور في راسه من استفهام !!.. لا شك ان أكثر من سؤال يغلي في مخه، فكيف تتصرف محجبة صارمة في تعاملاتها بهذه التلقائية ومن أول لقاء برجل لم يسبق لها التعرف عليه ؟ بادرته بعيون ضاحكة:

ـ لو رزقني الله ذرية لكنت أنت في عمر اصغر ابنائي، فانا جاوزت الخمسين.

دهشة أخرى تراكم ماقبلها في مبالغة لاتخفى عليه..أنثى تعلن عن عمرها، تخرسه بتبرير واه بلا حجة ولا سؤال، فهو لم يبحث عن عمرها أو يفكر في سبب يجعلها تكشف عن كل ما يفتن عيون رجل في أنثى، فالظاهر منها طاغ يثير، والمخزون قد يكون أشد فتكا !! هل حقا تصدق فيما تقول ؟ فالتي أمامه لن تتجاوز الأربعين على ابعد تقدير، حتما تريد أن تصرفه عن عمرها الحقيقي، ربما خوفا من أن يغريه جمالها فيتحرش بها، أو يركبه جنون الشباب فيرتمي عليها، خصوصا وهي تراه أمامها شابا طويل القامة،أنيقا، بهندام متناسق، ووجه مليح قد يستهوي أية أنثى.. وحتى لو كانت في الخمسين كما تدعي فجمالها الأخاذ يستطيع أن يحرك أي رجل برغبة..

استدار الى خزانة حديدية خلفه، وأخرج علبة شوكولاطة، قدمها اليها وهو يسال: هل اطلب لك قهوة أم شايا،أم تفضلين كوكطيلا ؟

انهرقت عيونها قلب عيونه "مصيدة شرسة وخطيرة " اشاح بوجهه عنها وهي تقول: لا شيء، دعه لفرصة أخرى، وأتمنى أن تكون قريبة.. أنا قصدتك من اجل هذه،وأشارت الى علبة الشوكولاطة..

بلع ريقه وقال: تفضلي ما المطلوب ؟

تنهدت وقد اطمأنت ان الذي أمامها لايحاول أن يتجاوز حدوده مما قد يتهور فيه غيره من بعض من تعاملوا معها في مدرستها أو خارجها، حتى كلماته تأتي على قدر السؤال بلا مبالغة أو تهور في حركة..

تراجعت مسندة ظهرها على الاريكة ؛ "هل تتعمد ان يبرز صدرها الناهد الشامخ؟ أم أنها تريد افشال مقاومتي ؟" قالت:

من سنة تقريبا، غادرت مدينتي التي شهدت طفولتي وشبابي بعد طلاقي من رجل أراد ان يتزوج بأخرى عساها تهبه مايتوهم اني عاجزة عنه، في حين أنه هو من كان عاجزا ان يهب لنفسه ما يريد، فقد كان عنينا يفشل قبل أن يبدأ..

أثارته العبارة، وقد شدت أنتباهه، جرأة حضور بتعبير يكسر كل جدار كان يلزم أن يكون بينهما في أول لقاء بلاسابق معرفة، انطلاق في عفوية وطلاقة لسان، تدمر كل حجاب،و تلغي كل صلابة مما يقال عنها، تلقائية حديث بلا تصنع أو اجهاد نفسها في كلام، تناقض ادعاءها كونها قد تجاوزت الخمسين، فكيف تكون قد بلغتها وهي على يقين انها قادرة أن تمنح زوجها مالا يستطيع أن يمنحه لنفسه لعجز فيه.. ظل ينظر اليها بامعان موح بثقة تشجعها على أن تتابع حديثها بحماس وسعادة هما ما تعكسهما عيناها الضاحكتان.. تابعت:

ـ وحيث اني تربيت في ملجأ فلا أهل لي، رحلت الى هنا حتى ابتعد عن القال والقيل وتحرشات الرجال في مدينتي السياحية التي غيرت الدعارة وجه سكانها المحافظ، فامرأة جميلة ومطلقة مثلي تصير فريسة الأغراض والشهوات من قبل الرجال.. هنا في هذه المدينة سبق أن أقمت أربع سنوات مع زوجي،وهو من بنى المدرسة التي تنازل لي عنها كصك الرضا بعد أن توهم ان الطلاق حل لما يعانيه..كما أنها ثمن صمتي وقبولي الطلاق بلا توابع.. رضيت بعطيته، ولماذا أرفض وقد مللت رجلا جليديا لايهش ولا ينش.. فعطيته قد تكفيني زيغ الرجال، أو التطلع لاغرءاتهم وتحرشاتهم...

كان أمامها كمنخل يفسخ ويفتت ثم يغربل كل عبارة تتفوه بها، وقد اثارته كلمة تحرش ترددها كلما تحدثت عن الرجال ؛ ربما عانت من ذلك، ربما تبالغ،ربما هو مرض الأنثى حين تريد أن تبررمواقف ترسخت في عقلها بلا استئذان!!..

لكن وهي تتعرى من جلبابها،تغريه بساقيها المفتولين، وترفع نقابها عن وجهها الفاتن، وتسمح لصدرها أن يبرز أمامه، أليس هذا هو نفسه اغراء عن قصد منها،وتحرش به عن إصرار ؟ ربما خططت له قبل مجيئها اليه !!.. فهو فعلا شاب وسيم يغري بأناقته وعفويته ولعلها أدركت بخبرتها تمتعه بكاريزما ساحرة تشده اليها ما حسسها بالأمان والطمأنينة. كيفما كان احساسها نحوه فعليه أن يقاومها ويحذرها حتى لا يصير ضمن الرتل الذي تحكي عنه..

هل ياترى تمارس نفس السلوكات مع كل رجل تستفرد به، فيثيرها بشباب وأناقة حضور ؟ أم هو تخطيط مسبق ؟ام أن ما يقع هو من مطحونات الرحى العقلية التي لا تتحكم فيها بعض النساء ؟

تصمت قليلا ثم تتابع وكأنها تحدث أليفا تعودت أن تجالسه وتبثه كل مشاعرها وأسرارها، فقد صارت تتكلم بكل حاسة فيها، تنيم عيونها تارة او تغمز أخرى، تزم على شفتيها او تمدد السفلى منهما، جذلى كمراهقة لاتسعها فرحة، الطريقة التي تمرر بها لسانها على شفاهها لا تعكس غير محاولة لتفتيت صلابته ومقاومة لم تستطع دحرها باثارة جنسية تكاد تكون مفضوحة..

ـ بعد غد سنشرع في عطلة الربيع، وسيبدأ كل اليف يحن لأليفه، فالدفء يثير كل كائن حي، والربيع هنا يضيف سحرا للمدينة، أليس كذلك ؟

كان يتابعها وهي ترسل كلماتها وكأنها تتعمد أن تكون موحية تبلغ رسالة خاصة ؛تتنهد وكأنها تعبر عن رغبة كامنة ثم تتابع:

وحيث أني فضلت عدم السفر، و رغبت في صديقات كن معي في الملجأ هن من يزرنني، قلت لماذا لا أكرمهن بمكسرات وفواكه جافة وشكولاطة رفيعة، مما في متجرك وهو أشهر من نار على علم..

رغم حذره واحتراسه فقد ابهرته طلاقتها والتعبير عما تريده بقدرة منقطعة النظير، حتى أنه نسي نفسه وهو مشدود الى غمازة على خدها الأيمن، وخال مثير اسفل أذنها اليسرى اضافا الى لونها القمحي وسحر العينين جمالا مغريا ؛فبين تناقضات القول وجمال الطلعة سحر يحتاج الى فك غموضه ؛ انثى فريدة تسكنها الحياة بقدر ما يسكنها التناقض... تبسم في وجهها وقال: رغم ان متجري لا يبيع بالتقسيط فسأزودك بكل ما تحتاجين، كضيفة وزائرة لمتجري..طيب كم عدد زائراتك ؟

قالت وكأن كلامه قد اراح صدرها مما أبلغته لها الكاتبة في أول زيارة كون المتجر لا يبيع بالتقسيط:

ـ هن ثلاثة فقط، لكن أحب أن اهديهن من ألذ وأمتع مما عندك..

قالت العبارة الأخيرة بايحاء وكانها تدعوه اليها، أو تتمنى حضوره مع صديقاتها، لكنه تجاهل حركاتها.. و قد رفع نظره الى الحاجز الزجاجي بينه وبين كاتبته وكأنه يقول لها احذري !!..

ـ لا عليك اتركي عنوانك عند الكاتبة وسيصلك كل ما يكفيك

تحركت كمن لسعتها نحلة:

ــ لا ارجوك !..اكره أن يطرق باب بيتي رجل.

قطب جبينه وان ظلت عيناه تتبسمان لقولها:

ـ طيب مري على المتجر بنفسك غدا في أي وقت شئت وستجدين الطلبية جاهزة.. فتحت فمها وصبت عيونها في عيونه بنظرة عميقة كانها تريد أن تقول: لماذا لا يكون الحامل أنت ؟ لكنها تراجعت، مررت لسانها على شفتيها بنفس الاغراء السابق ثم مسحت الأرض بعيونها وكأنها تفكر في شيء معين، قالت: لن أخفي عليك انا لا أكره كل الرجال كما قد يتبادر الى ذهنك حقدا على زوجي الذي طلقني، فانا ما أحسست يوما بوجوده في حياتي، أكره بعض الرجال لان أحدهم كان قد أغتصبني و عمري 6سنوات، ولم يكن المغتصب غير ابي الذي استفرد بي بعد موت أمي.. حاولت أن اتناسى، لكن في الملجأ ما كنت لديهم غير سمكة،كل رجل يرمي لها بسنارة و طعم، لهذا لم أنس اغتصابي من ابي فظلت الحادثة تؤرقني ليلا ونهارا، وقد صرت أخشى ظل الرجل اذا مر بجانبي، لهذا بادرت بقبول طلب مدير الملجأ فتزوجته رغم أن اثنتين قبلي قد سبقاني اليه، مع الأسف لم يكن غير رجل عاجز، كان يشتري صمتي بماله مما ولد عندي ميولات أخرى اعوض بها حرماني وجوعي الجنسي.. لكن الحق يقال فقد أستطاع ان يذيب خوفي من الرجال، فقد علمني كيف اتحدى واتجاوز كل مشاعر الاشمئزاز التي كانت تتملكني كلما مسني رجل،وها انا اللحظة معك، وقد خلعت كل كلفة بيننا بل تركتك تراني كما أنا بلا خلفيات دينية أو اجتماعية، أنثى حرة لا تخشى الرجال او تتجرد من رغباتها..وثقتي فيك قد تجعلني اتعرى امامك بلا حرج..

بسرعة رفع يده وكأنه يصدها ان تغامر بماقالت !..

اطلقت تنهيدة عميقة، في لحظة مدت يدها وأخذت حبة شوكولاطة، تذوقتها باستمتاع وتلذذ شهواني ثم تابعت:

الأنثى منا تتحجب ولكن في عمقها ألف وسواس خناس يحرك فيها كل ما وهبها الله من رغبة وتوق وجوع جنسي، وكل من تدعي غير ذلك فهي تنافق أو تنتحر عن إصرار... لقد أخضعت نفسي لحجاب ليس لرغبة أو رهبة وانما اتقاء ما صرنا نعانيه كنساء بين الرجال، خصوصا اذا كانت المرأة مثلي لها ميولات أخرى تعودتها لسد جوعها وما عاد لها بالرجال رغبة لما عانته منهم.

توقفت قليلا ثم استدركت..مع استثناءات طبعا عند تحرك شوق ورغبة وأناقة حضور..

أحس بان التي أمامه تريد أن تجره الى حياتها الخاصة، تتعمد اثارته ؛ تململ في مكانه وهو يقارن بين زيها وسلوكها وبين تناقضات حياتها وكأنه يعلن انتهاء المقابلة، وقفت، و قد تعمدت ان تترك فتحة فستانها السفلى تكشف عن فخدها الأيسرالمرمري ثم قالت: لم تخبرني عن الثمن ؟

"أنثى منذورة للفتنة والحياة، و لو بقيت في مكتبي دقائق أخرى لوقعت تحت سياط أغرائها وذاك غالبا ما تسعى اليه ".. بادرها بالقول:

لايهم ستجدين كل شيء عند الكاتبة..

اعادت جلبابها وشرعت تقفل صدفاته، تراجعت قليلا الى الوراء فظهر نهدها البض، وهي تركز النظر فيه كانها تتمنى أن يرتمي عليها ويطوقها بيديه، فقد رأت فيه رجلا يستحق ان تتعرى له انثى..

انزلت نقابها على وجهها،رتبت قبها بعناية وعيونها تلتهم الرجل، ثم مدت يدها تودعه وقد تعمدت أن تضغط بقوة على يده.. انتبه الى أنها تسرق النظر الى علبة الشوكولاطة وكأنها تتوسل اخذها.. حملها ثم قدمها لها: " ذي هدية من المتجر "

ضحكت وقالت: الشكر لمالك المتجر على لطفه وذوقه..ثق أنني قد ارتحت اليك، و سأزورك مرات أخرى اذا كان وقتك يسمح بذلك طبعا.

ادرك أن السيدة لها ميولات قد كشفت عنها، كما كشفت عن تناقضات في سلوكها، وهو نفس التناقض الذي جعل ماحكته ينحل شكا في ذهنه ؛أطلق زفرة عميقة بعد انصرافها ثم أخذ ورقة ودون عليها كل ما يلزم الزائرة ؛ دعا كاتبته،سلمها البطاقة ثم قال: اجمعي المطلوب في صندوقة كبيرة وضعي داخلها فاتورة صغيرة بلا اثمنة، لا تنسي أن تكتبي عليها هدية من المتجر، لكن اياك ان تسمحي لها بالدخول عندي مرة أخرى...

***

محمد الدرقاوي

تمهل ..

لا تحاول العبور

من دمي

عالق انت هنا بين اصابعي

قصيدة لا تنتهي..

وحتى اخر نبضة

يسيل منها عطرك

على شفتي..

عالق

انت هنا

بين زمنك و زمني..

بين ارضك و ارضي ..

ولنا صوت واحد

ودمعة واحدة

وضحكة واحدة

قد تجمعنا

الى الابد..

لا وقت لنا للغياب

قد اكتفى العمر من العذاب ..

دعنا نمشي على اطراف اصابعنا

كي لا نوقظ

الحزن

فينا..

دعنا نهز السحاب كي

تعزف لنا المطر من جديد..

من همسة الحب

سوف نوقظ ربيعنا

لنرتشف العشق

كؤوس ورد و ياسمينا..

تمادى الحب فينا

تمادى شوقا

وفراقا و حنينا..

تمادى..

كبرياءا..

تمادى..

يأسا..

وانينا ..

كم مشينا في البعد

دون شمس..

وكم ضعنا

وكم نالت ليالي

الفراق من

امانينا..

تمادى الحب فينا

حتى الثمالة..

والعشق قال كلمته

الاخيرة..

انا لا ازال

انا ..

ارسم وجهك بالدمع حينا..

و بالامنيات حينا..

***

بقلم: وفاء كريم

"مهداة لكل هوى هوى"

على ضفاف طيفك رسمت

أحلاما

عشقا في هوى أغواني

ما عادت الألوان

ألوانا

ولا الملامح ملامح

في الغربة أنا، أسير أحزانا

خلفت صمم الحروف والورود

والجدران

ألغزت الرسائل...

وها الندى حيرانا... حيرانا

إني ما عدت أراك

كما عهدتك نورا في نوري

ولا سرا

من أسراري وصوامتي

وصدى النبضات

لقد أحببتك... ذات عمر

يا مرج المنى... كنته

كيف لي بك تهجرين الطريق

والأحلام والذكرى

ومعنى القصيدة

يا حسرة على صفاء

وماء

فها قد مات

مات في دمي

ذاك الذي

كان

قدسيا بيننا

***

عبد العزيز قريش

ليس حقلا مكتضاً بالأعشاب، والحشائش اليابسة عندما يهطل السيل، ويغرق الجذور الممتدة إلى حدود عواطفنا.

هل تتخيل ذاك الشعور الذي يعتريني كلما انسكب البرد على سواحل خدي، ويتمدد الحنين فارداً ذراعيه نحوي؟

وكلما بزغ خيط من خيوط الشمس هارباً من ركام الغيوم الرمادية المتراكمة في أفق السماء يصطف شريط الذكريات المنسية على رف مخيلتي مقلباً صفحاته الصفراء كاصفرار خريف ورق.

إنني لازلت أبحث عن نص بنكهة فصل خامس يعيدني إلى بدايات الندى الصباحي لا إلى تلك السطور المتأرجحة التي تذكرني بفواصل الشعور.

وإنني امرأة تحيك معاطف شتوية محكمة الأزرار بجر حرف ممطر على زجاج نافذتك، وتوقد في الأبجدية حديث دفء طويل، وتطعم النار طيش رسائلها الكتابية الصماء.

أتعلم أنني على مشارف السكون، والاكتفاء من انتظار ضجيج حرفك الذي يجوب معالم الوجوه، ويتسلق الورق باحثاً عن ظلي ... بعد ذاك الالتحام الصادم في مفردات كتاباتنا، وغريب أن يتلبسني هذا الشعور وأنا أتعثر بحديثك في تمام السادسة صباحاً.

إن المعطف الذي أرتديه وأنا منعزلة في كتابة رسائلي يتسرب الدفء إلى فوهة القلم، ويصهر كتل الجليد الحبرية، ويحولها إلى بحيرات على سطح الورق.

***

مريم الشكيلية /سلطنة عُمان....

لـكـــلِ قــافــيـةٍ عَــزْفٌ، تــوَلاّهــا

وفي انـتـقاء المعاني يَـحلو مَغْـزاهـا

*

أجـواؤها إنْ حَواها الصِدقُ عامـرةٌ

وعَـذْبُ رافِـدهـا، يـروي مُحَـيّـاهـا

*

والرأيُ إنْ جَـعَـلَ الإنصافَ غايـتَـه

تسْـمـو بـه الحالُ، مبناها ومعناهـا

*

تـَـرنِـيـمَة بـنَـقـاءٍ، صاغَـهـا ألـَــقٌ

تُـعَـزِّزُ الـوَصْلَ، في أسمى نَواياها

*

يامـن يـَرومُ دَوامـا، فــي تواصلِه

فـعِــفّـة الـنـفــس، للآمال تَرعاهـا

*

إذا النصوصُ تـسامَـتْ في بلاغـتِها

بـفضلِ مَـوْهــبةٍ قــد لامَسَـتْ فـاها

*

يـزهـو النشيدُ بها فخرا بما وُهِـبَـتْ

زهْــوَ الـقلوبِ بحُـبٍ قـد تَـمَـنّـاها

*

مَلامِـحُ الـودِّ، فـي انـسامهـا عَـبَـقٌ

وفـي الـتكلف تـبدي النفسُ شكواهـا

*

قالوا : وثـقْـتَ بأوصافٍ فبُحتَ بهـا

فــقـلتُ : قـلبي قـبل العـيـن أفْـتـاهـا

*

لـمّا رأى، أنّ فـي مضمونها قـبَـسا

مــن الحـقـيـقة قــد أغْـنى مُـؤَدّاهـا

*

إنّ الـتّـحـايا اذا جـاد اللـسـانُ بـهـا

من معجم الحب صار القلبُ مأواها

*

صَوْتُ البـيانِ لـكي يعلو، يُعـزِّزه

نَـقاءُ نَـفْـسٍ، زها بالطيب فحْواهـا

*

إنّ التخاطبَ في استِجـداءِ عاطفـةٍ

لا يـنـتمي لِـنَـوايا، عَـفَّ مَسْعـاهـا

*

محاسِـنُ الوَجْـهِ ليس الطبْعُ يرفِدُها

لـكـلِّ ديْـمـومَـةٍ شـأنٌ بـمَجْـراهـا

*

الطـبْعُ ليس جمالُ العـينِ يـَكـشـفُـه

كم مُـقْـلةٍ قد تـمَـنّـتْ غيرَ سُـكْناها

*

نَـهْجُ الثـقافـة يُـعطي نُـورَ أحـرُفِـه

للنفـس بُـغـيةَ تَهْـذيـبٍ لِمَسْـراهـا

*

فإنْ تزامَـنَـت الأخلاقُ تعـلو بهـا

مَراتِبُ العِـزّ صَوْبَ الأفق مَرْقاهـا

*

تبقى المواهبُ تمضي في توجهها

صَوْبَ العطاء لأن العَـزْمَ يهواهـا

***

(من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

"كُتبتْ هذه القصيدة أواسط تسعينات القرن الماضي شوقا الى رفيقة عمري وأنا في غربتي وقد حالفني الحظّ  وظفرت بها ضمن أوراقي القديمة"

***

ما أنــتِ يــا مَـعْــشـوقَــتـي!

كــم أشــتهــي لُــقـيـاك وجِـدا

*

فــي غُـــربَــتي مُــتَــوحِّــــــدٌ

أشْــتـاقُــهــا جَــذبَــا وشَـــــدّا

*

لــم ألــقَ فـــي كـــلّ الــشــتـا

تِ جــميــلة أصــفــى وأنـدى

*

أنْــفَــاسُهـا زهــرُ الجِــــنــان

أشُــمّــهــا عِــــطْـــرا ووردا

*

بــنـت الــعــراق سـلــيـلـــتي

مـمــزوجة عــــرَباً وكـــردا

*

فــي الــتـركمـان صـبَـابـتـي

قــد ذقْــتُــها عَـسَـلاً وقَــنْــدا

*

هــيفـاء كالــبـان الرطــيــبِ

تَـمُــدّنـي لــبَــنـاً وشــهــــدا

*

غَــرّاءُ ، فَــيـضٌ حــضـنُـها

مــنـحــوتــةٌ روحـــاً وقـــدَّا

*

أنّــى الــتـفـتتَ فـلـم تــجـــدْ

فـي سحـرِها شــبَــها ونـــدّا

*

فــالقــلـب يــمرح بالــوفـــا

والــوجه نــنـهــلُ مـنـهُ ودّا

*

بَـقِــيَـتْ على عَـهْـد اللـقـاءِ

تَـحَـمّـلـتْ هَــجْـرا وصَــدّا

*

وتـقـول لي عــند المــزاحِ

أيا جواد : أخـنتَ عهدا ؟؟

*

فــأجــيــبُـها مُـتـضاحـكــاً

عرقـوب لا يوفـيـكِ وعـدا

*

مُــتَـــنـــقّــلٌ أم ثـــابــــتٌ

لــم ألـتــمــسْ نــكْـراً وإدّا

*

لـم تـنسَـني كــلّ السـنيــن

فـذا الحسـام يـريـد غـمـدا

*

غـرّبـتَ نــأْيــاً للـبـعــيــد

تركْتِني في الأرض فردا

***

جواد غلوم

 

ﻷمر طارئ إضطر صاحب البيت أن يترك زائره وحيدا وبشكل مؤقت. الضيف وفي مثل هكذا حالة، عادة ما كان يزجي الوقت ويقضيه بمتابعته وعبر نافذة البيت لحركات وألعاب وصراخ أطفال البيت المجاور، وعدوهم وتسارعهم في باحة الدار الواسعة وما سيرافقها من شعور بالنشوة والفرح وبلا حدود، سينعكس تأثيرها على الضيف لينتابه إحساس، بسعادة لا تدانيها سعادة. كذلك عادة ما يستهويه التطلع الى كيس اللبن المعلَّق وبشكل ثابت على ساق إحدى الشجيرات ومع كل زيارة يقوم بها لصديقه، والذي عادة ما كان يستغرقه ويأخذ منه بضعة دقائق تغزلا، حيث يعيده ويذكره بذلك البيت الذي قضى فيه طفولته، يوم كان شقيقه اﻷصغر ينافسه على تذوق خلاصته اﻷولى.

 الاّ ان الضيف هذه المرة وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه لا سيما وان صاحب الدار وعلى غير عادته قد تأخر كثيرا. فبينما هو مستغرق في نظره الى البيت المجاور وإذا به يشعر بأنَّ في حركته ما يعيقها، فوقع المفاجئة كما يبدو كانت كبيرة عليه. فعلى مدى سنوات عمره التي انقضت والتي عبرت العقد الثالث ببضعة منها، وعلى الرغم من وقوفه وإطلاعه على العديد من التجارب، وقراءاته للكثير من القصص المشابهة لما يحدث له الآن، وعلى الرغم كذلك من التنظيرات والنصائح التي كان يسجيها مجاناً لهذا وذاك من أصدقائه بفخر وزهو، وخاصة فيما يتعلق بهفهفة القلب وأوجاعه، والتي عادة ما يصاب بها العاشقون، الاّ انه اﻵن يبدو عاجزاً عن القيام بأي فعل أو حركة، تنجيه من الحالة التي وجد نفسه وقد وقع فيها. أمّا رجاحة العقل وحكمة التصرف عند الشدائد والتي كثيرا ما يرددها ويباهي بها، فقد فلتت من بين يديه وقلبه.

نحرها أبيض بض، لا يفصله عنه وعن نهديها الاّ بعض خطى. وما دام الحال كذلك فما عليكم الاّ أن تعذروه، إذ هو في حالة إنفصال وانفصام كامل، غائب عن البعدين، زمانا ومكانا وربما هناك بعدا آخر أيضا. فالرجل ولعلها للمرة الأولى في حياته التي يحسُّ فيها بطعمَ الهيام والتي أفضت ومن حيث لا يدري الى قطع الصلة بما يحيط به، ليكون بذلك قد سقط في جُبٍ عميق وعلى نحو غير متوقع، جانحاً ومبتعدا عن سياق شخصيته، متمردا عليها دونما دراية بل باتت مفروضة عليه.

دونما تخطيط مسبق وإذ به يشرع بفتح النافذة الفاصلة بينه وبين مَنْ هامَ بها، متجاوزا كل اﻷعراف التي كثيرا ما كان يدعو اليها ويبشر بها. ثم أخذ يدندن وهو العارف بأغاني سيدة الطرب أم كلثوم ورائعتها اﻷطلال. وما كادت تقترب أكثر منه وفي لقطة بدت كأنها في شوق لمن يطري قلبها النابض والرابظ على خط العشق، حتى راح مزيدا من وتيرة صوته، منغما ذلك المقطع اﻷثير على قلبه: ومن الشوق رسول بيننا ونديم قدم الكاس لنا. وعند وصولها الى هذا المقطع راحت الفتاة تُكمل بقية اﻷغنية و بأداء رائع وصوت شجي، تطرب له القلوب قبل النفوس، مما دفع الضيف الذي يزعم معرفته بأصول الغناء ومقامته، الى أن يصغي اليها بكل جوارحه. وما كان له أن يخرج من حالة الهيام هذه لولا نداء أحدهم وهو يدعو سرب طيوره الى التحليق بعيدا بعيدا. إثر ذلك ومخافة أن يحدث لها وله ما ليس في الحسبان، ما كان على الضيف أو الزائر الاّ أن يعود الى أدراجه والى وعيه، مغلقا النافذة المطلة على الجيران، ملوحا لتلك الفتاة بيديه الحانيتين، على أمل اللقاء فيما بعد.

 أمّا نحن فسنصرف النظر ونغض الطرف عن بعض الإعتبارات، ونشرع بقراءة ما حصل معه وعلى نحو لا يخلو من إجتهاد في القراءة وفي التفسير وما يمكن أن يتبعها من تصورات وأحكام. فالرجل وبسبب تلك الصورة التي شاغلته وإستقرت في ذهنه وأتعبته كثيرا بل وأقضت مضجعه، والمقصود هنا صورة النحر والنهدين وموقع القلادة من الصدر، (للعلم فالفتاة لم تكن تعلق قلادة كماصورها الضيف) أدَّت فيما أدت الى إختراق مخيلته ومن غير إستئذان وإحداث بعض الإرباك، حتى تعذّر عليه معرفة ما يدور من حوله.

 ولولا بعض المؤشرات التي بانت على وجه الفتاة التي تقابله في الطرف اﻵخر من النافذة وما صدر عنها من ردات فعل مفاجئة، تنم بمجملها عن حالة قلق وإرتباك وخوف، لتثير بدورها إنتباهه ولتعيده نسبياً الى حالته الطبيعية، لما كان الضيف قد تنبَّه الى ما يجري من حوله. ففي حركة عينيها ووجلها وإحمرار وجنتيها، ما ينبئ بوقوع شيئا ما لم يكن في الحسبان ولا بالمطمئن. انه صوت جلبة داخل الغرفة، لم يستطع التأكد منه الاّ بعد أن صدرت من مضيفه  بضعة كلمات،إستبقها بنحنحة، كاد صداها وبسبب من قوتها أن تخترق زجاج النافذة الفاصلة بين بيته وبيت الجيران، في مؤشر واضح، يُنبئ بدخوله الغرفة، والى تحذيره كذلك وفي حركة تنم عن تواطئ مكشوف مع صديقه، علَّها تصله ومن دون أن تسبب له حرجا.

حتى الآن يبدو الأمر طبيعياً أو لنقل نصف مصيبة، ولكن المصيبة الأعظم هي دخول صاحبة البيت بعيد لحظات من دخول ولدها، وبيدها شيئا ما لم يستطع تبينه من شدة وقع الصدمة عليه. في هذه الأثناء لم يكن امام الضيف من حل لتجاوز الإحراج الذي وقع فيه الاّ قيامه وعلى عجل بلملمة وضعه المضطرب ما استطاع وعلامات الإرباك بادية عليه، وسط دهشة وتعجب أهل البيت، ليغادر الغرفة والدار معاً، وحتى من غير أن ينطق بأي حرف، تاركاً ورائه ذيول مشكلة، يظنها كبيرة، لا يعرف درجة تفاعلها وما سيترتب عليها من نتائج، ولا كيفية تجاوزها مستقبلاً، لا يعرف كيف سيجد لها من التبريرات والمخارج، ما سيسعفه وينقذه لتجاوز الحرج والمأزق الذي وقع فيه.

لم يتوقف عن التفكير فيما حصل معه، فطيلة طريق عودته الى البيت راح يستعيد تلك الواقعة، واضعا العديد من السناريوهات التي يمكن أن تترتب عليها: لقد إنقلبت الطاولة على رأسك يا فلان وأصبحت في حالة لا تُحسد عليها، فربما تداعيات ما وقع ستصل أبعد بكثير مما تعتقده. كان اﻷجدى بك أن تترك أمرا كهذا لشقيقك، فهو اﻷجدر منك واﻷقدر على محاكاة ومجاراة هكذا وقائع، وَلكانَ قد خطفها وطار بها حيث يشاء، وﻷجتاز كل الحدود، بما فيها الممنوعة والمحرمة. ثم راح مسائلا نفسه: ولكن ما بك يا رجل، فها هي الفرصة قد أتتك وعلى طبق من نور ومحبة، فما كان عليك الاّ أن تستجيب لنداء العشق وتطوي تلك الصفحة المعتمة من حياتك، والتي لم توصلك وحتى اللحظة الى ما تبتغيه رغم ما تمتلكه من رصيد فكري ومعرفي، بل حتى لم تساعدك على عبور الضفة اﻷخرى من النهر الذي يخترق المدينة رغم صغره.

في هذه اﻷثناء وبينما هو منهمك في حساباته، لفت إنتباهه صوت جلبة واضحة، مصدرها ما يحدث من مشادة كلامية، أحد طرفيها رجل ستيني، تبدو جلية عليه ملامح الوقار والهيبة، وهو يحاول التدخل لدى رجلي أمن، محاولا منع إقتياد أحد الصبية وإدخاله عنوة في الجانب الخلفي لسيارة الفوكس فاغن الرمادية اللون، السيئة الصيت والسمعة، والمعروفة من قبل اﻷهالي بعائديتها الى دائرة أمن المدينة، ففي اﻵونة اﻷخيرة لوحظ تزايد نشاطها وتحركاتها المريبة، مستهدفة كل مَنْ يعارض سياسة الدولة وحزبها الحاكم وتحت مختلف الحجج والذرائع. أراد أثرها صاحبنا التدخل لصالح الصبي غير انه تراجع عن ذلك، خشية أن يقتاد هو اﻵخر الى دائرة اﻷمن، فالأجواء السياسية في البلد لا تبشر بالخير، ومَنْ يدري فقد يكون هو اﻵخر مطلوبا لهذه الدائرة أسوة بأصدقائه الذين سبقوه.

 ***

حاتم جعفر - السويد / مالمو

 

أجمّع نفسي عارضًا وجهي للضوء، ثمّة وجهٌ رأيته ينزف في السحب. كم من قائل روى حكايته ولم تُسمع، وأنا أهذي بانتظار أن تتركني الموجة على شاطئ مجهول، مقيّدًا إلى حجر مثل همسة بعيدة لا يسمعها أحد، كنت أصعد درجًا في نهايته فتحة كفم البئر تطفو بداخله غيمة من وجوه تسيح وتغلي ولا تستقرّ، أفتح كتاب الزمن بأصابع مرتجفة وأقرأ:

دعه يشرب ما شاء من دمك، ودعه يسيح ويهذي ويرتجف، ولا يستتب، هناك على حلبة الحياة حيث تتصارعُ الوحوش. خذ أحزانك وأفراحك ثم ادعكها، وحالما يتصاعد منها الدخان.. ضع عليها قشّ العائلة الجاف، وأغصان الأصدقاء الصغيرة، وورود الحب الذابلة، وقرّب وجهك من هذه الكومة نافخًا عليها كلّ الحسرات السريّة والآهات التي لم تغيّر شيئًا، أنفخ عليها بهدوء.. مرارًا ومرارًا ثم دعها تشتعل. ولا تخبر أحدًا عن أيّ شيءٍ يجعله يشكّ بقدرتك على جرّ عربة الحاجة، يجب أن تجرّها بسعادة، ولا تخبرهم أنّ الطريق مسمومٌ وشائك، فقط جد لك أيّ جرحٍ ونظّف دم الرحلة بهدوء.

٢

لم يكن الزمن الذي جاء منه، ولا المدينة التي عاش فيها، صالحين لقرض الشعر وحياكة القصص أو اللعلعة بالغناء، أو حتّى المساهمة في أن تنمو له قصة حب خيالية حتّى نهايتها الممكنة.. كان دخان المفخخات ورصاص العصابات يكتّف الأصوات في الحناجر ويقيّد الخيال. لم يكن ثمة شاعر، ولا طبّال.. ولا مغنٍ ذو صوت شجي، ولا حتّى حلقة للذكر يتأرجح فيها الذاكرون.كان يناجي نفسه كثيرًا، ويتواصل مع الآخرين قليلًا.. يتوقّف عن عمل أي شيء بين يديه حين ينغزه لحن، فتتلبّسه أشباح الشعر وتحرّكه وتتلاعب به حتى ينتهي هذا اللحن.

(كان يتلحّف البحر مبتلعًا الملح دون الماء

استيقظت رئتاه

وأصداء بحارة غرقى ينشدون الموت

كأن أصواتهم تودّع أحلامهم

هناك هناك..

في الضفّة الأخرى..

لم يكن سوى قمرٍ وحيدٍ يسحب الموج على خاصرته

ليستعير نوره الذابل)

هذا الرمل الذي كان موقدًا لرقصات الجثث وهي تتطاير من على البنايات وترتطم بالأسفلت. في الطفولة التي طارد فيها حكايات النوم ولم يقبض منها غير الكوابيس والليالي المفزعة.

هذا الرمل لم يتبقّى هنا ولا في الضفة الأخرى، ما تبقّى آثار أقدام وعويل.هذا الرمل لم يعد هنا، هذا الطفل يبقى وحيدًا، مثل آثار قدم مثل أصداء أغنية.

حجبت الشِباك عن زورقه الهواء، حدّق فيه وعيناه مغمضتان صرخ في سره دون صوت.واقفًا على الجانب المعتم من الظّل، ضوءًا نحيلًا يبحث عمّا وراء الجدران، لا شيء غير الشحوب يسكن غرفته، لا الستائر مستيقظة، ولا جفنه المسدول استراح من غفوة الترحال، ولا يجد الكلمات التي يصف فيها قلبه خلف جدران رطبة لا يعلم إلى أي باب ستفضي..

٣

العلم بالإله من غير المألوه لا يصح فلا يعوَّل عليه، ولهذا قال الشارع: من عرف نفسه فقد عرف ربه.

 رسالة الذي لا يعوّل عليه

محيي الدين بن عربي

٤

أطلق الحلم سراحي، وتركني بالظلام في طريقٍ مهجور. أتى ليل الضفادع والأفاعي والعقارب، إذا ما طرت هاربًا منها بلا أجنحة وطاردت أشباح الملائكة، عبرت بي كتائب مقهورة تسحب راياتها.ما كنت أقيم على الجمر، وما كنت أنام وحيدًا من أجل أي شيء وأحيا في عالمين بينهما كتاب، أفتحه كأن في قدرتي أن أستعيد ما فقدته مرّة أخرى، أفتحه فأخلع هذه الأقنعة وأستعيد الشاطئ مرّة أخرى، وأسبح ثانية في ذلك التيار.ألتفّ إلى نفسي وليس لي أن أبدأ أو أنتهي، أرتقي درجًا لا أعرف أين يؤدي، عارفًا أن كلّ ساعة هي الأولى والأخيرة.. أرتقي درجًا وأسمع الأصوات ورائي:

اسمعنا، اسمعنا آخر مرّة

وحرّر وجهك منّا.

٥

أقنعته ارتجلت خطابًا من فمه، فاندفع مثل بخارٍ من مرجل، عيناه خائفتان مثل وجه كلب مرتعب، كانتا تريان الأقنعة وهي تكتب نفسها وتقول:

تأكل طعامك في الأماكن المعتادة، تألف نفس الوجوه، تسلك الشارع ذاته، تنام على نفس السرير، تظنّ أنّك تحلم، مستيقظٌ أنت يا صاحب المقامات تجفل وتفزع فيهتزّ الليل من قميصه. قُم وانهض، وحدّثنا.الليل يومئ لك.هذا ليس وقتك.

أيها الغريب في كلّ بيت، أيّها الشريد من نفسه، يا رصيف الموانئ، وابن قاعات الانتظار، يا احتمالات الغياب في مقاهي الهاربين، يا صدأ المقاعد المهجورة، يا وحيد يا غريق يا مؤانس، يا ليلًا طويل الهموم كثير الوساوس، يا من كانت وحدته شجرة أعارت ظلّها لليل، أيّها المشجب الذي يعلّق الراحلون عليه بيوتهم.اخلعنا.. كن شجاعًا ولو لمرّة في حياتك وودّع هذه الأقنعة، اخلعنا اليوم هنا، في حياتك وحتّى بعد موتك. فمن يدري إن كنت ترتدينا أم نرتديك؟

أقنعته ارتجلت خطابًا من فمه، ما عادت تدرك ما تقول، عيناه كانتا تريان الأقنعة تكتب نفسها.صاحب المقامات يخاف الحب ويكره الضعف الذي يصاحبه، عمومًا هو يكره الخوف والضعف مع أنّه يتقن الاثنين، يختبئ خلف أقنعته مع عاشقات متخيّلات ويدّعي أنّه أعرف بالحبّ من غيره.لكنّه لا يفصح أبدًا بل يكذب، حتّى على قلبه.

٦

يحاول الغزاة أن يأخذونني أسيرًا عندهم فيفشلون. يحاولون من جديد بالضحايا والأنوار، والحروب الطويلة، وأنياب الملوك الجدد والخلفاء القدماء، يستعينون بقرّادين وشحّاذين بلا عدد، فقراء بعدد نجوم الكون، فقهاء وعلماء أهملهم الناس فصاروا يتسوّلون، وشعراء ومتصوّفة فقدوا رؤوسهم من المحبّة. تحاول الموسيقى أن تجرف الصمت بشفتيها.والديانات أن تسلخ جلدها الليليّ بعيون مغمضة.وعندما لا ينظر إليها أحد. يترجّل الملوك وينهضون من عروشهم. آنذاك ينتصب ثعبان وحيد في وسط الصحراء وقد جاء الليل. ويرى العالم إطار النافذة يحلّق وحده في متاهة يديه. تستيقظ الحياة على ضفاف دجلة وقد نسيت أن تصلي. وتقرّر الأرض أن تهاجم قلبها حيث أختبأ مرتديًا كلّ أقنعتي.

يتثاقل الزمن تدريجيًا حتى ينهار، وتستيقظ في داخلي ذكريات مجدّفين عميان يبحرون بلا خارطة إلى المجهول والسماء بأفقها المطعون تتضاءل، يتّسع الجرح باستمرار، ويسخر من الضماد مقدمًا، أقع فريسة الارتعاش والهلع، وأعرف أنّ الشمس ستأتي غدًا مسحورة بالنوافذ، وتعيد إليّ حصّتي من الخيبة.أتطلّع إليها مربوطًا بالسلاسل، والعالم من حولي يرقص كالدمية على نغم خفي، مؤشرًا لي ويقول بلغة الإشارات التي يفهمها الصم:

لماذا تتأخّر دائمًا؟

 ٧

خرجت بعيدًا عن البيت، ماشيًا في موكب، الموسيقى تأتي من مقدّمة بعيدة لا أحد يدري إلى أيّة مسافة تمتد.ينحرف الموكب مع جوقة الطبّالين والعازفين، وأرى البنايات تنتظر بتوتّر، وأسمع الموسيقى الشجيّة تفيض من أبوابها، مع سيل طويل وحيّ من الأنفاس المؤرقة، تتصاعد الموسيقى وتنتقع بدعاء كميل وزيارة أمين الله، يتنفّس الصبح بالصلاة على محمّد وآله، ثم تظهر جدّتي من الجمع وحولها أولادها، تحرّك مسبحتها وتولّي شطرها نحو ضريح الأمير، تمتزج الموسيقى مع أذان الفجر وتدخل مرحلة الإيجاز، ويطوي السلّم الموسيقي نفسه، ثم يخرج الأمير من ضريحه مع سيفه المفلوق ويبارك الجمع، يضع عباءته عليّ ثم يتسلّل بخفّة عائدًا إلى ضريحه.

٨

أمام جدارٍ من الوجوه الغريقة في الدخان، مغمض العينين، بانتظار فرجٍ لهذه المحنة. أصغي إلى نغم لا يسمعه غيري، آتيًا من قرارٍ ليس بوسعي أن أخمّنه، آتيًا من حجرات مهجولة في القلب حيث أعرف كيف أحلّق وحدي، حتّى إذا أخذتني الرعدة، ورمتني بعد التحليق هناك مرارًا. رأيت كيف تعبر غارات الآلام كظلّ سحابة في الظهيرة، من وجهي الشاحب المتوتّر إلى صدري المستعد لطعنة أخرى.تقول أقنعني أنّها رأت كيف أستقبل السكّين في صدري، فالطعنة لي، فأنا الحيّ الوحيد هنا، لي وحدي يفتح هذا الكتاب بعد أن اشتعل. أقلّب صفحات مقاماته من اللهيب، وأسبح أمام أقنعتي في ناري الأنيسة، أمدّ صوتي الجريح جسرًا يربطني بالعالم، في مقاماتي إعلان مخاضات، والبشرى تجري في الساقية، والشظايا تتقلّب بين الأحشاء. حيث تولد من دمائي تلك الأغنيات. خبيرٌ بتفصيل الجراح، لا أعرف من أيّ مدرسة للمواجع أتيت، لا أعرف على من أبكي وأرثي وأدين؟ ربّما لمن مات، ولمن لم يولد ولا يستطيع أن يموت. أنا الهلام المجبول بالخرق المتبقيّة من تضميد الجراح، أنا التنين الذي ينفث نيرانه ويرتجف محنيّ الرّقبة بانتظار نظرة حانية تذبحه من لحظين، أنا المتلعثم بالكلام، أنا هيكل الآلام، أنا الملاك الطائش الذي ضلّ طريقه إلى فردوسه النائي، وشيّدوا حوله الأسوار، أنا الذي يستطيع أن يجعل التاريخ يكفّ عن الدوران حول نفسه، أنا المتّكأ على الخرائب، أنا الذي قيل عنه أنّه بلا صاحب، كلماتي كهجر حبيب غائب، أنا الذي في النوائب، أنا الذي يسمع ولا يطيع، أنا الذي يخاف أن يتركه الجميع، أنا صاحب المقامات، وراوي سير الأحياء والأموات.أنا وارث فن بديع الزمان، أنا صاحب السجع الرنّان.أنا المتّقد من الصبابة والحنين، أنا المتأرجح بين الصلابة واللين، أنا الذي يقسو ويلين، واسمي أمين.

٩

تطارده الدروب وهو وحده، يستجدي معانقة أخيرة من العالم.يخيّل إليه أنّ هذه الأقنعة تحاول قول شيء ما، غير أن الجدار عالٍ، غير أن الصراخ مكتوم، والصوت لا يصل.تحاول الأقنعة تذكيره بكلّ شيء.بالطفل المدلّل للأمهات الثلاث، بالنبيه الذي حاول أن يتعلّم كلّ شيء، بالوحيد المرتعد الذي يتمنّى أن يعرفه الجميع، بالتلميذ المجتهد الصامت الذي لا يعرفه أحد، الفتى الذي نشأ وترعرع في بيت كلّه بنات، بالذي أخفى عن أهله شكوكه وأسئلته ومعرفته حتّى يظلّ صغيرًا بأعينهم، بالطفل الذي قرأ المصحف وحفظ معظم آياته قبل أن يبلغ، ذلك المهووس بكتب الأدعية وزيارات الائمة ونصوص التراث ودواوين الشعر وكتب التاريخ والتفسير والسلالم الموسيقية وهو ابن ثلاثة عشر سنة، بالمراهق الذي غار عندما سمع شاعرين لا يتقنان الشعر يتباريان فعرّف نفسه بأنّه كاتب قصص وهو يعلم أنّه لا يفقه بالكتابة أصلًا. بذلك المهووس بفن الحريري وبديع الزمان والذي كتب مقامته الأولى وهو لا يزال طالبًا في السادس الإعدادي، والمتلعثم الذي رأى بنتًا لا يعرفها تشبه بنت عمّه فقرّر أن يحبّها في خياله ويكتبها ويعرّف بها الناس من غير أن تعرفه هي أصلًا.قارئ الطالع والمهووس بالقصص المصوّرة وأفلام الأبطال الخارقين، صديق الجميع الذي لا يفهمه أحد، شيخ طائفة العشّاق المتألمين وصاحب هذه الأقنعة التي تحاول أن تروي نفسها في هذه المقامة.تقول له الأقنعة التي لبسها ليخفي هذا الألم وقد تداعت وتهرّأت:

اشحذ سيفًا تشرح فيه قسمات الليل، نصله البارد لا يطفئ تنهّد الحمامة وهي تطير. تنفخ السنوات نارك الموقدة في عينيك. رئتاك هيكلان من زجاج يحملان إرث اللهب والرماد. أنت لا تعلم أي عشبٍ ينبت فيك، وأي دغلٍ يعشعش بين الحجر المتراكم في صدرك. صوتك يشبه الحشرجة. يدك القابضة على الدم في عروقك تشتهي التوهّج والنفير. تحوم حول قبس شمس تهبط نحوك. وأنين الطير الذي يشتاق للسرب سيفك الذي تشحذ فيه ليلًا واضح المعالم، نصلًا يزحف نحو الغمد الذي يدعونه قلبك، قلبك الذي يدعونه قنبلة موقوتةً توشك أن تنفجر.

١٠

أصل إلى الساحة بعد أن عبرت نهرًا يهبط فيه المنجّمون بآلات فلكية صدئة، مفتّشين عن النجوم،   أعود ساهيًا نحيلًا كظلّ إبرة، من رحلات مجهولة، ألتقي بالموت وجهًا لوجه، كأنّني تركت نفقًا ورائي قبل لحظة، يتصاعد الدخان من رأسي، وأسير كالأعمى الذي يغزو الهواء بيديه نحو عدوّي الذي يختبأ خلف قناعه الأسود، أسير ويداي مقيدتان بالحريًة، تنغرز فيهما أسنان عدوّي، فيجعلني الألم أتطوّح سكيرًا في أزقّة غريبة، يفشل من فيها بمواساتي.

واثبًا في الهواء بحركات المعذّبين الخرقاء، كأنّ طيور الأرض قد تجمّعت في صدري، تبدأ الطيور انتفاضها الموسميّ من الأعماق، وتختبئ في سراديب سريّة وتشعل نفسها من حين لحين، بكبريت الوقائع اليوميّة.

أسير في طريق مجهولة لا يعرفها أحد، وأرى فيها قلوب أجدادي تخفق، رأيت خيولهم تركض وهم يتأمّلون الحجارة، يخفي الماضي ضياءه عنّي، وراء ستائر لا تحصى، أسير في مدينتي المنسيّة بين تواريخ تسكن هامش التاريخ، أمشي نائمًا في بخار مليئ بأجساد المحتجين والراقصين على إيقاع الطبول، وأتعثّر بالجماجم والجثث، يمدّ الوقت مبضعه كجرّاح مخبول، ويعلّمني أن لا أنخدع بوهم البقاء.ثم أرجع للساحة لمرّةٍ أخيرة، وأعرف بعد عودتي إلى البيت مختبئًا من رصاص السلطة وقنابلها الدخانيّة أنّها خسارة أخرى سيعتاد عليها القلب مع الوقت.

١١

كنت أنحت الصّخر بحروف قديمة، وأعرف أنّ الوقت مفترس، وأنا طريدة كسلى، لكنّني رغم كسح أطرافي وعند الفجر سبقت الشمس بالشروق لأكتشف حزن العالم الذائب. وجاءني بعد الغروب خبرٌ تغيب عن دلالته الشمس، شاحب كوجهي الذي أخفيته، مثل الحياة وخيوط الانتظار مبذولٌ لأسمّن كتب التاريخ بسيرة الوجع، وأقبر أقنعتي كي تتوالد السير. قيامي بعد سقوطي قيامة، وأعرف أنّ اسمي يرادف الضياع وفنّي يرادف الألم والفقدان (اذكروني لو حرّكت الرّياح غصنًا وصاح عصفور بريءٌ

سأكون محتاجًا لأن تذكروني).

رغم بصيرته لم ير القارئ أنني كشفت عن قناعي الأخير ذلك الذي عندما أزيله أستطيع أن أتنفّس مع الصبح الذي لا يشبه سواه ذلك الذي أُزهر فيه مرّة أخرى.

ماء اسمي الذائب في جمرة النسيان، أشربه قبل نومي كلّ ليلة، أمدّ من خيالي الجامح أبوابًا خفيّة بين الأكوان، ومن صوتي ضياعًا يولد منه العالم من جديد.

***

أمين صباح كُبّة

 

 

امرأةٌ غريبةُ الأطوارِ

والأسرارِ والأقدارِ

والهيئةِ والأحلامِ والمزاجْ

لا أعرفُ تاريخاً لها

وما استطعتُ أنْ افكَّ

شفرةَ قلبِها وروحِها الغامضةْ

*

كُلَّما ألتقيها …

ذاتَ مقهىً شرقي

او ذاتَ نزهةٍ

على ضفافِ بحرٍ صاخبٍ

وربَّما في أحدى الحدائقِ الفردوسية

او في احدِ "الباركات" الباذخةِ بالخضرة والعشّاق

وأراها احياناً في  "الكافيهات" الدافئة، وفي الغاباتِ الغامضةْ .

قلتُ: كُلَّما التقيها او اراها

بمحضِ مصادفةٍ،

أتعمَّدُ أنْ أَتحدّثُ

معَها عن اشراقاتِ الأملِ

وهالاتِ النورِ التي حتماً

ستسطعُ في صباحاتِ الوجودِ

وفي آخرةِ الأنفاقِ

وفي متاهاتِ النفاقِ

والشقاقِ والشقاء .

وسيجيءُ الزمنُ وكائناتُهُ النبيلةُ

وسيطردونَ كل َّ هذا الظلامِ والسخامِ والأسى

من قلوبِ البشرِ المصابةِ

بالسوادِ والأمراضِ والضغائنِ والكراهياتِ والسمومِ

والفراغِ الذي ليسَ لهُ

نهايةٌ ولا مدى

*

اقولُ لها: الحياةُ لمْ تزلْ

قابلةً للحياة

والحبُّ يُمكنُ ان يكونَ

خلاصَنا الأخيرْ

ولكنَّها فجأةً تصرخُ في وجهي

وفي " الكافيهِ "

التي أُجالسُها فيهْ

وفي الشارعِ الذي نمشيهْ

وفي المدينةِ التي نقطنُها

حيثُ كلانا وحيد ومُغترب

في آخرِ بحارِ ومحيطاتِ

وأرضِ اللهْ

*

واقولُ لها: العالمُ رُبما الآنَ

او غداً سيتغيّرُ نحو الافضلْ

او نحوَ الأرذلْ

فتقولُ لي: انتَ لستَ

سوى طفلٍ حالمْ

وشاعرٍ واهمْ

فدَعْكَ باحلامِكَ

واوهامِك البسيطة

وأتركني وحيدةً

قبلَ ان انادي عليكَ شياطيني

ووحوشَ جنوني

وجنيّاتي الاسطوريات

كي يرموكَ في غيابةِ البحرِ

أو في متاهةِ الجنون

*

اقولُ لها: أهدأي ارجوكِ

عن ايِّ شياطينْ

ووحوشٍ ومجانينْ

وجنّياتٍ وخرافاتٍ وأساطيرَ

انتِ تحكينَ وتهذينْ

فتصيحُ بي هادرةً:

على طريقةِ ساحراتِ " ماكبث "

ومحظياتِ " جلجامش"

وعواصفِ " الملك لير "

- اخرسْ يااااااانتَ

وأغرب عني

فأنا (عشتارُ) العالمِ السفلي و(إلكترا) الزمنِ الرملي

و(فاطمةُ) القهر العربي

و(خنساءُ) الغدرِ البدوي

و(زينبُ) الظلمِ الدموي

والسبايا والضحايا

وخياناتِ العُتاةِ والطُغاةِ

والجُناةِ والزناةِ

في هذا الكونِ المجنونْ

وانا عرّافةُ العالمِ الآيلِ

للسقوطِ والخرابِ والفناء .

ولا أُريدُ أنْ أُضيّعُ نفسي ووقتي

ولا ارتضي لكَ أَن تُعكِّرَ مزاجي

بأوهامكَ وأحلامِكَ الطفولية

فأذهبْ بعيداً يافتى

قبلَ أن أُفْني وجودَكَ

وأُخْفي خبرَكَ وذِكْرَكَ

في متاهةِ الغيابِ

أَو:

في هاويةِ العدمْ

***

سعد جاسم

كندا في تموز - 2022

ادمنت على افيون الشعر

وتهت بين ادغال القوافي

الملتفة الامواج والبحور

وصرت كغراب على الاطلال

اندب حظي

لا احد يراني

بين خطوط الكف

ورسم الكلمات

وشظايا فنجان مهشم

*

وفي صحبة الالم

امشي مبتور القدمين

اراوغ الارصفة

وازقة الضباب

ودهاليز الايام الطائشة

*

اتهرب من ظلي

فيذهب معي الى كل مكان

اختفي وراء شجرة

فتشي بي غصونها

الى اشعة الشمس

*

كل مرايا الدنيا

تفر من وجهي

وانا عائد في آخر الليل

لفت نظري قط جريح

كان يتضور جوعا

تحت انقاض

بيوت مقصوفة

*

في حديقة الشعراء المنبوذين

رأيت الفيلة ترقص على جثة الاسد

والذباب يسخر من الفريسة

ويتأفف من عفونتها

*

منذ ذلك الوقت

ولغاية الآن

لا فرق ان اكون ولا اكون

هذا الرهان الخاسر

الذي لا يزاحمني فيه احد

*

تجاعيد عميقة

تربض على وجهي

وملامحي البوهيمية

ظاهرة للعيان

فلم ينتبه الي احد

دون ان اعرف السبب

*

لا غبار اليوم

على شعراء الامس

طالما بحثوا عن قافية جديدة

في بحر من بحور الفراهيدي

عبثا يبحرون بمراكب بلا اشرعة

*

المنافي القاسية

الرابضة بين الجمر والرماد

تحثني وتجذبني

فكيف الوصول اليها

والامواج الصاخبة

تعج بالمجاذيف و قوارب الموت

وجثث بلا اطواق النجاة

*

فليس عجبا

ان يتجاهلني الهدهد

وأما الببغاوات فمآلها الزوال

*

واذا لم يراني احد

فاللوم يقع على نسيج العنكبوت

وخيوط الشمس والغربال

***

بن يونس ماجن

 

كان مصرّا على أنَّ الحاكم لا يخطئ، وأنَّه مندوب من الله لحكم هذه البقعة من الأرض لفترة من الزمن لا يعلمها البشرُ، وليس من حقهم معارضته، لأنهم بذلك يخالفون إرادة من ندبه!

طرحتُ عليه سؤالا بسيطا:

- ماذا يحدثُ إن جرى قلب حكمه في ليلة ما؟

- هذا لن يحدث، إنه بحماية الله، ألا تفهم؟

- سؤالي افتراضي، إن حدث ذلك، لا سمح الله، فهل ستحتفظ برأيك بأنه نائبُ الله على هذه الأرض البائسة؟

- أنت تهذي، هذا لن يكون، ولا يمكن تصوره، ستكون علامة على اقتراب الساعة.

- أنت تنسى أنه وصل إلى حكم بلدستان بانقلاب عسكري، ولن يذهب إلا بالموت الطبيعي أو بانقلاب؟

نظر إليَّ ماهر شزرا، وقال لي بتهديد واضح:

- هل ستتفضل بإعادة ما قلتَ لي أمام ضباط المخابرات؟

- قد يكون الأمر صعبا، بل مستحيلا بالفعل، ولكن هذا يدحضُ نظريتك عن الندب الإلهي، إنه بحماية رجال المخابرات إذن، وليس بحمى الرحمن!

- أنتَ مجادل و سفسطائي، ميولك المعارضة أصبحت تقلقني، لا أعرف من زرع في رأسك هذه الأفكار السيئة، لو كنتُ أعرفُ أنك جديٌّ لما ترددت بالإبلاغ عنك، ولكنك صديقي، وأعرف أنك تمزح.

- أنا لا أمزح، أطرحُ أسئلة مشروعة.

انتهى النقاش عند هذا الحد، كان ماهر من ذاك النوع من مثقفي الجرائد اليومية الذي يحتفي بالاستقبال والتوديع، ولم يقرأ، على ما أعلمه، كتابا واحدا أو بحثا جديا لا في السياسة ولا في الاجتماع أو الفلسفة.

دراسته في كلية الزراعة اقتصرت أيضا على المقرر الدراسي، كان ذلك العام في السنة الأخيرة، علو صوته ناتج عن ادعاء فارغ بالثقافة الواسعة، الصحف الرسمية الثلاث لا تفارق إبطه، وقد يضيف إليها جريدة الرياضة الأسبوعية.

مصدر ثقته العالية بالنفس هو أنه يتبنى حرفيا الموقف الموحد لافتتاحيات الصحف التي يقرأها، يعرفُ تماما أن الخطر عليه من الجدال الحاد مع أصدقائه و زملاء دراسته هو صفر، محميا بالموقف الرسمي الذي يسمح له بالتأييد الأعمى، ويمنع عليه و على غيره أي اعتراض أو معارضة، ولم يكن هذا رأيي وحدي.

مع تقدم ماهر في سنوات دراسته الجامعية، قلَّ عدد أصدقائه، لم تكن السياسة هي السبب الوحيد، الشاب كان بخيلا حد التقتير على النفس، انغلاقه الفكري كان انعكاسا لموقف شامل من الحياة حيث لا مخاطرة ولا خروج عن الطريق المرسوم، إيثار السلامة هو الخط الذي لا يُحاد عنه.

لم آخذ تهديده بالوشاية بي على محمل الجد، ليس لشجاعتي المفرطة، فقد كنت بلا شك أخاف من هذا الاحتمال، ولكن لمعرفتي العميقة بماهر والتي مضى عليها آنئذ خمس سنوات.

كنتُ واثقا أنَّ صلتي به ستنتهي بعد أشهر قليلة عندما يتخرجُ كلانا، ولن يجمعنا شيء بعد أن لمَّتنا صدفة السكن الجامعي المشترك.

كان ماهر شديد الحساب للمخاطر، أو لنقل إنه كان مدركا بدقة للخطوط الحمر الموجودة بالفعل أو المتخيلة، لذلك لن يذهب إلى فرع مخابرات لينقل له كلامي المحرَّم حسب رأيه، الأسئلة التي سيتوقع مواجهتها من نوع: لماذا لم تخبرنا قبل ذلك، وما رأيك أنت بما يقوله صديقك، وكيف استمرت صداقتكما كل هذه السنوات، ثم أنك تعلم أنه ابن عم لمسؤول شيوعي، فكيف قبلت السكن المشترك معه، وأسئلة أخرى...

2

بصوت جهوري مليء بالفخر والجدية، ألقى المذيع ذاته الذي مجَّد الزعيم السابق طوال فترة حكمه الطويلة البيان رقم واحد:

" استجابة لتطلعات شعبنا في بلدستان، وكل بلاد ستان، قام العقيد أديب الشيشكلي صباح اليوم الإثنين التاسع عشر من كانون الأول بحركته الثورية، وقد تم إلقاء القبض على أركان النظام البائد ورأسه مغتصب السلطة والقرار، وسيحالون جميعا إلى محاكمة عادلة جرَّاء ما اقترفت أيديهم من جرائم وفساد، ونذِّكر الأخوة المواطنين بضرورة توخي الحذر، وتلقي التعليمات من الإذاعة الوطنية، وعدم الإلتفات إلى وسائل الإعلام المعادية والمغرضة".

لم يكد المذيعُ ينهي قراءة بيانه حتى أحسستُ بالخلاص، كأنَّ معصمي تحرر من قيد ثقيل، ورأسي من خطر محدق، كان إثباتا لما حاولت قوله لماهر، لم أكن مؤيدا لانقلاب الشيشكلي ولا غيره، فهذه الوسيلة بالوصول إلى الحكم ستجرُّ البلاد إلى هاوية لا قرار لها.

اهتمامي توجه إلى ماهر، المؤيد غير المشروط، كان ممثلا لحالة واسعة الانتشار أكثر منه فردا، أولئك الذي يمارسون حقهم في التأييد الأعمى، ويسلبون حق الاعتراض ولو كان شكليا وواهنا من أي شخص آخر.

كنتُ مستلقيا في سريري الصغير حين وصل ماهر كعادته، ورمى بحركة استعراضية الصحف اليومية على مكتبه، عبوسه المصطنع للجدية لا يفارق وجهه، لم أنتظر حتى يلتقط أنفاسه، اصطنعتُ جدية مشابهة، بل تقمصتُ دوري بما استطعت من إتقان:

- ماهر، هل عرفتَ بما حدث، أنا أفهمُ شعورك، والأمر جلل بالفعل، وغير متوقع البتة؟

- هل اتصل أحد من أهلي، أبي، ما به، هل مات، أعلم أنه مريض، لكن أمي قالت أنه مجرد زكام عابر؟

امتقعَ محيَّا ماهر، ترنح، وكاد يسقط، سندتُه، وساعدتُه على الجلوس على أقرب كرسي.

- لا، أهلك بخير.

تنفس ماهر الصعداء، وقبل أن يستعيد بطره الاعتيادي، عاجلتُه بباقي الخبر:

- الأمر أكثر خطورة، يتعلقُ بسلامة البلد كله، لقد حدث ما حذرتك منه.

-  قل، توقف عن تنقيط الخبر كماسورة مياه معطلة.

تملك الذعر ماهر، وأدركت أن التأثير المطلوب قد نال من قواه.

- فهمتُ من ملامحك العادية حين دخلت أنك لم تسمع بانقلاب اليوم؟

- أي انقلاب، أين؟

- هنا في بلدنا، بلدستان.

لقد قام ضابط اسمه أديب الشيشكلي بانقلاب عسكري، وأطاح بالحكم وأزلامه؟

- الزعيم، ماذا حدث له؟

- انتبه، لا تذكر اسمه من الآن فصاعدا، إنه في السجن، وينتظر المحاكمة.

بدا ماهر لأول مرة ضائعا، نقاط استناده الثابتة تضعضعت، أكثر من عشرين عاما من الموالاة هبت عليها الريح، ما ظنه أبديا أضحى الآن عبئا ثقيلا، عالمه الثابت المطمئن انهار فجأة، سفينته المبحرة بهدوء في البحر الساكن عصفَ بها نوٌّ ثقيل.

- من أديب الشيشكلي، لم أسمع باسمه من قبل؟

- إنه ضابط كبير، ولكن على ما يبدو كان في الظل، ويتحين فرصة للانقضاض على الحكم.

انتصبَ ماهر على قدميه، وأظنه كان شاخصا عمَّا حوله، مشى خطوتين، استدار، نظر عبر النافذة المفتوحة، كان كل شيء عبرها كما عرفه، مرور الطلاب أمام السكن، الرتابة ذاتها، لكن ما حدث قلب كيانه حتما، حار ما يصنع، هل يذهب للاتصال بأهله من مكتب البريد، أم ينزل إلى الشارع ليتقصى الحقيقة على الأرض؟

حمل إحدى الجرائد الرسمية، رأى صورة الزعيم على صفحتها الأولى، ولكنه فهم أن الانقلاب قد حدث بعد صدورها بقليل.

بدا، بعد تلك الدقائق الثقيلة، أنَّ ماهر قد استوعب الصدمة، التزمتُ الصمت ولم أشأ ان أزيد عليه العبء.

أمسكَ بالمذياع، أدار الإبرة على المحطة الرسمية، كانت فترة العصر مخصصة للأغاني الطربية، لم يكن ماهر بحاجة للتذكير بتجنب المحطات المعادية، كانت أم كلثوم تغني: "عودت عيني على رؤياك"، تركها ماهر تتابع الأغنية ولم يكترث بسماعها رغم عشقه لطرب الست.

- لدي حلقة بحث مشتركة عند الخامسة مع زملاء بالكلية، لا بدّ من الذهاب، هل أعلنوا حظرا للتجول؟

- لم يذكر البيان ذلك، كن حذرا على كل حال.

خرج ماهر لا يلوي على شيء، تناسيت الانقلاب، وانشغلت بدراستي، وأذني تصغي بذات الوقت إلى الأغنية الجميلة.

3

عاد ماهر من حلقة البحث، كان أقل توترا، طرحتُ عليه سؤالا فوريا:

- هل تحدثت مع الرفاق عن الانقلاب؟

- بالطبع لا، هل أنا مجنون، في الفترات الانتقالية وحتى نفهم ما يحدث، علينا أن نغلق أفواهنا لنحفظ رؤوسنا.

لم يخيب ماهر عمق معرفتي به، وبردود أفعاله على الأحداث.

- لنستمع إلى نشرة السابعة مساء، لا بدَّ أن يعيدوا البيان رقم واحد، أو يصدروا البيان رقم اثنين.

ألصق ماهر يده بالمذياع وكأنه يريد أن يشعر بأمان ما يستمده من الأخبار التي ستخرج منه، ما أشدَّ استغرابه حين سمع المذيع يكرر ما قاله عند الصباح عن استقبال الزعيم- السابق-  لضيفه الكبير.

لم يستوعب ماهر ما سمعه بعد، ظل مذهولا لدقائق، ولكن اندهاشه تبدد حين سمع المذيع ذاته يكرر أحداث الماضي القديم في لاحقة الأخبار:

"حدث في مثل هذا اليوم من عام ألف وتسعمائة وتسع وأربعين: قيام أديب الشيشكلي بانقلاب عسكري، واستيلاؤه على السلطة".

نظر إليّ ماهر وعاتبني:

- قلت لك، لا يقدر أحد على القيام بانقلاب في بلدستان.

رغم  تظاهره بفهم مزحتي السمجة، والتي خطرت على بالي وأنا أستمع إلى برنامج حدث في مثل هذا اليوم، لكن ثقة ماهر بأفكاره الثابتة لم تعد كما كانت، لم يعترف قط بأنّه لم يسمع باسم الشيشكلي أبدا لأن تاريخ اهتمامه السياسي بدأ مع زعيمه.

لم يتخلَ ماهر عن مناكفته لي فحسب، بل تخلى عن صداقتي تماما، فقد ترك السكن المشترك بعد أقل من أسبوع حين أدرك، وأعترف أمام نفسه، ولو دون إعلان صريح أنه وقع في شرك أفكاره.

4

بعد عشرين عاما:

لم أرَ ماهر أبدا منذ ذلك اليوم إلا الأسبوع الماضي حين كنتُ في دائرة حكومية، لم يسلم عليّ، وتجاهلته أيضا، قبل أن يخرج من المكان رفع رأسه، و نظر إلى الصورة الرسمية التي تعتلي الحائط خلف الموظف، أراد ماهر أن يوصل لي الرسالة ولو دون نطق بأنه كان على حق.

***

فراس ميهوب

2021/06/27

ألقيت بنصف

الليل داخل خزانتي

وفتحت

الباب على يوم جديد

وقلت سأتبرع

بنصف

أحلامي لشمس

قصت ضفائرها

حزنا

على فوضانا

نزلت الى الشارع

سرت في طريق يملأه الوحل

لا بأس

لن أحزن..

لن أفسد صباحي

وطعم الشوكولا

مازال  في فمي

ان هي الا مطر

مختلط بالتراب

والترب اخ غير شقيق للتبر

نحن من تلاعب بالحروف

ولكن بسبب اللون

وعنصرية البشر

منحنا الذهب

مكانة

أرقى

واصلت السير

وعندما توغلت أكثر في

الوحل

قلت

علي أن أتوقف عن الفلسفة

سأفرط في النصف المتبقي

من أحلامي بالبيع

لأشتري أربعة

عجلات و مقود..

من يشتري!؟

***

بقلم: وفاء كريم

فَرْقٌ كَبِيرٌ بَيْنَنَا يا سيدي

فَأَنَا مُحَافِظَةٌ وَأَنْت جسور

سعاد الصباح

***

عبابُ البياض يجتاحني

كما قطرات حزنٍ

يسجنني بين خطى الريح

أنا المسافر...

إلى أرض بلا عنوان

وحده طينُ حلمي

ينتعلنِي

كي ألقاني.

1

بينِي وبينهَا نقطتَا ندًى

ـ "آسفة سيِّدِي .." قالت

وانقسمَ الهواءُ بيننَا

واحدٌ فيه عِشقي

والآخرُ لهَا

يتسكعُ فيه اندِثَاري

وأنا أذُوبُ في أحْدَاقِهَا.

2

مثلَ الشتاءِ تعبرُ خلايايَ

تنثُرنِي قمحًا للهواجسِ

وقلبِي قَدَحٌ

مُعَطرٌ بِبُنِّ الشوقِ

يشربُ منهُ صَمْتُهَا

كيف أُلَمْلِمُ ذُبولِي

وهيَ تجلسُ بينَ انكسَارِي

ومَلاَمِحي تُهَرْوِلُ نَحْوَها؟.

3

معطفُ الليلِ يرتدي وجعِي

وهذه القصيدةُ

تقدُّ قميصِي من قُبُلٍ

أصعَدُ فِي كُلِّ الصَّرَخَاتِ

مُهَاجِرًا فِي جَسَدِي

تَفِرُّ مِنِّي يَدَايَ نَحْوَهَا

هي الحيرةُ تحمِلُ حقائِبِي

تسْرقُ نهَاري مِنِّي

فأرانِي وَتَرًا بينَ كَفَّيْهَا.

4

مُسافِرٌ

أَرتَعِشُ من هَذَا التِّرْحَالِ

تتَّسِعُ أَزْمِنَتِي

وكأَنَّ حَبِيبَتيِ تَطْرُقُ بَابَ حَوَاسِّي

لكن الأرَقَ يُمْسِكُ بي

وأنا أهُمُّ بفتحِ أزْرَارِ المَاءِ

يَشْنُقُنِي عَطَشٌ

وأنَا أبحثُ عَنِ الظّلَال

فَتُغْلِقُ الأحْلاَمُ أبْوَابَهَا.

5

نَايُ المساءِ يُنَادِمُني

وهذا الأَنِينُ المنهمرُ من أصَابِعِي

يقرأُ ضوضاءهُ غُربَاء

عَبَرُوا أدغاَل الْعَتَمَاتِ

قالوا:  ـ لا تَخَفْ...

كانتْ تأوهاتُ صَدْرِي

ألواح عِشْقٍ

اَربَكَتْنِي قَصَائِد مَنْ مَرُّوا

تَجَوَّلْتُ فِي تَضَارِيسِهَا

فَهَرَبْتُ إِلَيّ

أُصْغِي لِنَهْرِ دَمِي

يَكْتُبُنِي ظِلاًّ بَاهِتًا

لاَ أَرَى فِيهِ

غَيْرَ اُضْطِرَابِي وَحُسنِها.

6

وأنا أنسلُّ مِنِّي ذَات صباحٍ

قلت: ـ  "سأمتطي صَهْوَةَ اعتِرافَاتِي

عَلَّها تسمعُ تنهيدةَ مُدُنِي"

تَأَّنَّقْتُ بِغُبَارِ الوَهْمِ

وَنَادَمْتُ عِشْقَهَا.

7

حَفظْتُ عنْ ظَهْرِ قَلْبٍ

كُلَّ شِعَابِ اُلْهَوَى

وَعَمَّتْ ضُلُوعِي سَكينَةٌ

وأَنَا أَقْرَأُنِي بَيْنَ سُطُورِهَا.

8

كَانَ القِطَارُ يَحْسُو شغَفِي

فَرَّتْ خُطُوَاتِي نَحْوَها

وأنَا أبْحَثُ عَنْ عَبِيرَها

لكِنِّي لَمْ أَجِدْ غيرَ عوِيلٍ

يضُجُّ بهِ مَكَانُهَا

ـ يا لَيْتَنِي اعترفْتُ

لِكُحْلِ عينيْهَا

بأنِّي أعْمَى يَقُودُنِي هَوَاهَا

فربَّمَا انبَلجَ نُورُهَا

وقالتْ: سَنَلْتَقِي...

***

نجاة الزباير - المغرب

 

الحَصِيّْفْ!!!.

قَالَ لي حِمَاري صَاحِبُ التَّنبُؤآتْ.

يَا ابْنَ (سُنّْبَه)، أَ لكَ عِلّْمٌ بِمَا هُوَ آتْ؟.

وَ هلّْ تَدري بِمَا تَحمِلُ الأَيَامُ مِنّْ مُصيّْبَاتْ؟.

قُلّْتُ:

أَنّى ليَ العِلّْمُ، فَلَسّْتُ مِنْ أَهلِ الكَرامَاتْ.

قَالَ حِمَارِيَ العَزيْزِ:-

دَعّْني أُخّْبِرُكَ بِمَا ليّْسَ لكَ بهِ عِلّْمٌ ولاَ إِحَاطَاتْ.

قُلّْتُ:-

يَا حِمَارَنا الجَليّْلِ قُلّْ .... لاَ تَثريّْبَ عَليّْكَ ولاَ جِنَايَاتْ.

وَ القَوّْلُ لَيّْسَ مِنَ الممّْنوعَاتْ.

قَالَ حِمَارُنا الحَصِّيْفِ:-

يَأْتي زَمانٌ على أَهلِ دِجلَةَ والفُراتْ.

تَظْهَرُ فيهِمّْ إِمّْرأَةٌ اسمُها (بلاسخارتْ).

تُصاحِبُها سَفيرةٌ مِنْ بلادِ (اتّْحادِ الولاياتْ).

هُنَّ على الآراءِ مُتَّفِقاتْ.

وَ بأُمُورِ السِّياسَةِ عَليّْمَاتْ.

وَ قَراراتُهُنَّ نَفّْسُ القَرَارَاتِّ، مُتَطابِقَاتٍ مُتَناسِقَاتْ.

أَصّْبَحنَ بالعِراقِ هُنَّ الآمِراتِ النَّاهِيَاتْ.

إِذا أَشَارَتّْ إِحدَاهُنَّ بأَصَابِعِهَا المُخَضَّبَاتْ.

صَارَ الأَمْرُ أَمّْراً كالآيَاتِ البيِّنَاتْ.

وَ العَامِلُ بهِ كالعَامِلِ بالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتْ.

فَلا مَنَاصَ مِنْ تَنفيّْذِ أَمْرِهِنَّ مِن بَعّْضِ رِجَالِ السِّيْاسَاتْ.

وَ بغمَزاتِهِنَّ يَتحرَكُ كُثّْرٌ مِنْ أَهلِ الزَعَامَاتْ.

ابتسَامَاتُهُنَّ لَها مَقَاصِدٌ وغَايَاتْ.

يَعرِفُ أَسْرارَهَا بَعّْضُ الرَجَالاتْ.

وعُبُوسُهُنَّ لَهُ دَلالاتٍ وإِشَاراتْ.

يَفّْهَمُهَا بَعّْضُ أَصّْحَابِ الرِّيَاسَاتْ.

إِذا انّْزَعَجَتّْ إِحّْدَاهُنَّ؛ فإِنَّها تَمّْحي قِيَادَاتْ.

وَ إِذا فَرِحَتّْ إِحّْدَاهُنَّ؛ فإِنَّها تُحْيي سِيَادَاتْ.

قُلّْتُ:

يَا حِمَارَنَا المُفَدَّى بالرُّوحِ والقَلّْبِ والمُقُلاتْ.

وَ مَا تَكليّْفُنَا في تِلّْكِمُ السَّاعَاتْ؟.

قَالَ حِمَارِيَ العَليّْم:-

مَنّْ أَدرَكَ مِنّْكُمّْ تِلكَ الفَاجِعَاتْ.

فَلا يَعّْجَبُ مِنْ ارتِفَاعِ سِعّْرِ الدُّولاراتْ.

وَ ليَبّْشِرْ بِغَلاءِ الحَاجَاتِ، وقِلَّةِ الخَيْراتْ.

وَ يَكّْثِرُ بَيّْنَ الشَبَابِ تَعَاطِي المُخَدَّراتْ.

وَ تُعَطَّلُ أَرَاءُ أَهلَ العِلّْمِ والخِبّْراتْ.

وَ تَشِيّْعُ بَيّْنَ النَّاسِ كَثيّْرٌ مِنَ السَّخَافَاتْ.

وَ تُنّْهَبُ أَمّْوَالُ الشَّعّْبِ وتَضِيّْعُ الثَّرَواتْ.

وَ يَكّْثِرُ فِيْ الشَوَارِعِ المُتَسَوِّليْنَ والمُتَسَوِّلاتْ.

وَ تَتَفَّشَى البَطَالَةُ بَيّْنَ الشَبَابِ والشَابَّاتْ.

وَ يَكّْثِرُ شُرّْبُ الخَمّْرِ وتَزّْدَهِرُ الحَانَاتْ.

فَمَنّْ أَدّْرَكَ تِلّْكَ السَّاعَاتِ وهَذِهِ البَليّْاتْ.

فَليَلْزَمّْ طَريّْقَ الحَقِّ، فَالعَيّْشُ بدُونِهِ هَيّْهاتَ هَيّْهاتْ.

قُلّْتُ:

فِدَاكَ نَفّْسِي مِنّْ عَليّْمٍ بِالغَايَاتْ.

فَقَدّْ ضَاعَ العِراقُ في زَمَنِ الحُريّْاتْ.

وَ ضَاعَ أَهْلُهُ بَيّْنَ السِيَاسِيّْينَ والسِيَاسِيّْاتْ.

ضَاعَ الجَميّْعُ بَيْنَ النَاهِبيْنَ والنَّاهِبَاتْ.

تَعَالَ يَاحِمَارِيَ النَّبيّْهِ؛

دَعّْني أُقَبِّلُ جَبيّْنَكَ والوَجَنَاتْ.

أُقَبِّلُ ثَغّْرَكَ؛ ذَا الحِكَمِ البَليّْغَاتْ.

يا ليّْتَ رَبّْي يَمّْسِخُني حِمَاراً لأَكُونَ مِنّْ أَهْلِ الدِّرايَاتْ.

***

مُحمَّد جَوادّْ سُنّْبَه

- انتبه أيّها السيّد. سحق حذاؤك قدمي.

التفت السيّد إلى مصدر الصوت المشبع بالألم والأنين وصرخ:

- ليتني سحقت جسدك يا نذل، كدت تسقطني لولا عصاي وكلبي، يا لك من عبد حقود.

- أقسم لك يا سيّدي، أن حذاءك الجلدي الصلد، المستورد، قد رفس قدمي الحافية.

- لا تقسم أيها الجرذ النتن. أردت عرقلتي بغرض إيذائي وإسقاطي أرضا لأمسي محل سخريّة أمام المارة من أمثالك.

- لا، أيها السيد، أنت الذي أردت إيلامي دون سبب. وكأنّ الواجهة ملكك، والطريق طريقك.

- وتطيل لسانك أيضا. ومهما يكن فأنت لست أهلا للحديث مع أسيادك. هذه عاقبة تقصير المسؤولين عن هذه الواجهة البحريّة الجميلة. كان عليهم أن يخصصوها لنا فقط. أما أنت فإنك تفسد علينا متعة التنزّه. تلوّث نسائم البحر، وتستهلك الأوكسجين دون فائدة.

- أيّها السيّد. بدأت قدمي تؤلمني. انظر إلى كدمات حذاءك الخشن.

و رفع مولود قدمه كي يراها السيّد، لكنه تجاهل الأمر ونهره قائلا:

- الكلاب هي التي ترفع رجلها عند التبوّل.

- أنا وأنت من تراب، ووطننا واحد، ومصيرنا واحد.

- صه، ماذا تهذي يا مغفّل؟ ألا تعلم من أنا؟

انتابت السيّد نوبة قهقهة. بينا طوقت الدهشة ميلود وسمّرته الحيرة.

ـ2ـ

 كان السيّد بدينا، ذا وجنتين متوقدتين كأرجوان الأصيل.على جسده بدلة سوداء براقة كبدلات السحرة، وربطة عنق متدلية على بطنه المنتفخة كبطن حامل في شهرها التاسع. بطيء الخطو كمن يتمشى على كثيف رمل. يتوكأ على عصا بديعة الشكل واللون، وكلبه أمامه.

قبل أيام زاره طبيبه في قصره. وبعد فحصه بدقة وعناية أخبره:

- نسبة الكولسترول عالية، والسكر فوق المعدل.وهذا خطر على حياتك.

- لكنني لم أوقف الدواء يوما.

- لا مفرّ لك من الحمية. الدواء وحده لا ينفعك. الوقاية خير من العلاج يا سيّدي.

 واستفاض الحكيم في الشرح. وكتب له وصفة من الممنوعات، كاللحم والدجاج وطائفة من السكريات، والأطعمة الفاخرة.

- سوء التغدية لا تعني الندرة فقط يا سيّدي، بل الأكل بشراهة، ودون ضوابط. كل ما زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه، يا سيّدي.

 تفحّص السيّد الوصفة. امتقعت سحنته. رمق الحكيم من خلف نظارته، ثم ردّد:

- وماذا آكل إذن؟ لم تدع لي شيئا ممّا أشتهي.

- عليك بأكل النخالة، والإكثار من شرب الماء، والمشي كل يوم، والأفضل أن تتمشى على واجهة البحرلاستنشاق نسائمه.

- ولكنّني أحب الأكل. بماذا سأملأ هذه البطن؟ أأعذبها؟

 وقبل المغادرة، أوصاه بوجوب الالتزام بالحمية، والسير بكرة وأصيلا، وإلا فاض شحمه، وتوقف قلبه واختنقت رئتاه، وكان مآله الموت.

 لما تناهت إلى سمعه كلمة (موت) ارتعدت فرائصه، واقشعر بدنه حتى نضح جبينه عرقا باردا. ثم قال:

- حاضر يا حكيم. سأفعل.

ـ3ـ

لم يتعود المشي أو التنزّه على واجهات بحر بلاده. ربّما هي المرة الأولى أو الثانية. لولا إلحاح الحكيم. كأنّ نسائم بلاده لا تروق مقامه. كم من واجهة بحريّة إفرنجية عرفها، منذ علت به الدنيا، وأصبح من رجالات الأعمال في بلده. وينعتونه بالمليونير ؛ صاحب (الشكارة) فنسائم بلاده في نظره لا تصلح إلا للفقراء والمعدومين.

 لم يولد غنيّا. ولم يرث مالا وفيرا عن أبيه، ولم يتملّك معملا، أو مزرعة، أو قصرا، أو مجرد دكان، ممّا خلّفه المحتلون الأوربيّون وراء ظهورهم، عندما رنّ جرس الاستقلال والحرية. لكن الفتى صفوان - الذي أصبح سيّدا – والذي ارتمى ذات ليلة في أحضان العاصمة، حافيّ القدمين، أشعث الشعر، طاويّ البطن، ناسيّا خبز الشعير، وكسكس البلوط، وحبيبات الزيتون المنقعة في الماء والملح والبسباس البريّ، وكوخ أبيه الذي لطالما حاصرته الخنازير. ناسيا أيضا قرّ الشتاء، وعواء الذئاب، وصفير الريح الشرقية المشبعة بالرطوبة، وروائح العرعار والصنوبر الحلبي.

 دخل ماخور السياسة. وقد لا تأتي الفرص إلا مرة واحدة، كما يقال، وباسم النضال، أصبح مجاهدا وهوالذي لم يطلق رصاصة واحدة على المحتل. كانت رصاصته الوحيدة تلك التي أطلقها ذات مساء على كلب الجيران. أتقن فنون الكذب والمجاملة والتملق والتسلق والتملص والنميمة والخداع والديوثة. وألفى نفسه مديرا عاما برتبة وزير. امتلأت جيوبه، وطالت مخالبه، واشتدّ عوده، ونبتت له شركات أمام البحر ووراءه. من يحاسبه؟ فالسيّد صفوان لم يأخذ إلا حقّه. لم يضع يده في جيب أحد. بل هو ريع البايلك اقتسمته النفوس الجشعة، الطمّاعة. أما مولود فلا يعدو كونه خرقة بالية موضعها القمامة. مواطن بلا مواطنة. واجبه السمع والطاعة والقناعة والصمت. وإن تكلّم فلا يتعدى حدود الهمس. وإلا هوت على دماغه العصا الغليظة. ليته ولد أخرس حتى لا يزعج السيد صفوان بصوته الخشن.

 وللتذكير فقد سقط مولود منذ أسبوع فقط مغشيا عليه أمام مدخل البلدية. حملوه إلى عيادة كل الناس، والتي يأتيها الطبيب متأخرا، متثاقلا مرتين خلال الأسبوع. فحصه على عجل، وأمطره قائلا:

- أنت تعاني من سوء التغذية.

- عليك بالأكل.

وذكر له قائمة من المأكولات كاللحم والأسماك والفواكه المحلية والمستوردة وووووو

فتّش عن مهرب أملا في الإفلات من شباك الحقيقة المرّة، الدامية.

- ليست لي شهية يا حكيم.

- صحتك في الأكل ياهذا. سأسجّل لك أدوية تفتح شهيتك.

 وكادت القطرة أن تُفيض كأس أحزانه، وتدغدغ رواكد همومه. أيبوح له بمكنونات يومياته؟ أيفتح له كراسته السوداء سواد حبات التوت البرّي؟ أيعترف له، أنّه لم يذق طعم اللحم والدجاج والسمك منذ مدة؟ أيقول له، أنّه نسيّ مذاق الموز والتفاح والجبن؟ ولولا أكياس الحليب التي يقف من أجلها في الطابور ساعات، لكان الدود قد نسيّ طعم جسده النحيل. قد لا يصدقه، ويتهمه بالافتراء وكفر النعمة. ويقول له: أنت إنسان طمّاع وحقود وكذّاب. لقد منحتك الحكومة عملا وبيتا وبطاقة شفاء وأبناؤك يتمدرسون ويأكلون مجانا ويذهبون في حافلة النقل المدرسي يوميا ويعودون. ماذا تريد أن تفعل لك الحكومة؟ تزوّجك بامرأة ثانية؟ تعطيك مالا وأنت نائم في حضن زوجتك؟

 ونبح كلب السيّد صفوان. يبدو أنّه لم يستظرف المكان. قال السيّد:

- أيّها الشرطي دوّن:

 ـ قبيل غروب شمس هذا اليوم، تعرّض السيّد صفوان - والذي كان يتنزّه رفقة كلبه – إلى اعتداء سافر. حيث وضع أحد الجرذان قدمه تحت حذائه الفاخر بغرض إسقاطه. ولولا لطف الله ورحمته، لوقعت المصيبة. وقد كانت نية هذا المخلوق كسر ظهري وفقر بطني وقتلي. وذلك بسبب دوافع الحقد الطبقي. اكتب كل شيء. لا تغفل حرفا واحدا. أفهمت؟

و نبح الكلب ثانية: (هوهوهو)، وكأنه يخاطب صاحبه:

(أحسنت يا سيدي. أدّبه حتى لا يتجرأ مرة اخرى. نحن أيضا في مملكتنا عندنا أمثاله. لو أنّ كلبا من فصيلة هذا المخلوق رفس قدمي، أو عض ذنبي، فمصيره الإعدام).

ثم ربت السيد صفوان على كلبه وقال:

- لا تقلق يا عزيزي. لو كنا نتنزّه على واجهاتنا البحرية هناك، ما أصابنا مكروه. لكن هذا مصير من يتنزّه في واجهة بحرية يقصدها كل من هبّ ودبّ، ولا تقدّر أمثالنا.عفوا إن كنت أرهقتك معي.

و تشمم الكلب ساقيّ مولود، فـأوجس مولود خيفة، وقلبه يعصف غيظا، وتمنى لو خنقه،

 ثم ردد:

- حتى أنت أيّها الكلب النتن. ألم يكفيك ما نالني من صاحبك؟

قال الشرطي بفظاظة:

- لا تتزحزح حتى لا يعوجّ الخط.اثبت جيّدا. دعني أكتب تقريري بهدوء حتى لا أعيده من أوله. لا تتعبني.

وكان الشرطي قد اتّخذ ظهر مولود طاولة لكتابة تقريره.

- عفوا، استمر، ولينكسر ظهري، وتتناثر فقرات عموده الفقري، ويبتلعها البحر.

و أحيا دونه. ماذا أفعل به؟ وإن تعبت من الوقوف، فاركب فوق رقبتي، واكتب ما شئت حتى تشرق شمس الغد. من أنا كي أعترض؟

ثم استدار نحو السيّد صفوان وقال:

- هل تريد إضافة شيء آخر يا سيّدي؟

- لا بد من جعله عبرة لمن تسوّل له نفسه إيذاء أسياده.

- ارحمني يا سيدي، تعبت من الانحناء. ظهري انكسر.

نهره الشرطي قائلا:

- صه يا وقح. أترفع صوتك في حضرة السيّد؟

- ظهري ليس طاولة.

- وهل أكتب على مؤخرتك يا طويل اللسان؟

- أرأيت، أيها الشرطي، كم هو حقود، لا يحترم أسياده ولا الحكومة.

- كان جدّ أبي مجاهدا في جيش الأمير عبد القادر، وأبي استشهد في جبال الظهرة، وأمي طحنت وخبزت وخاطت الأعلام. وأنت، هل كان جدك وأبوك وأمك كذلك؟

- تعب كلبي من الوقوف. هيا انصرفا. أود مواصلة التنزّه رفقة كلبي.

أدرك مولود أنه مُدان مع سبق الإصرار. وأن قانون الواجهة البحرية لا يحميه من كدمات الأحذية الصلدة ورفسها الدامي.

(تمت)

***

بقلم: الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

همسًا يتحدّثُ

كي لا تسمعَهُ الريحُ

وتنقلَ أصداءَ الكلماتِ

إلى صدفاتِ البحر

*

يقولُ لها:

ها قد شَحَّت أمطاري

جفّ النهر

*

ها قد شِختُ أخيرًا...

شِختُ كثيرًا

عيناي تنكّستا

شفتاي تيبّستا

ويداي تشقّقتا

وتقوّس منّي الظهر

*

وتغضّن هذا الجلدُ

وودّع رأسي الشَعر

*

وما هي إلا بضعةُ أنفاسٍ

حتى أُسْبِلَ جَفنيّ ّ

وينسلَّ العمرْ

*

وتُعِدَّ ولائِمَ من جسدي

ديدانُ القبرْ

***

2

وتجاوبُهُ ضاحكةً:

محضُ هُراءٍ!

ما زلت شقيًّا كالصبيان

تشاكسُ عيناكَ نساءَ الأرض جميعًا

من خلفِ عويناتكَ

ما زالت روحُكَ تعدو

متراقصةً

تختالُ كموجِ البحر

وما زال فؤادك

في ريعانِ الشِعرْ

***

نزار سرطاوي

ليس في النهايات ..

بداية مشتهاة

كل الخواتيم ..

كما آخر مشهد

احترقت فيه جان دارك

معقوفة .. على الصليب

لتنيخ الأسطورةُ أحمالها

في حضن الانهيار

تنصب الظلماتُ دهشتها

وتظل الصخرةُ .. على كتف سيزيف

كلما بلغ القمة ..

تدحرجت

يعود .. ليحملها من جديد

تلك عقوبةُ "زيوس " الأبديةُ

يطلع منها السواد .. نشيدا

يهزُّ كل الجهات

انتقاما لآلهة الموت

عند ملتقى السماء بالسراب

نشاغب براءةَ الحلم

في عيون نساء غابرات

سيوفِ رجالٍ ..

يستبسلون توبيخَ المعمدان

في سبيل رقصات ..

تشعلُ الفتنَ

لم تشفع براءةُ سالومي

في إنقاذ يحيي

بل كانت له المقصلةَ

كنا جمهرةً تجيدُ التصفيق

ننظم قصائد التبجيل ..

في ساحات الذبح .. نرددها

على مسمع كاليغولا .. نقرأها

أحلامُ اليسار واجمةٌ

أمام عواصفِ اليمين

محورُ الجسد نقطةٌ حمراءُ داكنةٌ

هي بوصلة الحياة..

وسط هستيريا الكون

الكوابيس .. ليست سهلة الهضم

شُربُ الشِّعرِ لا يساعدُ ..

على ابتلاعها

سماؤنا أنفاقٌ سحيقةٌ ..

للألم الإنساني

وحشةُ اللحظات تتوغل..

في الأجساد العطشى

محملةً بأسرارِ النار

تهاويلَ الاحتراق

بين ضفةٍ ..

ترعى عليها قطعانُ الوجع

وظلالٍ هاربة نحو مصبٍّ مجهول

خطواتُ الغربة ..

لا تبرح الأعماق

الانعتاقُ مكانٌ تحتيٌّ ..

يخفيه النزيفُ....هناك

حيث تدورُ صحائفُ الفصول

بعد قليل ..

ترحلُ الذاكرة

يضحكُ الرماد

ينسى الجميعُ كلَّ شيء :

جان دارك

صخرةَ سيزيف

جدارَ برلين

عددَ الغرقى عند مثلث برمودا

على صفحة التعايش والتسامح

تنفتحُ الظهيرةُ

تنسانا القصائدُ ..

التي ابتلينا بها

و هي بأوجاعنا تتعكّزُ

وحده الحزنُ ..

سيبقى حاضرا ..

بين حنايا أجساد ..

لا نعرفها إلا بقدر ما..

تتلقى من طعنات ..

ما تتقيأ من صباحات كاملة ..

أمسيات مخمّرة .. في جرار الانهيار

كلما اهتز رصاصُ الوعي

انطلق زئيرُ الموت

يترصّدُ الأحلام ..

في أزقة الشرايين .. يختفي

رافضا الخروجَ في تباريح الكلمة

هذي أصواتنا..

مثقلةٌ بالغيم

وثمارِ حلمٍ إلهيٍّ

لا تسّاقط مهما .. هززنا الجذع

يشدّها زمنٌ يطاردنا

يهزمنا .. كما اعتلال الغسق

كما انتحار الشمس ..

في زرقة البحر ..

لتعلن خيبتها الكبيرة

في قدرتنا ..

على صياغة ثورة عذراء

تحطم أوثان الناس ..

وتكون السجدة ..

خالصة لله

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

بعد أن أكملت تنفيذ جميع مفردات خطتها وحققت كل ما خططت له وأصبح البيت وباقي العقارات باسمها في دائرة التسجيل العقاري والشركة عند مسجل الشركات والسيارات في مديرية المرور قررت الجلوس على كرسي الاعتراف وذكر كل ما قامت بأمانة وصدق وإخلاص.

استعرضت شريط حياتها الحافل بالالام والماسي مذ كان عمرها عام واحد عندما قتل والديها في حادث سير على الطريق الدولي ولم يبقى لها أحد فتكفلها خالها وعاشت في بيته مع ابن وبنتين وعلى مدار السنين كان خالها يعاني عوزا ماديا ويسكن في البيوت المؤجرة  مما كان ينعكس هذا العوز على معيشة الاسرة لكنها كانت قنوعة وتكتفي بأقل الاحتياجات وتشعر أنها ضيف ثقيل عليهم لكن لا ملاذ آخر فتحني رأسها دائما وتقبل بأقل الضروريات عندما تهب عواصف الاحتياجات حتى أكملت الدراسة الجامعية بتفوق وقدمت أوراقها لأكثر من دائرة لتتمكن من إعانة خالها وعائلته خصوصا وأن البنتين متلكاتين في الدراسة وترك الولد المدرسة وعمل في محل نجارة ليعين والده .

كان خالها قد تقدم في السن وكثرت امراضه فعجز عن العمل وبقي في الفراش لمدة عام كامل مما راكم مبالغ ايجار البيت الذي يسكنه وكان صاحب البيت ثريا معروفا يملك عدة عقارات وشركة لإنتاج الألبان لكن الإنسانية لا تعرف إلى قلبه طريق وكان يسكن في بيت فاره هو وزوجته وابن شاب وبنت معاقة وجاء ذات يوم لاستلام مبالغ الإيجار المتراكمة أو طرد خالها وإقامة دعوى عليه في مركز الشرطة .

طرق صاحب البيت الباب ففتحت هي له بابتسامة ووجه بشوش فنسى غضبه وسألها عن خالها وأخبرته انه مريض راقد في الفراش فطلب منها أن تسمح له بزيارته متصورا  أنها ابنته .

جلس قرب سريره ولاطفه وتمنى له الشفاء ولم يكلمه عن ديونه لكنه اضمر في قلبه شيئا وجلس المريض بصعوبة وبدأ يعتذر له عن عجزه عن التسديد واعدا إياه خيرا قريبا لكن صاحب البيت لم يكن مصغي له تماما وكان تفكيره مشغولا بمن فتحت له الباب ويسأل نفسه يا ترى هل هي ابنته أو ضيفة ؟ وعندما أنهى خالها اعتذاراته ووعوده اجابه صاحب البيت : دعنا من الأعذار والوعود انا عندي حل يرضي الطرفين شرط أن تخبرني من تكون هذه الشابة ؟ فأخبره الخال بكل شيء عنها من يوم وفاة والديها حتى تخرجها من الجامعة هنا انبسطت اسارير الرجل وعرض عليها خطبتها لابنه مقابل مهر ضخم لها وإسقاط الدين عنه مع سنة أخرى من الايجار .

كان صاحب البيت ينظر للأمر على انه صفقة مفيدة للطرفين لكن الخال له رأيا آخر ورفض في قرارة نفسه بيع بنت اخته حتى لو أدى هذا الرفض إلى موته في السجن فقرر مداراة الوضع وطلب مهلة أسبوع للتفكير وعرض الأمر على صاحبة الشأن في حين ظن الاخر أن الأمر منتهي وماهي إلا  ايام وتتم الصفقة ونهض مودعا ومتمنيا الشفاء العاجل ووضع تحت وسادته مبلغا من المال .

فكر الخال بالامر كثيرا ثم اتخذ قراره مفضلا الموت على بيع بنت اخته وقرر من باب العلم اخبارها بالأمر فناداها ولما دخلت عنده أمرها بإغلاق الباب لخلوة بينه وبينها وأخبرها بما كان بينه وبين صاحب البيت وقراره هو بالرفض القاطع فاطرقت مليا ثم رفعت رأسها وطلبت منه أن يمهلها يومين للتفكير والرد فطلب منها أن لا تفكر وأن الموضوع بحكم المنتهي لكنها اقنعته بمنطقها فوافق على مضض .

قررت أن تتعامل مع الوضع كصفقة تزيح عن كاهل خالها ما يثقله من ديون وترد له  جميل تربيته لها كل هذه السنين وتلقين صاحب البيت درسا ربما يكون الأخير في حياته واخبرت خالها بالموافقة وهددته أن رفض فإنها ستقوم به بنفسها فوافق مجبرا لكن من غير اطمئنان .

تمت الخطوبة والزواج بوقت قصير وزفت إلى بيت زوجها لكن خالها كان مشغول البال بخصوصها واستيقن انها قامت بذلك تضحية من أجله هو وعائلته أما هي فتصرفت بلباقة في البيت الجديد حتى هام بها زوجها حبا وتعلقت بها البنت واحبتها الام وافتخر بها الأب  وسيطرت على الجميع وأصبحت ملكة القلوب .

بعد مرور عدة أشهر بدت بتنفيذ مخططها فماتت البنت جراء الالام في المعدة ومرضت بعدها الام ثم توفيت على إثر جرعة دواء زائدة وبعد شهرين اصيب الوالد بعدة جلطات ثم مات جراء عجز في القلب وخلا البيت عليها هي وزوجها فبالغت بحبه وتدليله وذات يوم بعد عودته من العمل مات مصعوقا في الحمام عندما كانت في عيادة الطبيبة النسائية .

كانت وحيدة تسير في الباحة باتجاه كرسي الاعتراف بزيها الاسود وحزنها الظاهر وهيبتها كامرأة ناضجة لم تصل إلى مشارف الثلاثين بعد يغطي وجهها نقاب شفاف مدللة به على الحزن فاستقبلها عند اعتاب كرسي الاعتراف المسؤول عنه وجلست فوقه بكل زهو المنتصرين وبدأت تتلو اعترافتها كيف قتلت البنت وكيف قضت على الام وكيف اجهزت على الأب وبماذا ألحقت بهم الزوج وسط ذهول الشخص المستمع لها ثم خرجت بكل كبرياء الفاتحين فلحقها مسلوب الإرادة. 

شعرت في الطريق أن صاحب الكرسي لازال يتابعها ربما ليعرف من هي أو ليستدل على البيت الذي تسكنه فقررت معالجة الوضع بطريقتها المعتادة .

انحرفت قليلا عن الطريق واحتمت بجدار حتى لحق بها فدعته إلى الجلوس بـ (كافيه) قريبة وتجاذب  أطراف الحديث واالاجابة عن كل ما يدور في رأسه من استفسارات فوافقها فورا ولما جلسا طلبت لنفسها قهوة وسط وطلب هو قهوة مرة وعند احضار القهوة كان هو في المغاسل فاخرجت من حقيبة يدها بقايا (قاتل الجرذان) ووضعته في فنجانه وعندما كان يشربان القهوة إجابته على كل أسئلته بعدها دفعت الحساب وخرجا وضربت معه موعدا في نفس اليوم والوقت والمكان من الاسبوع القادم ثم ودعته بحرارة ورحلت .

***

راضي المترفي

حياة ...

ويتحدرج منْ يقفز بروحه عاليًا

مثل حجر لا عقل له

يرتطم ليشقى بصمت

لا تشرب نفسكَ حدَّ الموت؟

هذا ما يقوله الشاعر

بعد أن يدرك النهاية

ويحسبها خاتمة

سوف تسدل الستار

لينتهي هذا الصوت الذي أتعب الذين حوله

لينصرف من كان يراقب هذا الألم

ولا يُحسن سوى النظر

نموتُ ويبقى السؤال

سوف يأتيكَ

أيها الجالس تحت شجرة

لا تغادر مكانها

لكنّها تجعل النهارَ حياةً

تحت سماء تعيدُ زرقتها

مثل امرأة تخدع الوجود بزينتها

وأنتَ تبحث عن جواب

كلما رأيت السعادة تتلاشى

كطائر يحرّك الزمن بجناحيه

ليوقظ ساعته الأبديّة..

***

عقيل منقوش – ملبورن

 ٢٠٢٣

.................

.................

بلاد..

زقاقٌ يصل بين صباي

وخطوتي الضائعة

لطالما تعثّرت بملائكةٍ

يقفون على عتبة امرأة

دموعها تملأ يديها الفارغتين

بين طاق على باب السماء

وبين مراث في خرائب  منسيّة

يركض العمر بجوار حمامة تائهة

تطير حدّ سواد المآذن.

***

عقيل منقوش – ملبورن

 ٢٠٢٣

دافئةٌ

شمس امرأة ٍ

فاتحة أحضانها!

2

بلا أجنحةٍ

صافَحَتْها الريحُ

تغريدة!

3

شتاءٌ حار

يبحثُ عن مَظَلَّتِهِ

في جَيْبِ الصيف!

4

حِبْرها: العِطر

فستانها: الكلمات

زهرةٌ أنيقة!

5

تَتَنَزَّلُ

بين يديكِ الفضولتين

نُبُوءَاتي!

6

أغنيةٌ زرقاء

بلا أعمدةٍ

يَسْمَعها الكون!

7

مَسْغَبَةٌ جماعيةٌ

تحْتَضر

قمامةٌ مُتْخَمَة!

8

أَقْدَامٌ فارغةٌ

في طريقٍ عاثرْ

شوكة ٌ عرجاءْ!

9

هذي التي أَلْهَبَهَا ظَهْري

مقطوعةٌ من شجرة

عصا والدي!

10

إلى  المزبلة

حَمَلَتْ صاحبها

كلمة نابية!

11

دون ثقةٍ

كبيت العنكبوت

صداقةٌ واهنة!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

سلامٌ لمن لم ترتضَ منّي السّلامْ

سلامٌ جريحٌ لعشقٍ عتيقٍ

وللدّمعاتِ

وللأحلامْ

*

أهُنتُ كثيرًا مع الأيّامْ؟

أصارَ السّلامُ ثقيلاً عليكِ؟

أصارَ الكلامُ بغير لقاءٍ

عليّ حرام؟

سلامٌ عليكِ

فأنتِ الحبيبةُ مهما هجرتِ

وأنتِ القريبةُ مهما رحلتِ

وأنتِ الغرامْ

*

سلامٌ لأجلِ العيونِ الكحيلةْ

لأجلِ الرّموشِ..

لأجلِ الجديلةْ

لشامةِ نورٍ.. لضحْكةِ وردٍ

سلامٌ لكِ

منّي يا جميلةْ

*

وقبلَ الختامْ

سلامٌ عميقٌ بعمق الودادِ

سلامٌ صدوقٌ كخَفقِ الفؤادِ

يدقُّ اللّيالي

ويسهر عمرَهُ

يرجو حبيبةَ عمرٍ

قبولَ السّلامْ

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

17/9/2020

بعد أن قدمت طلبا للطلاق، وبعد رفضها لكل محاولات الصلح والتي عرض الزوج خلالها تنازلات كثيرة سعيا للحفاظ على لحمة الأسرة وأسرارها سيما وأن المطالبة بالطلاق له منها إبن، تقف الزوجة أمام القاضي مؤكدة إصرارها على الطلاق.. تنتصب في تحد مقلق بين كل من حولها، كأنها تريد أن تعلن عن انتماء طبقي ارستقراطي ذي نسب رفيع، ومجد في التاريخ تليد، وغنى فاحش موروث، تتعالى في كبر، متعمدة ابراز فتنة مما بالغت في ارتدائه من لباس، وما تحلت به من دهب وعقيق، ترنو الى زوجها بنصف إغماضة ساخرة، مما أثار القاضي الذي ظل يتابعها بنظرة متفحصة، تكشف بعضا من انزعاج يحاول إخفاءه..

"شيء ما غامض وراء هذه السيدة هو ما تبديه غرورا وحبا في الظهور بهيأة متصنعة، ومعرفة زائفة، فهل تستغل وجودها كاسم مشهور في سوق المال والمعاملات التجارية بهذا الحضور؟.. "

الى جانبها يقف الزوج ممتقع اللون، خجلا من موقف لم يفكر يوما أنه سيجد نفسه فيه، يترقب في حياء، مضطربا نقمة على امرأة، استحلت أن تضع نظارات سوداء على عينيها فتتنكر لكل أفضاله وخيره، يطرق برأسه الى الأرض.. "ترى بماذا ستعلل طلبها؟".. وأي الحجج لديها غير ما اعترف به هو نفسه تلقائيا قبل أن تجره للمحاكم؟متوسلا منها سترا به تحقق كل ما تريده منه، لكن الطمع الذي أعماها، والغرور الذي ركبها، وسوء قراءة أثر أم زوجها وأثرها البليغ في تنشئته أنساها كل ما قدمه لها.. يرفع الزوج رأسه، يعب نفسا قويا ثم يلتفت وراءه مستنجدا بأمه الجالسة خلفه، يستمد منها قوة.. باطمئنان راسخ تنظر الأم اليه، وبسمة صادرة من راحة ضمير بدعم يقيني وكأنها تريد أن تقول شيئا، تستحيي أن تبديه أمام هذا الحضور فلاتملك غير الصمت، لكن عيونها تنفث بسمات القوة، لسانها قلب فمها لا يلهج الا بدعوات الرضا وهي تترقب ما ستصرح به زوجة ابنها:

ــ سيدي القاضي !.. زوجي هذا قد اهانني، أدخل بيتي متشردة، أولجها حمامي، وكساها ثيابا من خصوصياتي، ثم نام معها على سريري، أحط بكرامتي وسمعتي ـ سيدي القاضي ـ، اصرعلى الطلاق كما أصر على تعويض مادي لا يقل عن خمسمائة مليون درهم كرد الاعتبار، وان يقتسم معي كل ثروته التي بنيتها بذكائي واجتهادي، بجمالي وجهدي وثقة الزبائن في ذوقي، حتى مكنته من اكتسابها وجمعها.. ..

يقطب القاضي حاجبيه، ويحرك عينيه علامة اندهاش، فكأن المرأة الواقفة أمامه لا يتلخص حضورها الا في تشريد الزوج انتقاما، لا لتطلب حقا منطقيا يخوله لها القانون.. يلتفت القاضي الى الزوج ثم يقول:

ـ مارايك في الذي تدعيه زوجتك؟

يتنهد الزوج بعمق ثم ينظر بلا تركيز في وجوه الحضور سهاما من حوله، خصوصا من جمعيات نسائية اقبلت لمساندة الزوجة، يحاول ان يخفي اضطرابه بإطلاق يديه وتشبيك أصابعه..

كل صور الماضي تتدارك تباعا أمام عينيه.. من اين سيبدأ؟

حاويات القمامة، جيوش الذباب، نباح الكلاب، مواء القطط، مشردون يفجرون أكياس الأزبال، روائح النتانة..

توهم أن كل الاسرار النتنة عن ماضي هذه الماثلة أمامه قد رماها في بئرعميقة، وعليها بنى بلا رجعة، لكن ها هو البناء يتفجر فترمي البئر خبثها من حيث لا يدري.. يفتح فمه، ويمرر لسانه على شفتيه يبلل جفافهما، يبلع ريقه ثم يبدأ كلامه بهمس: اللهم احلل عقدة من لساني:

سيدي القاضي: ما قالته زوجتي صحيح، لكن اسمحوا لي أن ابدأ من حيث أنهت كلامها..

يصمت قليلا وكأن صوت أمه يهزه من الداخل: "مشاكلك يا بني من ضعفك هزمتك في بؤسها وفي غناها، فاحذر ان تهزمك في دعواها ومن ورائها حماية ممن لايعرفون حقيقتها "..

يحس ضيقا في صدره، يتنفس بقوة كأنه يحاول أن يعب هبة برد تشرح ماضاق ثم يتابع:

زوجتي هذه الماثلة أمامكم بكل هذه الحلي والحلل، وهذا المظهر الباذخ لا يعدو غطاء لخواء باطني عن حقيقة الانسان واصله، زوجتي هذه هي نفسها لم تكن غير متشردة تدق أبواب البيوت يوميا، شحاذة، تتسول وتطلب الصدقات..

همهمات تتحرك بين الحضور، ونظرات استغراب من بعضهم لبعض حينا وللزوجة حينا آخر، ادعاءات لا تصدق!!.. مجنون !!.. كيف يرمي سيدة وشهرتها في سوق المال ذائعة مذ عرفوها، بتهمة استجداء البيوت؟

يضرب القاضي بمطرقته ليعيد للقاعة هدوءها، وهو لا يقل استغرابا عن الحضور لما فاجأه، ثم يطلب من الزوج أن يتابع كلامه..

- زوجتي هذه صادفتها ذات يوم وانا عائد الى البيت قلب مزبلة تبحث بين ركامها، تزاحم القطط والكلاب صناديق القمامة، رق قلبي لها، خصوصا وانها كثيرا ما طرقت باب بيتنا متسولة اذا سبقها جامعو الأزبال الى صناديق الحي؛ ترجلت من سيارتي متوجها اليها، أخذت بيدها، الى السيارة ثم تابعت الطريق الى البيت، أدخلتها حمام أمي، وقدمت لها مما في دولاب أمي من ثياب، كما ناولتها عطرا ومساحيق من خزانة أمي، لما اغتسلت وخرجت من الحمام، انبهرت لما رأيتها !!..

تغيرت كلية وصارت امرأة ثانية، فوارة بمظهر الحسن والجمال فوران حوريات الجنة في أحلامنا؛ وأنا على وشك توديعها بالباب أقبلت أمي بعد زيارة لاحد اقاربنا، لما رأتها، حسبتها أنثى من صديقاتي، أو احدى كاتبات شركتي، لكن حين سلمت عليها ودققت فيها النظر، استغربت أمي من ان الواقفة أمامها ترتدي ثيابها، وان عطور أمي هي ما يفوح من الزائرة..

نظرتْ اليَّ امي نظرة استفسار، فغمزتها بعيني واضعا يدي على فمي، كأني اتوسلها الا تغضب، او تطرح اي استفسار، يجرح الزائرة أو يحط من كرامتها..

يتوقف الزوج هنيهة:كأنه يسترد أنفاسه، في وقت تبدأ الزوجة مترنحة في مكانها متضايقة مما صرح به زوجها، لم يخطر ببالها لحظة أن الزوج الوديع الصامت الخجول الذي كان لا يتحرك الا بإذنها وأمرها، والذي كم كرهت سلبيته تنصب عليها كعدوى مما جعلها تهمشه في كل أعمالهما التجارية، من أين استمد كل تلك الشجاعة التي تجعله يفضحها امام الحضور، كل ما تعرف ان وداعته وخجله كثيرا ما كان يلزمه صمتا ليس أمامها فقط ولكن مع الكثير من الناس.وهي من كانت تستغل حياءه هذا في تحقيق كل رغبة هفت لها نفسها.ماذا صار ومن أنطقه؟؟..

 ـ"لعلها أمه التي استعادت صرامتها مما عانته معي، وما عرفته عني وما أخطط له، ولئن ربته على الخنوع والاستسلام فهاهي تحول سكونيته وضعفه الى قوة تباغتها في زوجها..

تعلو همهمات الحضوربين استغراب، وتكذيب، ومتباغثة، وشك يهدئها القاضي بدقات ملتمسا هدوءا يسمح بمتابعة القضية..

يأخذ الزوج نفسا طويلا ثم يتابع:

كان وقت الغذاء قد حان، فأقسمت عليها أمي ان تتناول غذاءها معنا؛

بعد الغداء تركتها أمي منشغلة بعروض التلفاز وشرب الشاي، وأتت الي

تستفسرني عنها.. عن دولاب ملابسها الذي انتهكه ابنها اكراما للزائرة، عن عطورها ومساحيقها التي تعتز بها كبقية من هدايا المرحوم والدي؛ لم أخف سرا على أمي، ولم أحاول ان اتكتم على أي شيء بل أخبرتها حتى عن أسمال الزائرة اين وضعتُها..

وفاجأتني أمي القوية الصبور بدمعات تنحدر على وجنتيها قالت:

ــ كم من جمال مسخه الفقر وغيبه الإهمال والحاجة !!.. حرام أن تذوي هذه الفتنة بين صناديق القمامة وركام الأزبال، هذه البنت لو طاوعتني فمحال أن تخرج من بيتي بعد اليوم..

مرة أخرى يتوقف الزوج عن الكلام قليلا وكأنه يشحن صدره بقوة تمنحه القدرة على المتابعة.. .او ربما كان يفكر كيف يختصر حديثه، وكيف ينتقي الكلمات التي لا تجرح الواقفة بجانبه، فماحكاه كاف كتحقير يمسها كوجه تجاري في سوق البزنس، كما يطول سمعته كونها زوجته وام ابنه..

هكذا سيدي القاضي بدأت هذه السيدة حياتها معي؛ظلت معنا في البيت تتشرب من عاداتنا، وطقوسنا، وطريقة حياتنا، أعادت لها والدتي تربيتها دقة دقة كما يقولون الى أن صارت واحدة منا، ألفناها وألفتنا، فصار لها ما لنا، وعليها ماعلينا، والحق يقال أننا تلمسنا فيها ذكاء بعد ان تغيرت حياتها، صارت تقرأ وتكتب، تحاور وتناقش، تلتهم المجلات وتنتمي لأكثر من جمعية نسائية، وكشهادة انصاف انها كانت تختزن قدرات هائلة مكنتها من تجاوز كل عارض يحول دون بلوغها ما تريد.. .ثم بدأت تتقرب مني، واليها بدأت أميل.. .

وكانت المفاجأة من والدتي أن أتزوجها..

وبعد احاديث طويلة، وتفكير عميق، ونقاش عن الغير من حولنا، عن زيف المظاهر والأسماء والألقاب، عن ألسنة المجتمع الطويلة وأبواقه القوية، اقتنعت بان الامر يخصني وحدي ولا يهم احدا غيري..

بعد سنة من زواجنا، لاحظت اهتمامها بالتجارة وبافكارها التي قد تمكنها من اختراق عالم التقليعات، وبايعاز من والدتي مرة أخرى، فتحت لها متجرا للألبسة النسائية ثم آخر للعطورات والماكياج، لكن بعد ان انجبت ابننا الوحيد بدأت تتغير.. صارت لا تستقر في مكان، متنقلة بين دور العرض والموضة، وبين اكثر من مدينة وعاصمة عالمية، جوابة للمراقص والملاهي، وكنت المهضوم الذي صار نكرة وانا من حول النكرة من العدم الى علم في مضامير الحياة وأسواق المال والتجارة.. .

يتوقف الزوج قليلا وكأنه يكتم غصة خنقته، يبلع ريقه، ثم يتابع ٠٠

- اهملتني سيدي القاضي، وأهملت بيتها وابنها، ولولا أمي اطال الله في عمرها، ما وجدت من يسهر على ابني او يهتم بشؤوني.. .

يحس الزوج وكانه يخرج من بين الأمواج، يتصبب عرقا، لكنه أخف مما كان قبل ان يحكي.. . يلتفت الى أمه، ابتسامة رضا وتشجيع تتربع على وجهها.. ثم يمسح الحضور بنظرة خاطفة جعلت أكثر الأفواه تنسد حيرة أو تعلن لعنة، بل وكثيرات شرعن في الانسحاب من قاعة المحكمة حفاظا على لحمة الانتماءات..

كان القاضي يتابع القصة مستغربا أن تكون التي أمامه قد كانت من شحاذات الشوارع، وهي اليوم تشكو زوجها لسلوك كانت هي أول من غرفت منه وارتوت.. يلتفت القاضي الى الزوج ويقول:والمتشردة الثانية؟ !! سؤال تطاولت له الأعناق وارتخت الأسماع بترقب.. وجوه بين الدهشة والسخرية والتأنيب.. .

يتنحنح الزوج، ثم يتنفس بغصة عميقة من قهر:

ما فعلته مع المتشردة هو نفسه ما حدث مع زوجتي، مع فارق ان زوجتي بقيت في بيتنا واستطابت الحياة فيه واكتسبت عادات البيوت الكبيرة ولكنها لم تتعلم ان الحر من دان انصافا كما دين..

يشرئب برأسه جهة أمه، فيلاحظ القاضي أنها تشجعه فيستعجل الزوج على الحديث..

زوجتي هذه سيدي القاضي لم تستطع ان تتخلص من أمراض نفسية تتلبسها، ربما هي نتاج تربية ومعاناة، وسنوات قهر، فاقة وحرمان، ومن شب على شيء شاب عليه: الطمع، وعدم القناعة والرضا، والتطلع لما عند الغير.. .وهذا ما ولد فيها صفات: الكذب والجشع، وتزوير تاريخها وحقيقتها امام غيرها.. .

ينظر القاضي الى الزوجة وكأنه يتابع اثر كلام زوجها على محياها من تذمر وقلق، ثم يحول النظر الى الزوج وكأنه يدعوه لمتابعة كلامه:

حين كنت اودع المتشردة بالباب اعطيتها مالا وألبسة أخرى، وعطورا، ثم قلت لها:

ـ لا اريد ان اراك بعد اليوم تتعاطين التسول، لك سأبتاع احدى الشقق الاقتصادية تأويك، وستصير لك نفقة شهرية لتدبيرشؤونك، فحرام أن يذوي هذا الجمال على عتبات التسول..

ارتمت علي وعانقتني وهي تبكي ثم قالت:

ماذا بقي لم تقدمه الي يا سيدي؟

أحسست برغبة تشدني اليها فهمست لها:

لك كل ماتريدين.. . فقط اياك ان تمارسي التسول بعد اليوم.. أكره أن أرى أنثى بحمالك تذل نفسها، تحتقر ما وهبها الله من أنوثة وقد ممشوق..

ودون شعور منا وجدنا نفسينا معا فوق سرير غرفة نومي.. .

سيدي القاضي، أن أكون قد سقطت في الحرام فهذا لا أنكره واني به اقر وأعترف، أسأل الله تعالى ثوبة نصوحة منه، لكن جرمي لا يمكن أن يغيب ما فعلته مع هذه المرأة كحق من حقوق الله، قد صادفها حظا من حظوظها دون غيرها، يكف عنها مذلة السؤال والتشرد، وربما هي احق به من غيرها ممن صاروا يملأون الطرقات وابواب المساجد حتى صرنا نعثر بينهم على من يمتلكون شققا ودكاكين في اكثر من حي، بل وفي اكثر من مدينة يتنقلون في سيارات يملكونها..

سيدي القاضي !

انا اخطأت، وذنبا قد ارتكبت، ولن أقنط من رحمة الله، لكن ما قمت به مع تلك السيدة هو خير قدمته ما كان في اعتقادي ولا نيتي - يشهد الله -استغلالا، او انتظار جزاء، او مقابل.. ان ماحدث ـ سيدي القاضي ـ هوضغط من حرمان، وغصة من اهمال، واغراء من شر النفس وكيد الشيطان، يلزمني اصلاحه عاجلا، لذلك اطلب مهلة قصيرة، اعقد فيها قراني على المتسولة، ولزوجتي حق الاختيار ان تقبل بضرة او تصر على الطلاق، لكن اكراما لابني منها لن أطالبها بتعويض عما صارته، وعن نقلتها النوعية من حياة المزابل مع القطط والكلاب والحشرات، والنوم في الازقة والشوارع الى حياة أهل البيوت الكبيرة الذين يحسون معنى أن تكون انسانا فقيرا ثم يغنيك الله من فضله، ولن أطالبها برأس المال لما تدره عليها متاجر انا من فتحتها بمالي وعرق جبيني.

يطرق القاضي برأسه الى منصة الحكم، يستحوذ عليه تفكير واحد، وكمشة من الأسئلة تتسابق الى لسانه فارضة عليه أجواء من التصورات والظنون.

ماذا يغري هذا الشاب في الفتيات المتسولات؟

ما نوعية الإثارة التي تحركه نحوهن؟ هل هو جمالهن الذي قد وأده الفقر؟

أم هي بصمة نفسية خاصة لديه يستقبلها بلذة ومتعة قدلايستحليها غيره؟

لماذا كانت نظراته تتحول الى انكسار، فيبادرالى الالتفات لأمه يستمد منها القوة والشجاعة؟ هل هو الخجل وحده ام في حياته ما يحسسه بالدونية رغم غناه؟ واذا كانت الرحمة قصده لماذا ينساق الى ما حرم الله؟

***

محمد الدرقاوي  ـ المغرب

تُوفّي الثلاثة..

تُوفّيت البنتُ الأولى، ثم الأم فالأب..

ماتت البنتُ بالمرض الخبيث، فلم ينفع الأطباء ولكان للأدوية مفعولْ.. وتركتْ وراءها طفلة صغيرة لم تتجاوز العامين من العمر..

أثناء الدفن بكاها والدُها كما يبكي كل أب فقيده.. وبعد تسوية القبر ودعاء التثبيت، انعزل الأب بابنه الأكبر بعيدا عن الحاضرين وقال له: ـــ بعد أن أموت..ادفنوني بجانب ابنتي الحبيبة ! هذه وصيتي لا تنسوا ذلك!..

ومرت الأيام.. وبعد عشر سنوات تُوفّيت الزوجة، بعد أن أقعدها المرض الفراش لمدة قاربت السنتين. وحرصوا على أن يدفنوها بجانب ابنتها، لكن لم يجدوا المكان، فالجبانة أسرع ما تمتلئ وتضيق..

دُفنتْ في الجهة الشمالية من المقبرة. وبعد أن وروها التراب وأنهى الحاضرون دعاء التثبيت، أمسك الأب ابنه الأكبر من يده، وأشار هامساَ في أذنه: ـــ هنا.. بجانبها..

أراد الولد أن يقول شيئا، فأشار إليه أن يصمت وقال: ـــ أنا متيقن بأني لن أعيش بعدها طويلاَ..

وبعد أحد عشر سنة مات الزوج..

دفناه الأمس.. دفناه بجانب حليم..

وبعد تسوية شاهدة القبر والدعاء، أنبأنا ابنه الأكبر وهو يبكي:

ــ  أراد أن يدفن بجانب ابنته.. ورغبَ أن يُجاور زوجته الحبيبة.. لكن لم يُكتب له سوى أن يُدفن بجانب صديقه القديم حليم، الذّي قُضي عليه في حادث سيارة بجانب المستودع البلدي..

وإني أتذكر جيدا ذلك اليوم الذي غضب فيه على أمي لأنها لم تهافته وتخبره.. بكى صديقه بكاءَ متألماَ لأنه لم يحضر جنازته..

وها هو اليوم يُجاوره في المقبرة..

رحمهم الله جميعا..

***

بقلم: عبد القادر رالة / الجزائر

 

كل مرة ارفع رأسي عن الوسادة

أرى الليل مستيقظا قبلي

يَحشر ظلامه الحالك

عميقا بين الانفاس دون هوادة

حتى ايقنت ان الرحمة

أضلت سواء السبيل

او على حين غرة

ابتلتها الحمى فأحرقت ما تبقى من حلم

*

انت أيها الهزيع المر

المبجل بالوساوس والعتمة

يا لك من كائن مارق

اراك استبحتني

كف عني لجاجتك

لقد تركتَ الاماني يابسة

بين ملفات القضاة

دون ان يهدأ لك بال

قل لي‎ ‎

كم من الاخذ يكفي لخلاصي منك؟

***

عبد الستار جبار عبد النبي

ساندنس٢٠١٦

 

كلُّ أرجاءِ

المدينةِ

لَم تَسَعْ خُطاي

أبحثُ عن قَلبٍ

مسروقٍ

عَن سِرٍّ

بينِي وبينَ الله

أبحثُ عنكِ، وعنِّي

في لُجَّةِ النِّسْيانِ

عن ضمَأِ الروحِ

وهي تروى بهَسِيسِ  الجمرِ

وهَسِيسِ الذكرياتِ

أحلاماً  لم تعدْ بمقاساتِنا

هل ضاقَ الأفقُ

وجفَّ نهرُ الأمنياتِ

كلّما شَحَّ الغيثُ؟

أتُرانا

نَتضرَّعُ للربِّ

ليُرطِّبَ  أرواحَنا

ببعضِ الأُمنياتِ

وبعضِ الدفءِ لأرواحٍ استباحَها البردُ

كما استباحَ مشاعرَها؟

يبدو أنَّ عيدَ الحبِّ ماعادَ يَصلحُ لّلقاءِ

فهلْ يَصلحُ للحربِ؟

كما تدَّعي نشراتُ الأخبارِ

رائحةُ الدمِ تُزكمُ الأنوفَ والمشاعرَ

***

كامل فرحان حسوني - العراق

على بابي رأيتُ الماءَ يجري

متى يأتي بريدُكَ ضاقَ صدري؟

*

وبي بحرٌ من الأحزان أنّى

أسيرُ وقد غدوتُ غريقَ بحري

*

تسائلني الدروبُ ولم أجبها

لأني قد فقدتُ طيورَ بِشْري

*

فكم كنّا جلسنا في سرورٍ

وغنينا على إيقاع نهرِ

*

ففي ذاك المكانِ جلستَ يومَا

وما  أدري  بمن يمضي وتدرِي

*

وفي هذا المكانِ رفعتُ صوتًا

وأخفيت الدموعَ وراءَ صخرِ

*

تحدثُنا عن الأحلامِ حينًا

وحينًا تنضوي في ظل سرِّ

*

أقولُ سنلتقي في فجرِ يومٍ

نسابقُ خطونا شبرا بشبرِ

*

متى تشدو البلابلُ من جديدٍ

وتأتينا الرسائلُ بعد عسرِ

*

يمرُ الوقتُ في عجلٍ وأنِّي

أرى ظلِّي على أعقاب قبري

*

يسائلني النهارُ عن الغوالي

وينكتُ فيَّ بعد الهجرِ صبري

*

كتبتُ الشعرَ منذُ صِبايَ غرّاً

فأينَك من تباريحي وشعري؟

*

يقول السامعون كفاك دمعا

أليس الموتُ يأخذُ كلَّ برِّ

*

دع الذكرى وما في القلبِ وامضِ

فما جدوى التذكرِ بعد سفْرِ

*

كلامكمُ يزيدُ النارَ نارًا

وينكأ جرحَنا من دون عذرِ

*

ففي هذا التذكرِ بعضَ سلوى

وفي هذا التذكرِ كلَّ عمري

*

وأن الذكرياتِ تشدُّ ظهري

وتفتحُ ألفَ نافذةٍ وثغرِ

*

وتعطيني من الآمال جيشًا

عظيمَ الجأش من كرٍّ لفرِ

***

د. جاسم الخالدي

كان نهاري سيئا

قلت لا باس..

ساشرب قهوة

مع صديقي الليل

واغتاب

في حضرته

كل الباعة الذين كنت امنحهم

ابتسامتي واموالي

ويعطونني بالمقابل

بضاعة فاسدة

سأخبره عن الغلاء الذي جعلني

على حافة الافلاس..

سأشكو له طويلا..

غدر الاصدقاء

وظلم الاهل

وإهمال الاحبة..

سأخبره عن الكلاب الضالة

التي تثير رعبي

كل مساء عندما أعبر

من ذلك الطريق

المظلم..

سأشكو اليه

مدير عملي..

وعامل النظافة

وعامل البناء

ونادل المقهى

والسباك ..

وسائق التاكسي الذي

يصدع رأسي كل صباح

باسطواناته الدينية

الليل مستمع جيد

أعطيه القهوة

ويمنحني المزيد من

الأرق..

إنتهي كل الكلام

وحل الصمت محله

نام الليل ..

لم آخذ غمضة واحده

مرت الساعات طويلة

و ثقيلة..

كانت ليلة سيئة جدا

غدا صباحا

سأقدم إعتذارا مطولا

للنهار ..

وشكرا لكم

***

بقلم: وفاء كريم

وهو يتألم دون صوت ولا حركات

نادتني عينان في عشق الرحيل

أنك كاتب شاهد قبري

أن

هذا قبر من مر من الحياة مرور الكرام؛ فلفه الظلام في أحزان وآلام.

طفق يمسح كل الأيام

كل الأوهام

من الأوراق

لينام بسلام

في

وطن اللئام

وقعت عيناه شاهد القبر

أنا أنت وما أنت إلا أنا

***

عبد العزيز قريش

 

كلُّ القوافي لي تقولُ أنا لَها

حسـناءُ في شـوقي ألِـمُ ظِلالَها

*

كلماتُها الوسنى تعيش بخافقي

وإذا أفاقـتْ لـوّعـتْ مَـنْ قالَها

*

هي سِدرةُ الحبِّ المُعرشِ بيننا

مَرستْ ومن ضوء النجوم حبالَها

*

تتوسدُ الوردَ المشاكسَ خِلسةً

فيضوعُ حـرفًا كي يَـفِـكَّ عِقالَها

*

تبدو قناديلًا عـقودُ حروفِها

والليـلُ سـامرها يحـوكُ سِلالَها

*

والكــبرياءُ يشدُّ أزرَ متونِها

لحــنًا يُـماهي بالحـنين خصالَها

*

هي مَنْ هي الحسناءُ عندي يا تُرى

هي غادتي السكرى أرومُ وصالَها

*

تـبدو الى طَرْفي كأنَّي موشـكٌ

أن أحـتـوي شــذراتِها وأنـالَـها

*

لـولا الجموحُ المستبدُّ بطبعها

قـد حالَ وا لهفي أطولَ خيالَها

*

حسناءُ لو جاءتْ بذلتُ مطارفي

شـوقي وأحـلامي تكـون مـالَها

*

هيَ يا أخا ودّي قصيدةُ شاعرٍ

يرجـو بأنْ يـجـدَ الحبيبَ خلالَها

*

تتنفسُ الوجـدَ القديمَ حروفُها

زمَـنًا فـقـامَ الــلامُ حـتى طـالَها

*

فتشاكلَ الحالانِ بين سطورها

ظِـلٌّ لـشــوقي قـد أجَــنَّ ضَلالَها

*

هي شـرقةُ الحبُّ المُعتقِ أسفرتْ

مـن أيـنَ لي صبــرٌ يـــردُّ نِـبـالَها

*

عادتْ بيَ الذكرى فكان حصيلتي

مـنــها بــأن زادتْ عـلَـيَّ دلالَـها

*

ما بين ازماعي الرحيلَ تجسدتْ

فوقفتُ أرنــو كي تَحِـطَّ رِحــالَها

*

حسناءُ حلّـتْ واسـتـقَـلّتْ لامَها

تـحـدو وبيْ وجَعُ المُحبِّ جِـمالَها

*

وتـلـونتْ قُـزحًا يَـلـمْ قُـطـوفَها

وجـدي وأرقـبُ في السماءِ هلالَها

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك / كوبنهاجن

السبت في 24 كانون أول 2022

 

ما أكذبني يا سيّدتي

حينَ وعدْتْ

وقلتُ بأنّي أُنهي حبّكِ

أُنهي عشقَكِ

كم كذّبْتْ

فرغمَ بهائي

ونارِ جنوني

ورغمَ صمودي

وطيشِ ظنوني

كنتُ ضعيفًا حينَ وعدْتْ

وكسيرًا في ليلِ غرامكِ

مهزومًا.. وهزيلًا كُنتْ

*

ما أكذبني يا سيّدتي

حينَ وعدْتْ

كيفَ جعلْتِ كلامي يجري

كيفَ تركتِ خيالي يسري

في ليلٍ مجنون الصّمتْ

آهٍ يا سيّدتي منكِ

من حبٍّ يسبحُ في الوقتْ

لا يعرفُ حدًّا ينهيهِ

لا يعرفُ عُمرًا يكفيهِ

لا يرضى إلّاكِ أنتْ

*

يا سيّدتي

إنّي الآنَ أعودُ إليكِ

وجناحُ غرامي مكسورٌ

والحُبُّ مُذَلَّلُ مقهورٌ

والفارسُ أضناهُ العشقُ

وسمائي يضربها البرقُ

ما أحوجني الآنَ إليكِ

ما أحوجني أسمعُ صوتَكِ

ما أحوجَ أيّامي عندَكِ

تتعلّمُ في حضرةِ حبّكِ

كيفَ يكون حديثُ الصّمتْ....

آهٍ منّي

آهٍ منكِ يا سيّدتي

حينَ وعدْتُكِ

كم كذّبتْ

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

17/9/2020

تأكدي

أن النجوم الزاهراتُ عرائسي

يلمعنَ في غزل ٍ حديث ٍ

يَستفزُ خيامك ِالبيضاء

مقصورات لم يَطْمِثْ مِحَارتهنَّ مَكْرُ أبالِس ِ

*

فتأمليها تأملي

من دون أن تتعجلي

كي تعشقيها تذوقاً

وتلذذاً...

ووصولا  !

*

وتأكدي...

أن السماء عرائساً أخرى

نَفَحْتُها بالفرائد ُرقةً... وقبولا

إني أراك ِفراشةً

تتنقلين على البديع بُطُهْرها

معسولةً.. وعسولا

وأرى بجَنّتك ِالنعيمُ فماً شهياً

ناضجاً... مأمولا

وهواها أبياتاً مُفَتَّحَةً نوافذ ها

تطل بشُرْفَة ٍ

قامت على أهداب عزفك ِ

ياهنائي مُثولا.

*

وتأكدي...

أن الكواكب في مدارها لاتدورُ

بلا قواف ٍ مُفعمات ٍ

بالحياة ِدلائلاً

وبالجمال ِدليلاْ

*

فأنا بدولتيَ الحميمةأستعيدُ حضارةً

كادت تُحَنًطها السنينُ خُمُولا !

فتمدني

- إنٍ رُمْت ِفيها تمدُناً -

وحلاوةً...

وطلاوةً لبديعِك ِ

وجزالةً... وجزيلا

*

لم تُكْرهِ الدنيا على فستانها أحداً

ولم تعهد إليه ِ

بالصلاة ِعلى هدى خطواتها تقبيلا

فأنا هنا

أحيا على أمل ٍ يعيشُ بِحُبِّه ِ

وأموت حباً  لا يعيشُ طويـــــــلا!!

***

محمد ثابت السميعي

٢٠٢٢/٨/١٥

 

سحبني من نومي في آخر الليل طرق على باب شقتي الصغيرة. فتحت عيني ثم أغمضتهما، لعلّ الطارق يخجل على نفسه ويدعني اواصل نومي الجميل في تلك الليلة الليلاء، ألا أن الطرق ما لبث أن تواصل. عندما أيقنت أن الطارق معنّد ولن يفك عني.. فكّرت في أن أفتح الباب له. إلا أن سلطان الكرى ما لبث أن الحّ عليّ غامزًا بعينه.. نم يا رجل.. نم آلان.. والصباح رباح. تواصل الطرق دب فيّ نوعٌ من القلق، هل حصل شيء للأحباء وجاء مَن ينذرني؟ هل خشي علي مُحب أن أقضي في شقتي الوحيدة ولاحقه كابوس رأى فيه أنني أموت ويتحلّل جسدي في شقتي الوحيدة دون أن يعلم بي أحد؟.. هذه الاسئلة دفعتني إلى نوع من اليقظة.. فتحت عينيّ وسط تواصل الطرق، وكان لا بد هذه المرة من المواجهة فإما.. وإما.. توجّهت نحو باب شقتي. دون أن أفتح الباب سالت مَن الطارق؟ فأجابني صوت أنثوي.. افتح الباب.. اعتقدت أنها إحدى الجارات.. أو إحدى الصديقات جاءت تطلب المساعدة في أمر ضروري لا يحتمل التأجيل، فبادرت إلى فتح الباب. رفعت نظري في صاحبة ذلك الصوت لأتفاجأ بأنثى أشبه ما تكون بالملكة، بل هي ملكة تضع على رأسها التاج وتتراقص قُبالتي:

-مَن أنت سألتها؟ فردّت: أنا السيدة كورونا.. ألا ترى علامتي المميزة على رأسي؟.

ما أن سمعت كلماتها هذه حتى بادرت إلى اغلاق الباب، غير أنها دفعته ودخلت غصبًا عنّي، تراجعت إلى الوراء وأنا أشعر أن بدايتي انتهت، وأن كلّ أحلامي في كتابة القصص وإقناع العالم كله بأن تشيخوف آخر ظهر في الناصرة.. ذهبت أدراج الوهم.

جلست السيدة كورونا على مقعد قبالتي، وغمزت لي بعينها سائلة:

-ممَ أنت خائف؟ ما أنا إلا زائرة.. قد أمكث عددًا من الايام معك هنا في شقتك الدافئة.. بعدها قد أرحل.. وتختفي آثاري إلى لا رجعة.

-ماذا تريدين منّي أيتها السيدة.. قلت وأضفت مرسلًا نحوها نظرة توسّل: ألا يمكن أن تكوني اخطأت الطريق؟ ودخلت شقتي بطريق الصدفة؟

عندها أخرجت دفترًا من تاجها وتمتمت قارئة فيه.. ورفعت رأسها غارسة عينيها في عيني الوجلتين الخائفتين:

-ألست ناجي ظاهر.. الكاتب المعروف؟

التقطت كلمة المعروف من فمها وأهملت اسمي في محاولة مني للنجاة بجلدي. قلت لها:

-إما انني ناجي ظاهر فهذا صحيح.. وإما أنني أنا الكاتب المعروف.. فإنني لا أعتقد.. أنا أشعر بأن حضوري وغيابي لا يعنيان أحدًا.

ضحكت السيدة الجالسة قُبالتي:

-لنتفق أولًا.. ألست ناجي ظاهر؟

هززت رأسي موحيًا إليها أنني أنا ناجي ظاهر بلحمه وشحمه. ضحكت الزائرة:

-إذا وافقتني على أنك المقصود من طلعتي هذه الليلة الشتوية الباردة. بإمكانك أن تترك لي أمر انك كاتب معروف أو غير معروف. فأنا مَن يقرّر هذا الامر وليس أنت.. يا كاتبنا الجميل.

ما إن سمعت كلماتها هذه حتى انتابني شعور بالنهاية.. غلى الدم في عروقي.. شعرت برعدة تزلزل أركاني.. توجّهت إليها:

-والآن ماذا ستفعلين بي أيتها الملكة المبجّلة؟

افترّ ثغر السيدة الزائرة عن ابتسامة حفلت بكمّ هائل من السخرية. نهضت من مكانها وسط تجمّد أطرافي خوفًا منها. دنت مني. ربّتت على كتفي:

-لا تخف. كل ما أرجوه حاليًا هو أن يتسع سريرُك الضيّق لاثنين، أنت وأنا، سأمكث هنا في زيارتك، فإما أن آخذك معي بعد فترة من الزمن وإما أتركك تواصل كتابة القصص.. وأمضي في طريقي عائدة من حيث أتيت. وباحثة عن صيد أسمن منك.

-لماذا لا تتركيني الآن وتذهبي في حال سبيلك؟ لماذا لا تختصرين عليّ أحمالًا تنوء بحملها الجبال من الهموم؟ هتفت بها، فابتسمت مرة اخرى:

-تروَّ يا صديقي.. تروَّ قليلًا لا تكن متسرّعًا عجولًا.. سأمكث معك هنا في هذه الشقة الوحيدة المشوّشة.. سأقوم باصطحابك فترة من الزمن.. فإذا أنست إلى صحبتي أخذتك معي وأرحتك من هذه الهموم التي تعيشها ليلًا نهارًا، أما إذا عرفت كيف تتعامل معي.. فقد أدعك لمواصلة أحلامك الفارغة.

قالت هذه الكلمات دون أن تترك لي مجالًا للردّ عليها.. طلبت مني أن أسترخي على سريري.. وعندما فعلت مدّت يدها إلى جانبي موحية لي أنه لا مفرّ أمامي من إفساح المجال لها لأن تنام بقربي وإلى جانبي. استلقت إلى جانبي.. وأغمضت عينيها فأغمضت عينيّ.. بعد قليل فتحت عيني لعلّي أكتشف أن كلّ ما حدث حتى تلك اللحظة ما هو إلا اضغاث أوهام، إلا أنني فوجئت بها تتحرّك إلى جانبي وتفتح عينيها.. عندها أيقنت أنني أعيش لحظات قد تكون الاصعب في حياتي الصعبة أساسًا.. فزائرتي.. تلتصق بي كلّما مرّت لحظة أكثر فأكثر.. ورغم محاولاتي الهرب منها كانت تفلح في كل مرة في الالتصاق بي.. الغريب المريب أنها كانت تفلح في كل اقتراب لها.. في حين أنني كنت أفشل في المقابل..

عند هذا الحدّ شعرت بالنعاس يهاجمني من كلّ جهة وناحية، وكان لا بدّ لي من النوم. فنمت..

كانت تلك من أصعب الليالي في حياتي..

فتحت عيني بعد ثلاثة أيام من النوم والمعاناة.. لأجد نفسي أطلق السعلة تلو الاخرى.. وليأتيني صدى سعلتها إلى جانبي مماثلًا لسعلتي.. في كل شيء.. لقد باتت السعلة واحدة.. والتنفسة الضيقة واحدة.. موحّدة.. هل انتهى كل شيء. لا أعرف.. لأنتظر.. ماذا سيحدث ولأكن يقظًا كعادتي.. فأنا اؤمن أنه لا يُطلب منّا أحيانا في لحظات القسوة خاصة.. إلا أن نمرّر الوقت.. لأمرّر الوقت إذن ولأنتظر لحظة الفرج.. لأتخلّص من زائرتي .. ضيفتي الثقيلة.

في الليلة التالية في الهزيع الاخير منها.. سمعت طرقًا خفيفًا على باب شقتي. شعور غامر بالأمل والتساؤل حملني لأن أتوجّه إلى الباب. رفعت رأسي رفعت السيدة الزائرة رأسها. مشيت نحو الباب فمشت إلى جانبي. ألا يمكنك أن تتركيني أيتها الثقيلة ولو لحظة واحدة؟ الغريب أنها هزّت رأسها علامة الرفض.. لا لن أتركك.. إلا عندما تنجح في الامتحان فإما تكرم بالحياة وإما تهان بالموت.. طيب سنرى أيتها الزائرة. سنرى.. على كلّ لنرى مَن يطرق بابي الأن.. سمعت طرقة أخرى على الباب.. فعرفت مَن الطارق.. أنا أعرفها.. أعرفها من طرقتها اللطيفة.. خمسون عامًا مضت علي وأنا أستمع إلى طرقتها.. إذن هي القادمة.. هي .. هي.. هي.. قصتي الرائعة الجميلة.. مددت يدي إلى اكرة الباب وكلّي أمل أنها هي.. وأتاني صوت زائرتي أشبه ما يكون بفحيح أفعى توشك أن تختنق:

-لا تفتح الباب لها.. شقتك الصغيرة المشوشة لا تتسع لاثنتين. أذا كانت القادمة أنثى سيكون علي أن أذهب.. لا تفتح الباب.

شعور بالقوة والامل يجتاح أطرافي.. هل أتى الفرج بتمرير الوقت؟ ما أذكاك يا ناجي ظاهر.. عرفت كيف تدير المعركة أخيرًا.. قصتك ستخلّصك من ضيفتك الثقيلة.. ما أحلى هذا.. آه ما أحلاه.. ومددت يدي بسرعة غريق طرق بابه أمل الخلاص.. مددتها إلى اكرة الباب،، وفتحته بكل ما لدي من قوة وحلم.. لتدخل تلك.. ولتخرج هذه.. الزائرة الثقيلة.. بل اللعينة..

***

قصة ناجي ظاهر

 

لم أرتكب إثما

شيعت سرب الأمنيات

حتى

خذلان الأخير

وعدت

ليس ذنبي

ان تصيب اللعنة

قصائدي وان أكتبها

بعيون ينكسر

فيها الضوء

ليس ذنبي

ان أصدق وعود الموت

بأن يمنحني إسما

اكثر وجاهة من إسمي

ولكنه يعود في كل مرة

بمزيد من الأحجيات

الغامضة

فأنسى إسمي الأول

ليس ذنبي أنه

كلما أيقظني

الفجر لأتهيئ للصلاة

يراودني إثم جديد

عن نفسي

كان ذنبي الوحيد

هو ولادتي

المتعسرة

كل المرايا كانت تنتظر

ولادتي

بفارغ الصبر

وعندما تكلم صمتي

نظرت في اعماقي

كانت الصور ممزقة

وعلي ان اعيد تركيبها

من جديد

لطالما اردت كسر تلك

المرايا الصامتة

المخيفة

بالامس وجدتها

تعبث بملامحي

كان وجهي بلا

الوان

وعيناي منطفئة

كان علي ان افتح

للضوء

عيني

لأتذكر إسمي

الأول

ولأتذكر متى مر

الموت بجانبي اخر مرة

وترك لي داخل

اخر أحجية

غامضة

مزيدا من

السنوات الضائعة

علي ان أتذكر إسمي

الأول

وتاريخ هذياني

الأول

وان أفك اربطة

الزمن

لأعقده من جديد

فلا يتشابك مع

ذاكرتي

***

بقلم: وفاء كريم

أمّة الروحِ وروحُ الأمّةِ

أوْقدَتْ نوراً بفَجْرِ النهْضَةِ

*

وتَبارَتْ في عُلاها كوْكباً

يَتهادى بصراطِ العِزَةِ

*

وعلى الآفاقِ مَدَّتْ فِكْرها

مِثلَ إشْراقٍ مُبيدِ الظلمَةِ

*

إنّها أمٌّ نُهاها إسْتقى

مِنْ رسالٍ بفَضاءِ القدرةِ

*

ورسولٍ قادَها نحوَ العُلى

وبَنى فيها عمادَ القدوةِ

*

وكتابٍ إحْتوى كُنهَ الرؤى

ومَضى نَهْجاً لرأي الحُقبةِ

*

وبها جيلٌ بجيلٍ إحْتذى

وتنامى رُغمَ هَوْلِ الهَجْمَةِ

*

علةُ الدنيا برأسٍ فاسدٍ

وغريرٍ مِنْ رَعيْلِ الفتنةِ

*

كانتِ الأرضُ بلاداً للوَرى

أطْعَموها مِن رَحيقِ الثورةِ

*

جُلّقٌ قادتْ وبُغدٌ بَعدها

برجالٍ وببَيْتِ الحِكمةِ

*

سرّ من را ولدتْ منْ رَحْمِها

كوَميضٍ بمَسارِ القوّةِ

*

واوها حَرْفٌ أميرٌ ثائرٌ

يَتحدّى بصراطِ النَخوةِ

*

أبْهرَ التأريخَ فعلٌ واعدٌ

بمَزايا مِن خِصالِ الرِفعَةِ

*

أيّها الساعونَ في مَجدِ المُنى

أمّة الفرقانُ صوْتُ الرحْمةِ

*

عاصَرَتْ كوناً بكوْنٍ إنْطوى

واسْتجابَتْ لنداءِ اليَقظةِ

*

وبإقرأ فيضُ حَقٍّ أطلقتْ

أجْلَتِ العقلَ بعَزمِ الفِكرةِ

*

أمّةٌ قادتْ وأحْيَتْ أمَما

أنقذتها مِنَ وَجيعِ الرَقدةِ

*

أعْيَتِ الأزمانَ دوماً والقِوى

وأقامَتْ برياضِ الرَوْعةِ

*

وبضادٍ مُرْتقاها للذرى

إنّها عَزّتْ بضادِ اللغةِ

*

لا تقلْ غابَتْ بعَصْرٍ هادرٍ

بلْ تراءَتْ كوَقيدِ الجَمْرةِ

*

أمّة كانتْ وكوْنٌ ضَمَّها

سَوفَ تَحْيا بانْطلاقِ الكثرةِ

*

كمْ تَبارتْ بعُصورٍ واعْتلتْ

عَرشَ مَجْدٍ برفودِ الهمَّةِ

*

مُنتهى الإشراقِ في قلبِ الوَرى

وهجٌ دامَ وَضيْئَ الطلعَةِ

*

أذكتِ الأفكارُ أرْجاءَ النُهى

قدْحَةُ الرأسِ لهيبُ اليَقظةِ

*

أمّة تَرقى بعَقلٍ قائدٍ

وبشَعْبٍ مُسْتهابِ القيمَةِ

*

أيّها التأريخُ تباً للضَنى

أمّة الإخلاصِ بيْتُ الوَحْدةِ

*

ولها فينا مُرادٌ واجبٌ

فتصدّى بعتادِ العَوْدةِ

***

د. صادق السامرائي

24\11\2022

 

غدا لن أكون هنا،الليلة سأغادر وكرا بلا فواصل،عشا بلا خصوصية، غدا قد تكون نهايتي أو خلاصي من ليالي الأرق، والإحساس الداخلي بعريي أمام نظرات الجيران...، فقدان الرعاية وكتم الأنفاس، وماض من سنوات عمري فوق لحاف من تبن مهترئ، خانق برطوبة، تزاحمني فيه أختي الصغيرة..

دمعات أمي الزائفة وخوفها الكاذب من الغد يذكرني بيوم نعى فيه أهل الحي موت أبي، كانت أمي تهتز بشهقات وأنا أحملق فيها بهدوء نفس لا أجد سببا لعويلها ولا أثق في دموعها؟ ألم يكن في رحيلة راحة مما عانيته بعلمها وأمام عيونها من انكسار قاهر مذل: آلام نفسية وحروقات أشد من طعنات السكاكين؟.. ربما كانت تشهق لفقدان رجل كان بادئ الليل يؤنس سريرها، ثم لا يلبث أن يتركها مدمدما أو زافرا، وأحيانا لاعنا غاضبا قبل أن يندس الى جانبي!!.. ألم تكن تعلم اني كنت أسمع وأرى؟.. بلا.. كانت تعلم لكنها كانت تتناسى وجودي ككيان من لحم ودم واحساس!! ربما بنت الخامسة التي كنتها في عرف أنانيتها سريعة النسيان، لا إدراك لها ولا وعي بما حولها، فأحرى أن تمتلكه أختها الصغرى في عامها الثالث الوجلة بين أحضانها.. صاحيتين كنا، تتسربل دموعنا،لسان أخرس و قلب يتصدع فرقا، حين يرتمي أبونا الى جانبنا حيث لامكان غير هذا قد يأوي اليه في كوخنا القصديري.. ربما كانت أمي تستلذ بفعله، وبه تطمئن،راضية، لأننا كنا لها قربانا هو أهون عليها من أن يتحول زوجها الى امرأة أخرى غيرها تشاركها نذالته ووساخته أو قد تستأثر به عندها..

لم تخبرني أمي شيئا عما قد يحدث لي غدا،رغم تساؤلات الرعب التي كانت تقرأها في عيوني، لقد تركتني لنفسي وكأنها لا تدري مصيري المنتظر اذا ما صرت وجها لوجه مع رجل بلا حماية، كما كانت لا تدري أثر استغلال أبي لجسدي بعد غضبه حين ترفض له رغبات سريره..

صديقة عاشت تجربتي هي من تكفلت بحالي،لازمتني لتشجعني، وتذيب مخاوفي،محاولة وأد الفزع بين أضلعي:

ـ لا تخافي، مصطفى لم يخترك زوجة الا انبهارا بجمالك وتعلقا بك مذ كان يسكن قريبا من حينا، واحمدي ربك انه مقطوع من شجرة ؛ الكبسولة التي معك ستبعد ه عن كل سوء ظن أو ارتياب،تشجعي، أغلب بنات حينا مررن بنفس اللحظة واستطعن الخروج بسلام.. منهن من اكتفت بكبد دجاجة، ثم لا تنسي قوة التميمة التي سأعطيها

لك، يكفي ان ترددي في نفسك وهو يخلع عنك ثيابك: "بزولة أمو تلقم فمو".. ثم تظاهري ببعض الألم اذا ما حاول أن يعاود مسك...

كنت اسائل نفسي:اين تعلمت صديقتي كل ما تريدني أن أتلبس به من خداع ومكر، أوهام، ودسائس؟

مرت الليلة بسلام، فقد كان زوجي لطيفا لبقا،خفف عني الكثير من التوترالذي انتابني من جراء ما استبد بي من رعب، فقد كنت مستعدة للانتحار اذا ما كشف زلتي.. فما ذنبه إن كان رجلا لازال يؤمن بالبكارة كعلامة للشرف والعفة ثم يجد نفسه ضحية بلا سفك دم؟ وما ذنبي وقد تم سفك دمي اغتصابا بلا إرادتي لكن برضى من كان عليها أن تقاوم نذالة أبي؟

لم تحاول أمي أن تسأل كيف مرت ليلتي؟أشك أن يكون الخجل هو ما منعها!!.. فمثلها لا يعرف الخجل، ربما تعمدت الا تثير ماض عانته مع أختي الصغيرة وهي من فضحت سلوكات أبي وخالي من بعده بين أترابها، او ربما هي الثقة التي وضعتها في خبرة صديقتي وقد مرت بنفس التجربة وهي اليوم أم بتوأمين..

مع الأيام شرعت تنتابني آلام حادة أسفل بطني كلما جامعني زوجي، احتفظت بالسر في نفسي لأني خشيت ان أنا أخبرت أمي ان تتنمر علي كما فعلت ذات صباح حين أخبرتها بأن أبي قد أذلني و اسال دمي بلارحمة ولاكرامة، شدت بخناقي وقالت:

سر يجب ان يظل في صدرك والا قتلتك اذا خرج لغيرك،أن تكوني انت خير من أن يهجرني أبوك الى غيري..

هكذا خافت أمي على رجل أن يتركها لغيرها ولم تأبه لحرمة وشرف ومستقبل ابنتها، ربما هي نفسها قد أتته بلا شرف وقد التقطها متسولة تطرق الأبواب..

تفاصيل كثيرة شرعت ألاحظها على مصطفى ، لا انفلت من رقابته، يمنعني من زيارة أمي الا إذا كان معي، ولفترة قصيرة محدودة، يكره زيارتها لي خصوصا في غيابه، كما أنه يقلق من وجود أختي عندي ؛ كنت أحاول ان اتجاهل سلوكه حتى لا افاجأ بما قد يكون يعرفه عن أختي وأمي، وما صارتاه بعد مغادرتي الوكر،فألسنة النميمة لا تنخرس أبدا فهي كبخور الأضرحة اذا لم يكتسحها دخان تنشر روائحها..

توقفت آلام أسفل بطني بعد زيارة لطبيب خاص والذي زف لزوجي خصوبة رحمي بعد شهرين من زواجي، ثم زودني الطبيب إثر زيارة ثانية بأدوية تخفف من تعبي الشديد وإرهاق منعني من القيام بواجباتي نحو زوجي،خصوصا وقد تلبسني خوف مما كان يستحوذ على أمي ويثيرهواجسها:هل يتركني زوجي الى غيري مبكرا؟.. ما يحيطني به مصطفى من عناية يكذب ذلك، وانصافا له فقد شرع يحاول ان يحسسني بالأمان والرعاية، كف عن الجلوس في مقهي الحي أسفل سكنانا بعد نهاية عمله حتى يساعدني في اعمال البيت، يمدح كل مجهود أبذله لارضائه.. وبصراحة فقد تعلقت به كإنسان ثم كزوج شرع يمحو بسلوكه معي كل أثر سيء عن بعض الرجال..

صرت أعاني بعضا من مضاعفات الحمل، ارتفاع الضغط وتراكم السكر في دمي مع آلام حادة في القدمين.. ربما كنت السبب في تفاقم ذلك، فقد أفرطت في الأكل وقد تفتحت شهيتي لخير زوجي وما يجلبه من حلويات أحبها..

تَم نقلي ذات مساء على وجه السرعة الى المستعجلات، ثم لزمت سرير المستشفى أياما في شبه غيبوبة حتى أظل تحت المراقبة.. لم يزدد أمري الا استفحالا بعد عودتي الى البيت، وفي احدى الليالي ايقنت موتي لا محالة..

كان زوجي لا يفارقني، افقد الوعي ساعات وحين أصحو لا أجد غيره بجانبي.. كنت أحس قلقه علي وأتابع رغم وهني مزيجا من نظرات الحب و الشفقة والعطف في عينيه..

بدأت الوساوس تأكلني، لماذا يمتنع عن الاستعانة بأمي؟ حتى أختي يرفض ان تظل بجانبي؟ لا شك أنه يخفي سرا يؤخر البوح به حتى لا يضاعف به آلامي خوفا على ما في بطني منه.. مسكت بيده في إحدى لحظات صحوي وتوسلته أن يستدعي أمي، وضع يدي بين راحتيه ثم رفعها الى شفتيه ؛ انفتقت صرة غيم في عينيه.. كانت أول مرة أرى دمعة تتدحرج على خد زوجي.. قال:

ـ أنا أحببتك كوثرلجمالك وقلبك الطيب العطوف رغم الحزن الساكن في عيونك والألم الذي يعصرك مما مورس عليك من ظلم وتطاول

ولا اريد أن أتعبك أكثر خوفا على جنينك، لكن اصرارك على استدعاء أمك يلزمني بالصراحة.. هي ليست أمك، فلا أم تغض الطرف عما فعله بك ابوك الندل الوضيع الى ان مات مقتولا في معركة لم يكن في مستواها،أما أختك فلا داعي لتعرفي ماصارته وحتى أختصر لك الطريق فلك الخيار بعد الوضع، بيتك أو بيت أمك؟

أكملت في سري: أو مأواي الأخير..

لم أكن في حاجة الى ان اصارحه بواقعي، فقد كان يعرف كل التفاصيل، أدركت الآن انه منذ أن تعرف علي والى اليوم قد مارس معي بلا تبجح ولا تعالي أوفرض سيطرة فضيلة الستر بدل مذلة الفضيحة وهذا لا يقوم به الارجل شهم يريد المرأة لذاتها وما يثيره فيها من صفات، وأنه لا يأبه بما يمارسه غيره من سلوكات وكما عبر عن ذلك مرة:"كل شاة برجلها معلقة "..

تم نقلي قبل الفجر الى المستشفى:كنت موقنة من نهايتي.. لو يمهلني عمري فاشكر يدا اصطفتني باختيار ونفسا رفعت قدري بعد انحطاط، وعقلا قرأ دواخلي بوعي وتقديرومراعاة..

بعد أسبوع من غيبوبة و الكل من حولي متأكد بمن فيهم الطبيب والممرضات اني لن اصحو منها.. فتحت عيني لاجد بنتي تبكي قريبة مني وأجد زوجي يمسح عرق جبهتي وهو يحمد الله على ان وهبني الحياة من جديد..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

حينَ يجفُّ الضياءُ، يَنسَرِبُ في التيهِ .. يسقطُ فَحمُ الله، تَنطفيء كلُّ الألوان، فَتَفغَـرُ الحواسُّ،

تصرخُ بما لا تَدري من الإيقاعاتِ.. بِـدءاً من ولادة الصمتِ.. حتى رُقادِه.. بأنغامٍ وهواجِسَ ..

لاعلاقةَ لهـا بمهارةِ العازفِ، بلْ بحالةِ " آلةِ العزفِ وأوتارها، مشدودةً كانتْ، أم مُنسَرِحَةً ... "

تَتَحَـزَّمُ بالصمتِ، تُحاولُ العودةَ إلى ما قبلِ ظهورِ اللغةِ، وبِـدءِ الزَيفِ..

ستنسِفُ ألغامَ اللغـةِ، كـي تتحاشى الفَصاحةَ، ألاعيبَ التَوريَةِ، وتَهويماتِ المجـاز..

فالوقتُ، وقتُ الجدِّ، لا مجالَ فيه للهزَلِ والتَفَكُّهِ... إلاّ مُخاتلةَ الصدفةِ كي تنجـو بجلدكَ...

كَفاكَ تنتَظرُها (الصدفَة) بصورةٍ منُتَظِمَة !!

ودونماَ قَصدٍ منكَ، ستَنفَتِحُ ستائرُ النسيانِ، وسيستقبِلُكَ (النسيانُ) بممحاته الحنون،

يمسحُ عن قلبكَ كَدَمات الذِكرى، ويغفرُ لكَ أَحزانَكَ،

فَتهرَبُ من دهاليزِ الذاكرةِ أَبخِرَةُ الماضي ..

قبلَ أن"تحتَرِفَ" الغربةَ و"تستوطنَ " الضياعَ مُتظاهراً أَنكَ سائح ...

يومَ فَتحتَ بابَ الرمادِ فسقطتَ في بئرٍ مـن الحمّى...

إذا كان الزمن يتكفَّلُ، حقاً، بإشفاءِ جروحِ الماضي .. فمنْ أَينَ أَينَعَتْ جِراحاتُنا،

حتى إكتَسَتْ شفاهُها بالشوك؟

::::::::::::::::::::::

 قُلنا وكَتَبْنا، على كلِّ درجاتِ السُلّم الموسيقي ونَغَماته،

حتى بَلَتْ عَتباتُـه فصارت نَغَماتُه نشازاً كورالياً من كثرةِ الترديد..

ولم يتبدّلْ شيء !!

نحنُ أيتامُ الفَرَحِ وأَرامِلُه!

مُدُنٌ نزَفَتنا ذاتَ زمنٍ، وتقيأتنا ذاتَ ضحىً مُشمِسٍ...

تَرَكَتْ فينا خوفاً غامضاً،

ظلَّ ينمو بداخلنا، له طعمُ الخطيئة ..

جُرحَ الزمانِ غَدَوْنا... مُتغرّبينَ صِرنا،

نتكيءُ على أرواحنا بصمتٍ مديـدٍ،

مُـدنٌ ضَيَّعتْ يَقينَها.. تأريخَها وأساطيرَهـا، فَغَدَتْ مثل بَغيٍ بلا ذاكرةٍ،

بلا قلبٍ.. يمتلكها مَنْ يُريـدُ أنْ يسفَحَ فيها ماءَ فحولَتهِ !

فَرُحنا نَنْزِفُ خلفَ أَقنِعتِنا البهيجة...

وبعدَ أنْ رَحلنا كَمَـداً، إعشوشَبَ الحنينُ، حتى تَفَضّضَتْ أَوداجُهُ !

وغَدَونا أطفالاً نَقْرَعُ أبوابَ الذكرى،

.. صَيَّرنا رَجعَ صدى صرخةِ أَيـوبَ*.. نصباً من مرمرٍ!

شَبَقُه، يصولُ بدَمِنا، فَنَتَعَثّرُ بِظِلٍّ مُفتَرَضٍ.. !

**

طريدةَ "عيونِ السلطانِ " صِرتَ ...

هرباً من مُطاردةِ العَسَسِ، دَلَفتَ إلى خربة في الشواكة،

شاخَ فيها الزمنُ، تُعمي الموشورَ وتُجَنِّنٌ إبرةَ البَوْصَلة...

تَمشي على هُدُبِ الهاجسِ، كـي لا تتعثَّرَ، فتُزعجَ " صُرمايَةَ " الخَرِبَـة، سَكينَتَها ..

ظُلمَةٌ مُطبِقةٌ، تُقيمُ فيها الصراصِرَ عُرساً من صَفيرٍ يستولِدُ الوحشةَ..

مُثخناً بوطنٍ، منفيَّاً فيه وإليه..

ستظلُّ تَنـوءُ بِجُثَّـةِ وطنٍ تتدلّـى من عُنُقِكَ.. وستنطوي على نفسِكَ، كَمَـنْ يحتضنُ جُرحَـهُ..

ستُسنِدُ ظهركَ للحائط، فتزوركَ زَخَّـةٌ عابرةٌ من غَفوٍ..

إيّاكَ أَنْ تخلعُ حذاءَكَ أو جواربكَ، حتى لا تتزحلقَ في المنام بدمكَ...!

وفيما تُنصِتُ لآلامٍ تَناسَيتَها في زحمةِ "العيش".. وتُطَرّزُ العتمةَ بدمعاتٍ سِرّية،

يَلسعُكَ جسم باردٌ.. لا تَراه...!

أخرَسَتْهُ الظلمة ...

مُتَوَجِّساً، تَمُـدُّ يدكَ نحوه، ولا تزالُ تُرهِفُ السمعَ، للتأكُّدِ منْ أنَّ أَحَـداً، مِمّن يُطاردونكَ،

لم يهتدِ إلى مَخبئك .

بأصابعكَ سَتَراه أَملَسَاً، صامتاً.. ستَحتَضِنُهُ، لتَتعرَّفَ على تفصيلاته..

تُقَرِّبُ أُذنَك منه، فلا تسمع فحيحاً في صدره ...

إذن، هو ليس بمدّخنٍ، تقولُ لنفسِكَ، ولا تَصدِرُ خَرخشة عن رئتين هَدَّهما النيكوتين والربو..!

يا له من محظوظ !!

تتسلَّقُ أناملُكَ إلى أعلى، سترى أنَّ لـه وجهاً أملساً كالقوري (إبريق الشاي)

.. كمْ هو محظوظٌ !! لأنه لا يحتاجُ لحلاقة ذقنه مرة كلَّ يومينِ، على الأقَل !ْ

........................

تروحُ تُجري سياحةً في تضاريسِه..

ها هو بدونِ نظّارةٍ طبية، تَترُكُ حفرتينِ عندَ مَنبَتِ الأَنف...

عيناه بِلا رموشٍ، أو أَجفانٍ تشبهانِ عَدَساتِ التصويرِ..

أُذناهُ عاديتان، سوى أنَّ الصِوان خالٍ من منفذٍ ...

فوراً يقفزُ إلى ذهنكَ الصَمَمُ، الذي أصابَ بتهوفن ...

لا بُـدَّ أنـه كان سعيداً، إذْ تخلَّصَ من سماع التُرَّهات وتَفاهاتِ المحيط ..

أُخدودٌ صغيرٌ حولَ الفم، لنْ يكبر، ولن تُعَمِّقه تجاعيد السنين ..

...................

تُطَوِّقُـهُ بيمينكَ، فيعتريكَ شعورٌ بالحَسَدِ إزاءه، لأنـه لا يُعاقِرُ ثنائيـِّةَ النسيان

والذكرى.. أو غيرهـا من الثنائيات !! أملساً عندَ الصدرِ ينتهي...!

إذن هو بلا رجلين.. وبالتالي لا يُعاني من ركبتينِ معطوبتين !!

يا لسعادته !!

وقبلَ ذلكَ، لا بطنَ له، فلا يشعر بالجوع أو التخمة، ولا يعرفُ ما هي القُرحـة،

لا يفقه معنى أَن يأخذَ تسعَ حبّاتٍ في الصباح وخمساً في الليلِ، كلَّ يوم ..

ولا يخاف أنْ يَصيرَ لـه كرشٌ قبيحٌ !

والله ! لولا الحياءُ، لَقُلْتُ ما شَتَّتَ المَلَلا !

.......................

هو لا يحتاج أَنْ يُشغِلَ نفسَهُ بالتأريخ ولا بـ"نهايته"!، التي إنتهتْ !

ولا حاجةَ به لأَنْ يَنْقَلِبَ إلى لقيطٍ فِكريٍّ، يَنْزَلِـقُ على ظهورِ مَنْ رَفَعوه،

فإنزوى تِذكارهم في ظلامِ الحاضِرِ ..

ولا حاجَـةَ به للخَجَلِ من الشهداء !!

هو ليسَ بحاجةٍ لمُراجَعةِ "دوّامةِ " سارتر ** وغيرها ..

يكتفي بوجوده الساكن، هكذا !!

......................

يا هذا من أين أتيتَ؟

عفواً، لماذا عافَكَ أَهلوكَ؟! أَتُراهم نَسَوْكَ؟

أَم كانوا، مثلنا، نَجَوا بجلودهم؟! فبقيتَ ساهراً على أطلالهم ها هنا؟؟

أنتَ الغريبُ " اللا أَحَـدَ " هنـا .. لـنْ تستطيعَ الهَرَبَ ...

كيفَ تهرَبُ من أشياءَ تسكُنُكَ..!

كُلَّما حاولتَ الهرَبَ منها، ستجدُ نفسَكَ وحيداً معها .. ستنفردُ بكَ .. هِيَ،

أَمّـا أنـا، فسأظلُّ أطوَي حقولَ الليلِ، خارجَ كوكبِ الخوفِ..

أجلسُ، حيثُ أُريد ..

أتأمَّـلُ قوافِلَ زمانـي ..

............................

............................

فعِمْ مساءً، ولا تَبْتَئِسْ من حَسَدي لصِفاتِكَ !!

طابَتْ وحشتُكَ، سميرَ الظُلمَـةِ !!

***

 يحيى علوان

...................

* "العهد القديم"، إصحاح 42

** مسرحيةٌ لسارتر، تقولُ أنَّ قتلَ "الطاغية" لايعني، دوماً الخلاصَ من الأوضاع والظروف التي أدّتْ إلى خلقِ الطاغيةِ ..

فالأخيرُ، هو في نهايةِ المطاف، نتاجُ شعبٍ مُتَخَلِّفٍ وظروفٍ سياسيةٍ سيئة .. وأَنَّ تصفيته فقط، لا تعني إلاَّ إستبداله بآخر .

لأنَّ " أيَّاً كان " الذي يحلُّ محلّه، سيجدُ نفسه مضطراً للتصرُّفِ بالأسلوبِ نفسه...

"لا يُغَيِّرُ الله ما بقومٍ، حتى يُغَيِّروا ما بأنفسهم "!! أي الظروف والمعطيات ... إلـخ

Life maker.

مع ترجمة الى اللغة الانلكيزية بقلم:

الدكتور يوسف حنا. فلسطين.

***

حجرة قذرة مخيفة مليئة بصور مخلوقات غريبة. ملائكة تجر عربات حديدية ملآى بشواهد القبور، حيوانات برؤوس بشر، وطيور لها سيقان زرافات، وأجنحة غزيرة غريبة،وهياكل عظمية متنوعة.

فاجأته وهو غاطس في خلوته يتفحص جمجمة من العسير جدا الوقوف على حقيقة إنتسابها لأنثى أم لذكر .

لم يتجاوز العقد الثالث طويل مثل حبل المشنقة. نحيل وأحدب كما لو أنه الكونت لوتريامون في حفلة جنائزية مريعة.

لا تيأسي يا جمجمتي الغالية. سأنفخ فيك من روحي وأعيدك إلى عالم الكون والفساد.

لن أطيق موتك وسكونك ولا شيئيتك الآهلة بصفير العدم.

أنت جديرة بوجه إلاه أبدي لا يقهر.

كان يرتدي قناع شيطان رجيم.

دفن ساقه اليمنى منذ انتحار ساعي البريد في الكاتدرائية المجاورة . صنعوا له ساقا خشبية تشبه مجذاف قارب فرعوني.

ها هو يتمتم وتحلق كلمات غامضة في الحجرة تطفر مذعورة من شفتيه المتورمتين.

ح ي ا ة . ح ي ا ة . ح ي ا ة .

ع و د ي . ب . إ ذ ن ي . ب . ق و . ة . س ح ر ي .

وضع الجمجمة في إناء نظفه بفرشاة أزال طبقة الغبار الذي يطوقه ألصق عينين نابضتين في محجريها إختلسها من جسد إمرأة حديثة الموت.

لاتنسوا أنه كان مولعا بنبش القبور وسرقة أعضاء الأموات.

لم يكن يتاجر بها بل كان يخبئها

في ورشته المعزولة في دوارق من السيراميك

رائحة الدم والجثث والفناء تضفي على المكان ميسما تراجيديا عميقا.

وضع مكان أنفها أرنبة أنف مهرج سفسطائي. وأدخل طاقم أسنان في فمها الأدرد. راسما بالقلم الأسود حاجبين رقيقين. واعدا إياها بزرع شعر غجري آسر الأسبوع القادم.

كان ضوء المصباح خافتا جدا.

تتسلل عناكب عدمية من عينيه الغائمتين. وإيقاع أمواج متكسرة تضرب قارب هواجسه الكثيفة.

الآن إنتهى كل شيء . الآن أتممت عليك نعمتي وعما قليل ستعودين إلى الحياة. وكذا نتخلص من شأفة الموت والخراب.

الأشياء الجميلة لا يجب أن يطالها الفناء في ملتي واعتقادي .

الموت هو ذئب مخصي يعدو وراء ضحاياه منذ البدايات.

أنا صانع الحياة وباعث الموتى من الأجداث.

أنا الإلاه الذي سيسر العالم من فتوحاته الخارقة.

***

بقلم فتحي مهذب تونس

.........................

Life maker

By Fathi Muhadub

Tunisia From Arabic Dr. Yousef Hanna / Palestine

***

A scary filthy room filled with pictures of strange creatures. Angels pulling iron chariots filled with tombstones، animals with human heads، birds with giraffe legs، strange abundant wings، and various skeletons.

*

I surprised him، immersed in his seclusion، examining a skull that it is very difficult to identify its affiliation، female or male.

*

He was not older than the third decade of life، as long as the noose. Skinny and hunched، as if he's Comte de Lautréamont (1) at a terrible funeral party.

*

Do not despair، my precious skull. I will blow on you from my soul and return you to the world of the universe and corruption.

*

I will not bear your death and stillness، nor your objective inhabited with the whistle of nothingness.

*

You are worthy of a face of an eternal، indomitable god.

*

He was wearing an accursed demon mask.

*

He has buried his right leg in the nearby cathedral since the postman committed suicide.

*

They made a wooden leg for him، similar to the oar of a Pharaonic boat.

*

Here he is murmuring and mysterious words are circling in the room، sputtering in panic from his swollen lips:

*

ـ L i f e... L i f e... L i f e...

*

ـ Come back with my permission، with my magical power.

*

He placed the skull in a vessel، cleaned it with a brush، removed the layer of dust surrounding it، affixed two pulsating eyes in their orbits which he stole from the body of a recently dying woman.

*

Do not forget that he was fond of exhuming graves and stealing organs of the dead.

*

He was not trading it but hiding it

*

In ceramic beakers in his insulated workshop.

*

The smell of blood، corpses، and annihilation gives the place a profound tragedy.

*

He replaced her nose by a nose tip of a sophistic clown. And inserted a denture into her edentulous mouth. He drew thin eyebrows with a black pen. Promising her to transplant captive gypsy hair next week.

*

The lamp light was very dim.

*

Nihilistic spiders sneak out of his cloudy eyes. The rhythm of the breaking waves hit the boat of his intense obsessions.

*

Now it's all over. Now I have completed my blessing on you، and you will return back to life. As well as get rid of the scourge of death and devastation.

*

Beautiful things should not last to annihilation in my beliefs and multitudes.

*

Death is a castrated wolf running after its victims since the beginnings. I am the life maker and the emitter of the dead from graves.

*

I am the god who will delight the world through its marvelous conquests.

...................

(1) Comte de Lautréamont was the nom de plume of Isidore Lucien Ducasse، a French poet born in Uruguay. His only works، Les Chants de Maldoror and Poésies، had a major influence on modern arts and literature، particularly on the Surrealists and the Situationists. Ducasse died at the age of 24.

في نصوص اليوم