آراء

الجولان.. إلى أين؟

محمد العباسيالجولان هي هضبة تقع في بلاد الشام بين نهر اليرموك من الجنوب وجبل الشيخ من الشمال، وهي تابعة إدارياً لمحافظة القنيطرة (كلياً في ما مضى وجزئياً في الوقت الحاضر). تقع هذه الهضبة بكاملها ضمن الحدود السورية، ولكن في حرب 1967 تمكن الجيش الإسرائيلي من احتلال ثلثي مساحتها، حيث لا تزال إسرائيل تسيطر على هذا الجزء من الهضبة حتى يومنا هذا في ظل مطالبة سورية بإعادتها إليها..

أغلب الشعب العربي من السوريين الذين لا يزالون في الجانب الإسرائيلي من الجولان هم من الطائفة الدرزية، وقلة من العلويين.. وجميعهم يندرجون تحت مظلة القانون والقضاء والإدارة الإسرائيلية، رغم أن هيئة الأمم المتحدة لا تزال تعتبر الجولان أرضاً سورية محتلة. الغريب في الأمر أن في 1974 تم الاتفاق على خط هدنة بين "حافظ الأسد" والإسرائيليين مباشرة بعد حرب الـ 1973 بين مصر وإسرائيل وتحرير سيناء. فقد تقدمت حينها الولايات المتحدة بمبادرة دبلوماسية أسفرت عن إبرام اتفاق لفض أي اشتباك محتمل بين القوات الإسرائيلية والسورية، ونص الاتفاق على منطقة للفصل ومنطقتين متكافئتين من القوات محدودة السلاح على الجانبين في المنطقة وطالب بإنشاء قوة مراقبة تابعة للأمم المتحدة للإشراف على تنفيذها. 

وفي السنوات اللاحقة أدت قوة المراقبة مهامها بتعاون الطرفين وظل الموقف على القطاعين الإسرائيلي والسوري هادئا. ومنذ ذلك الحين يتعاون الطرفان بالكامل مع البعثة الأممية مما شجع وفتح الباب لحوالي 20000 مستوطن إسرائيلي للانتقال إلى الجولان وتحويلها بوضع اليد إلى أرض تابعة للكيان الصهيوني في ظل صمت رسمي سوري حتى يومنا هذا، حتى تجرأ "بنيامين نتنياهو " وأعلن منذ حوالي سنة فقط أن هضبة الجولان أرض إسرائيلية وستبقى كذلك إلى الأبد!!

وأنا لست هنا بصدد الخوض في قضية الجولان في ظل الظروف العربية البائسة، ولا نية لي في إثارة قضية الجولان كحجة على نظام الحكم في سوريا.. لكنني أطرح هذه المقدمة المختصرة لأخوض في مسألة إنسانية بحتة.. وضع أهلنا ممن صمدوا في الجولان ولم ينزحوا مع إخوانهم النازحيين حينها ممن إستقروا في إطراف دمشق هرباً وخوفاً من البطش الإسرائيلي.. هل يمكننا اليوم في ظل المآسي التي يعيشها الشعب السوري في وطنهم من بطش النظام السوري تجاههم أن نقول بأن أهلنا في الجولان محظوظين وأفضل حالاً في أرضهم المحتلة؟ هل سيستسلمون أخيراً ويرضون بالإنتماء للدولة العبرية؟ هل سيفقدون الأمل أو بقايا أي أمل في العودة والإنتماء إلى الوطن الأم والعيش في سلام وأمان وحرية و"كرامة"؟

هل ستدفع المآسي الواقعة على أهل سوريا بشكل عام خلال السنوات الأخيرة هؤلاء السوريين الصامدين في الجولان المحتلة أن يختاروا الكنف الصهيوني هرباً بجلودهم من عنف النظام السوري من جانب وسطوة الجماعات الإرهابية؟ فكثير من أهل بلاد فارس مثلاً يتندرون على أيام "الشاه" رغم مساوءه وظلمه.. وكثير من أهل العراق يتباكون على أيام "صدام".. وأغلب أهل ليبيا يتحسرون على دكتاتورية "القذافي".. وكذلك الأمر في أفغانستان بعد "نجيب الرحمن".. وربما هكذا سيؤول إليه الوضع إذا نجح أهل السودان هذه الأيام في تنحية "عمر البشير".. ولكم في بقية ضحايا الأنظمة السابقة في الكثير من دول العالم ممن إنقلبوا على حكامهم ثم ذاقوا الأمرّين ممن ظنوهم مخلصيهم أمثلة صريحة على فداحة الأثمان في طلب الحرية.. وليس العيب في المطالبة بالحريات، لكن العيب يكون دائماً فيمن نسلم لهم رقابنا دون أدنى بُعد نظر!

لذا لن أستغرب كثيراً إذا تحركت جموح من النازحين من هضبة الجولان منذ 1976 ممن استقروا في بعض بقاع سوريا بالمطالبة بالعودة إليها هرباً من المجاعة والقصف والتعذيب في معاقل "الأسد" وأعوانه من المرتزقة الإيرانيين والعراقيين والباكستانيين والأفغان، وطبعاً من المرتزقة من أتباع "حزب الله".. وهرباً من القصف الروسي الوحشي على مدنهم وقراهم ليل نهار، وخوفاً من الجماعات الإرهابية من أتباع الدواعش وأذناب القاعدة.. ولا أظن بأن نظام "بشار الأسد" سيمانع هروب المواطنين السوريين من ديارهم وملاجئهم في الداخل السوري نحو أحضان الكيان الصهيوني، فللنظام مآرب في تهجير غير العلويين وغير الشيعة من الأراضي السورية بكل الوسائل المتاحة.. فها هي تشعل النيران في محال المناطق السنية حول دمشق لإجبار أهلها على النزوح بدعم وتنفيذ الخطط الإيرانية ومطامعها في تحويل سوريا إلى ولاية شيعية خالصة تتبع النظام الإيراني والولي الفقيه.. والغريب أن الكل يعلم بأن النظام السوري العلوي لا يتبع المذهب الشيعي الإثناعشري ولا يؤمن بدين الإسلام ولا أي مذهب بعينه، بل يتبع الفكر البعثي الإشتراكي (المنحرف كلياً عن كل دين).

يقول المفكر والكاتب الفلسطيني "غازي التوبة" في ذلك: "لم يكن حزب البعث طوال الخمسين سنة الماضية "لادينياً" فقط، بل مارس العنف نحو الدين والمتدينين، وحاول اقتلاع الدين من حياة الشعب، واعتبره منبعاً للخرافة والأوهام والسلبية، واعتبره مطيّة للرجعيين والأغنياء، لذلك سخّف كل مقولاته، واعتبر أن الانتقال إلى النهضة والدخول إلى عصر الحداثة يتطلبان محو الدين من حياة الشعب" (الجزيرة.نت 2011).

كذلك كان العنف هو السمة التي ربطت قيادة البعث بجماهير الشعب السوري، فباستمرار كان هناك بطش بفئة من الفئات، سواء كانت طائفة مذهبية أو جماعة سياسية وحزبية، ولم يكن البطش قط تحت المظلة الدينية، بل كانت ضد كل كان يشكل تحدياُ للفئة الحاكمة وحزب البعث. ففي عام 1963 تم البطش بالناصريين، ثم جاء البطش بالإسلاميين عام 1964، وفي 1965 مورس العنف الوحشي من خلال قصف واحتلال المساجد في حماة وحمص ودمشق.. ثم جاء إقصاء الدروز والبطش بهم عام 1966، ثم جاء إقصاء الإسماعيلية والبطش بهم عام 1969، ثم جاء تدمير حماة عام 1982 والتنكيل بالمئات في مجازر هوجاء.. وها هو الآن يعود إلى العنف والقصف والبطش في مختلف المدن وتجاه مختلف جماهير وطوائف سوريا، في درعا وحمص ودمشق وضواحيها وأريافها، واللاذقية وبانياس ودير الزور وإدلب.. بل وها هي مدينة حلب التي صمدت عبر القرون الماضية ضد كل الغزاة والمحتلين من الروم والفرنجة يقاسون الويلات من نظام "بشار" وأزلام الإيرانيين وأتباعهم، ومن قصف الطائرات الروسية بلا هوادة.

وهكذا نعود إلى الحكم بأنه (من سخرية القدر) ربما يكون أهلنا الصامدون في الجولان هم الأوفر حظاً وأمناً في كنف الكيان الصهيوني الغاشم! فهل بلغ بنا اليأس والأسى في أن نرضى بمظالم الصهاينة رغم طول الصبر على شقاء الاحتلال الغاشم وبعد سنوات طوال من التمسك بعروبتنا والأمل في لم الشمل والعودة لكنف سوريا الأم حين نشقى من مآسي حكوماتنا وبنو جلدتنا؟؟ أو كما يقول المثل: "رب ضارة نافعة"!! ومؤخراً، في شهر فبراير الماضي رحل عن الجولان المناضل السوري "احمد القضماني" (ابو مجيد) عن عمر ناهز الـ83 عاما، الذي قضى عمره في النضال من أجل وطنه الأم سوريا، كما عرف بمواقفه الأمميّة المبدئية ومناصرته لفلسطين وقضيتها العادلة.. وقد تعرض القضماني للاعتقال مرات عديدة لمواقفه المعارضة لمحاولات فرض الهوية الإسرائيلية على السوريين في الجولان.. وشارك القضماني في صياغة الوثيقة الوطنية عام 1981 رفضاً لقرار الاحتلال الإسرائيلي القاضي بضم الجولان إلى دولته.

ربما رحل عن الجولان عشرات الأبطال ومات منهم من مات دون أن يرى بريقاً لعودة أرضهم المسلوبة للوطن الأم، غير أن الحلم الإسرائيلي المدعوم أمريكياً لم يمت بعد.. فقد ذكرت صحيفة "يسرائيل هايوم" العبرية قبل أيام، أن الحزب الجمهوري قد بادرا بطرح مشروع قانون ملزم، وليس تصريحي أو إعلاني، أمام مجلس الشيوخ الأمريكي، على أن أي تطرق أمريكي إلى إسرائيل وكل تعاون بين البلدين مستقبلا، سيشمل مرتفعات الجولان، باعتبارها جزء من إسرائيل. وأفادت الصحيفة العبرية بأن الصيغة المقترحة تشير إلى أن الحديث بأن السياسة الأمريكية هي الاعتراف بإسرائيل كدولة ذات سيادة على مرتفعات الجولان، حيث لا يتوقع أن يواجه المقترح معارضة من الإدارة الأمريكية. وأضافت الصحيفة أن مشروع القانون الأمريكي سيستعرض من خلال بنوده ما أسمته الصحيفة بـ"العدوان السوري" منذ إقامة إسرائيل في العام 1948، والتموضع العسكري الإيراني في سوريا في السنوات الأخيرة، كما يذكر القانون أيضا أن رؤساء الولايات المتحدة تعهدوا في السابق بأنهم عندما يضعون موقفاً بشأن قضية الجولان، سوف تؤخذ في الحسبان الاعتبارات الأمنية الإسرائيلية، وأن إسرائيل ضمت الجولان رسميا، في عام 1981 (موقع سبوتنيك عربي).

و قد دفعت الأحداث في سوريا والتهديدات الإيرانية في المنطقة لبحث إمكانية الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، إلى واقع عملي، إذ يبدو أن هذا الاعتراف أصبح وشيكاً في ظل التقارير التي تتحدث عن الانتهاء من صياغة مشروع قانون في هذا الصدد وعرضه على الكونغرس الأمريكي للنقاش من منطلق أن لدى الولايات المتحدة الأمريكية "مصلحة أمنية" بشأن ضمان تعزيز سيطرة إسرائيل على الهضبة، وأن هذه المصالح تحتم عليها إعلان اعترافها بالسيادة الإسرائيلية على الجولان بشكل نهائي. وتتمحور المناقشات حول إذا ما كانت هذه الخطوة ستحقق المصالح الأمنية للدولة العبرية وللولايات المتحدة الأمريكية من عدمه.. وقد توصل المجتمعون إلى فرضية أن الاعتراف الأمريكي سيحول دون قيام الجيش السوري مستقبلاً بشن هجوم مفاجئ لاستعادة الهضبة، وسوف يكون عليه الدخول في مسيرة سياسية عبر المفاوضات لاستعادة الجولان في النهاية، لكن الاعتراف الأمريكي بسيادة إسرائيل سيشكل رادعاً سياسياً أيضاً أمام السوريين. وربما لم تهتم أمريكا للتهديدات الإيرانية (الجوفاء) الآتية من بعيد فيما سبق، غير أن التواجد الإيراني في سوريا وعلى مقربة من الحدود الإسرائيلية تضع التهديدات في خانة من الجدية.. لذا لم تكف إسرائيل عن قصف التجمعات الإيرانية في سوريا، وإن كانت من باب التشديد على اقتراب الخطر الإيراني وإثارة الرأي العام في أمريكا على ضرورة التحرك من أجل حماية مصالحها في المنطقة

 

د. محمد العباسي

 

في المثقف اليوم