آراء

عبد السلام فاروق: الوصفة الصينية!

ليس سراً ما فعلته الصين فى السبعين سنة الأخيرة.. الخطة كلها معلنة لكن لا يقرأها أحد!

عندما تفهم الأساس الذى قامت عليه الصين الجديدة ربما تشعر بالأمل ، لأنه نفس الأساس الذى قد تسمعه فى أية محاضرة عادية فى سائر الدول النامية! إنها فكرة الاعتماد على الإنسان كمورد رئيسي والاهتمام به كمصدر أول لكل تقدم..مسألة الاهتمام بالعنصر البشرى هى الأساس الذي ترتكز عليه رؤية مصر 2030 لاستثمار عبقرية المكان والإنسان والارتقاء بجودة حياة المصريين.

الخدعة الصينية!

منذ بدء قيام الصين الشعبية عام 1949 وحدوث التحول الجوهرى فى منظومتها القيادية والإدارية على كل المستويات، بدأت الصين بالارتماء فى أحضان الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولى بكل قوة..لدرجة أن أمريكا ظلت طوال الوقت تعتبرها حليفاً مخلصاً، أو قل تابعاً وفياً!

ومنذ أواخر تسعينيات القرن الماضى، بدأ بعض المنظرين والمفكرين فى الانتباه للخط البيانى الصاعد باستمرار فى مؤشرات الاقتصاد الصينى وأنها تقترب بشكل مخيف نحو المؤشرات الأمريكية وتكاد تتفوق عليها، لهذا دق بعض هؤلاء المنظرين جرس الإنذار فى محاولة لتنبيه صناع القرار فى أمريكا أن استمرار الصعود الصينى بهذه الوتيرة يعنى أن الوقت سيأتى سريعاً لتصبح أمريكا رقماً ثانياً فى معادلة الاقتصاد العالمى، وهو ما لا تسمح به أمريكا..

وجاءت أحداث 11سبتمبر2011 لتتحول بوصلة الاهتمام الأمريكي إلى مكافحة الإرهاب ولاشئ آخر..هكذا سنحت الفرصة للصين لتستغل انشغال أمريكا بحروبها الوهمية والمصطنعة حتى تنطلق انطلاقتها الكبري. وبمجرد أن أفاقت أمريكا وهى تحصى غنائمها وخسائرها من حربها الطويلة الدامية فى العراق وفى أفغانستان حتى عادت إليها هواجس التفوق الصينى المنذر بنزع تاج الزعامة من رأس العم سام! هنا فقط بدأ التحرك الفعلى لإعاقة التنين الصينى ونزع أجنحته ومخالبه..

الأمر بدأ مع تولى ترامب مقاليد الحكم، حيث تم الدفع بقضية الصعود الاقتصادى الصينى على قمة أولويات أمريكا.. هكذا بدأ اتخاذ إجراءات اقتصادية تعسفية ضد الصين، وظهرت قضية شركة هواوى المفبركة، كما ظهرت فى أواخر العهد الترامبي قضية أخرى لم نعلم مدى صدقها من كذبها، وهى قضية التجسس السيبرانى الكبير على مؤسسات فيدرالية، وهى القضية التى اتخذتها أمريكا ذريعة للبدء فى المرحلة الثانية من المواجهة ضد الصين، حيث تحولت الصين فجأة من صديق وحليف إلى العدو الأول لأمريكا!!

المرحلة الثانية من المواجهة الأمريكية الصينية بدأت فى أوائل ولاية جو بايدن..عندما قرر سحب جزء كبير من قواته فى ألمانيا والشرق الأوسط لإعادة التموضع فى خطوط المواجهة مع روسيا والصين.. هكذا تحركت القوات الأمريكية على تخوم الحدود الأوروآسيوية، وفى بحر الصين الجنوبى استعداداً لما سيأتى..ونحن نعلم ما جرى بعد ذلك..إذ تم جرجرة روسيا لخوض حرب طويلة على حدودها مع أوكرانيا، وكان يتم التخطيط لجر الصين لحرب مثيلة فى تايوان إلا أن الصين بدت أكثر دهاءً من أن تنطلى عليها الخدعة الأمريكية المتكررة، فحاصرت تايوان لكنها أبداً لم تقتحمها..

النتيجة هى أن الولايات المتحدة الأمريكية تنزف بشكل مستمر نزيفاً اقتصادياً دفعها لرفع الفائدة مراراً، وتسبب فى انهيار بعض البنوك الكبري مع الاضطرار لرفع سقف الدين الخارجى بعد صراع بايدن مع الكونجرس، والبقية تأتى..فيما ظلت الصين تكسب أرضاً جديدة كل يوم بتحالفات اقتصادية ومكاسب مستمرة كان آخرها ما تم من إقرار البنك الدولى باعتبار اليوان الصينى من العملات المقبولة لرد الديون لدى دول أمريكا الجنوبية!

ضربة البريكس

مع النزيف الاقتصادى المستمر فى المعسكر الغربي.. معسكر حلف الناتو وعلى رأسه أمريكا.. حدث ما لم تتوقعه أمريكا ولا دول الحلف الأوروبي وعلى رأسهم فرنسا..لقد انسحب البساط الإفريقي من تحت أقدامهم بشكل سريع ، والأهم أن العداء والكراهية ضد هذا المعسكر تتصاعد باستمرار غير مسبوق..

سلسلة مستمرة من الانقلابات العسكرية تمت فى الغرب الإفريقي، آخرها ما حدث بالجابون والنيجر ومن قبلهما بوركينا فاسو، لتجد فرنسا نفسها فى موقف لا تحسد عليه..وأصبح التهديد بالتدخل العسكرى فى إفريقيا من جانب فرنسا لا يزيد الوضع إلا اشتعالاً وتفاقماً.. ما يعنى أنه حتى لو قررت فرنسا إعادة استعمار تلك الدول فإن ردة الفعل ستكون أسوأ من المتوقع، وشدة الكراهية والرفض لكل ما يمثله الغرب المستعمر والقوى الغربية سوف تسارع بوتيرة صعود نجم المعسكر الشرقى أمام المعسكر الغربي.. الأول بما يمثله من وعود باستثمار آمن يضمن للشعوب حقوقها، والثانى بما يمثله من استغلالية وانتهازية ونهب للشعوب تحت سطوة السلاح وهيمنة التهديد باستخدام القوة فى حالة نزع ثوب التبعية المهين والتخلى عن قيود الاستعمار بالوكالة.

ثم جاءت قمة البريكس لتزيد الطين بلة، وليقف أمامها المجتمع الغربي عاجزاً لا يدرى كيف يرتق سلته الاقتصادية بعد أن غزتها الثقوب من كل جهة..هزيمة أوكرانيا، وارتفاع سعر النفط، وخروج روسيا من اتفاقية الحبوب..والآن ها هى مجموعة البريكس تضم أعضاء جدد من حلفاء أمريكا القدامى، ويخرج بوتين عليها بخطاب منذر باستهداف الدولار، واستخدام كل الأدوات الاقتصادية المتاحة لدحره!

معجزات حققتها الصين

سبعون عاماً فقط كانت كافية لتقفز الصين من ذيل القائمة إلى قمتها.. فكيف حدث هذا؟!

حتى ثمانينيات القرن الماضى كان نصيب الفرد من الناتج المحلى الصينى أقل من 200 دولار، فكيف تم رفع مستوى 800 مليون صينى من تحت خط الفقر إلى مستوى يتراوح بين المتوسط إلى الثراء الفاحش، لدرجة أن يصبح أغنى مائة رجل فى العالم نصفهم من الصين، ولتصبح الصين أكبر مستثمر فى سندات الدين الخارجى الأمريكي! فلا تقل أن اقتصاد الصين هو الثانى عالمياً بعد أمريكا، ولا أن جيشها هو التالى من حيث القوة..بل قل أن الصين هى الأسرع نمواً فى العالم، وقد باتت على مرمى حجر من أن تصبح رقم واحد وأن تسبق أمريكا فى كل مؤشرات القوة والتفوق.

الصين اليوم لها اليد الطولى فى سلاسل الإمداد التجارية، والدليل ما حدث أثناء كورونا عندما باتت الصين هى المتحرك الوحيد تجارياً، وبفضلها خرجت أوروبا من أزمتها الخانقة..فى ذات الوقت الذى تلعب فيه الصين دور المصنع رقم واحد فى العالم، لأن لديها بنية تحتية صناعية لا يضاهيها فى قوتها أى بنية فى العالم المتقدم حتى فى أمريكا نفسها.. فإذا كانت هى التاجر الأول عالمياً باعتراف الكافة، فماذا يكون حالها بعد اكتمال مشروع طريق الحرير؟!

لم تحدث التنمية فى الصين طفرة ولا فجأة وإنما بالتدريج وعلى مهل، فمثلاً عندما قررت أن تنتهج سياسة الانفتاح كوسيلة لإحداث تكامل اقتصادى جربتها أولاً على أربع مدن ساحلية ثم على 14 مدينة قبل أن يتم تعميم التجربة على سائر مناطق الصين.. كذلك اتخذت الصين لنفسها نهج الاستقرار أولاً وقبل أى شئ.. بمعنى ألا تسمح لنفسها بخوض أى نوع من النزاعات، بل إنها لجأت مبكراً لتصفير كل المشكلات الحدودية، وتحييد جميع الانقسامات الاجتماعية داخلياً ، بحيث يصير الهدف الأوحد لجميع فئات الشعب الانطلاق نحو الثروة والرفاهية من خلال العمل والابتكار باستمرار..

الوصفة.. قابلة للاستنساخ

كل يوم نسمع عن إنجاز ضخم من صنع الصين..آخر هذه المنجزات ما حدث فى إبريل الماضى من نجاح تجربة الشمس الصناعية وتجارب توليد الطاقة من الاندماج النووى، وأن التجربة شهدت نجاحاً جزئياً بعد 120 ألف محاولة سابقة فاشلة! إنها عزيمة يبدو أنها أقوى كثيراً مما توقعته أمريكا..

المبدأ معروف وقائم، والتجربة المصرية شاهد على صحته.. أن العنصر البشرى هو الأهم فى المعادلة، وأن توحيد المجتمع على مشروع قومى موحد يتجه نحو العمل والابتكار ضرورة لتحقيق ثمرة هذا المبدأ الذى أثبتت الأيام على مدار السنوات القليلة التى حظيت بقيادة الرئيس السيسي للمسيرة المصرية أن هناك رؤية ورؤيا للغد ، ليست إلا لدَى السيسي وحده ، وأنه قادر حقاً على تحقيقها دون غيره.

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم