آراء

مات الزعيم.. عاش الزعيم

علي ثوينيرصدت خلاف محتدم بين من يمجد ثورة تموز 1958 ومن يحن (نوستالجيا) إلى الحقبة الملكية، وحسبي أنه أمر طبيعي لدى العراقيين الذين دئبوا في تأريخهم الإجتماعي إلى البحث عما يفرقهم ويكرس خلافاتهم، بل ويؤلمهم ويجلد ذاتهم. ومكثت أراقب مايكتب ويعلق من طبقات الوعي وشطط التوجهات وشتات الأهواء والمصالح. وقد أعجبني انمن كان أهله يأنون الفاقة في العهد الملكي يحن على تلك الايام رغم ماكسبه من الثوره فيما بعد، في حالة مازوكية معلنه، ويجد المبرر أن الملكية لو بقين لأصبحنا مثل مملكة السويد والنرويج، وهذا محض هراء، فلكل مجتمع طبيعة في إختيار نظامه السياسي، وأن تلك الممالك تملك ولاتحكم بينما مملكتنا كان عبدالإله ونوري السعيد إنكليز أكثر من الإنكليز، من اثر دونية متلبسة في السجايا.

وثمة واقع يشير إلى أننا اليوم على بعد 62 عام من ثورة تموز و أن عبدالكريم المثير للجدل بل محوره الأساس، مات وشبع موت، وأن من تآمر عليه (وكان آخرهم عبدالغني الراوي مات 2011 في الرياض)، ماتوا جميعا، ولم نجد من يشهد إلا ضمائر حيه وواعية وقصاصات من كتابات هنا وهناك واناس مكثوا وعايشوا وأحتفظوا بذكريات تحتاج إلى تدوين وتحليل وغستنتاج . لقد بدأ موت الرعيل الذي قتل عبدالكريم منذ اليوم الثاني لأنقلاب شباط 1963، حينما تحركت آلة سماوية للإقتصاص منهم وأحد أثر آخر، سواء بالخزي والعار كما الركابي وعلي صالح السعدي أو أخرج من حفرة العار كما صدام، أو لفه الغموض والتكتم كما جل الرعيل الناصري والبعثي وحتى الشيوعي والقومي الكردي. وهكذا فإن تلك الصفحة طويت رغم ألمها وتبعاتها وتأسيسها لما نحن عليه اليوم من ضياع.

الأمر الأهم فيما أريد إيضاحه لمن مع ثورة تموز أو مناهض لها، بأن حركة عبدالكريم ورفاقه كان جموح وطموح ومبادرة أنساقت مع متطلب شعبي عراقي هيئتها إنقلاب عسكري تقليدي وبيان أول يذاع من المذياع، وتحول من ملكية لجمهورية. لكنه سرعان ماتحول إلى ثورة وشعبية بل أججت المشاعر وخلقت حالة من التفاؤل وبادرت للإرتقاء وأيدها جل طبقات الشعب، وبدأت بخطوات للإنقاذ وتنفيذ ما شرعه مجلس إستشاري مكتبي تقليدي، اسمه (مجلس الإعمار) دس المشاريع بورقها الأنيق في مخازن أمينة تسيرها إدارات مترهلة، لمشروع دولة شبه معدوم، فلا مصلحة لأحد في السلطة الملكية بأن يرتقي الجمهور العراقي، بل كان همهم زيادة إمتيازاترالنخب السلطوية وفتات يرمى لمن حولها، وتدوير للكراسي، بفقر وصلت نسبته 95% من العراقيين، و85% أميه ومدن خربه وقرى خاوية هجرها الفلاح هروبا من تعسف الشيوخ. وحسبي أن من يقرأ الأحداث متخيلا واقعها في حينهاوفي ظرفها ضمن الحرب الباردة، ومرحلة تصفية المستعمرات وصعود نزعة التحرر الوطني وسطوع الشعارات الوطنية،  يكون الاقرب إلى تفهمها وإستيعاب حقيقة ما جرى خلاها، بل وسبب للثورة، فعبدالكريم لم يكن يحتاج إلى مال لزهدة أو جاه لتواضعه ولا منصب كونه ضابط سامي، وأسم علم داخل العسكرية العراقية.

ما أثار إستغرابي من خلط العراقيين، أن بعض المحبين للزعيم يمجدون مرجع الشيعة سيستاني، ويروجون للطائفية والتشيع ويمجدون بإيران ويطبلون للمناطقية والعشائرية، وحسبي انه التناشر بعينه . فلم يكن الزعيم عبدالكريم على علاقة طيبة من مراجع ومشايخ وكهنة الدين، الذين تضرروا بوجود سلطة قوية، تهمشهم، وتوقف مدهم (الرجعي) الواقف علانية ضد تنوير المجتمع، ويأتي ضمن تضامن السرمدي مع الإقطاع الذي تضرر بالصميم. ونتذكر بهذا السياق وبشهادة المرحوم المعمار محمد مكية حيث قال بأن محسن الحكيم المرجع الشيعي كان الأكثر عدائية لتاسيس جامعة الكوفة خشية من إنتشار الوعي لدى الشيعة.والأمر الأهم ان عبدالكريم لم يكن طائفيا البته، فهو سني و لم ينحاز لطائفة ضد أخرى، بل أن من أنصفهم وبنى لهم البيوت كانوا من الشيعة الذين أخلصوا له الولاء وحفظوا العهد والذكرى .وهذا يؤكد طبيعة العلاقة بين الشعب و سلطته،، فلايهم بأنها تمت الصلة لأي طائفة ودين، إذا توفر شرط العدل وحقق لهم ما حلموا به من حياة كريمه.

ومن أغرب ما أقرا لشخص مقيم في ببريطانيا محب لعبدالكريم قاسم، لكنه مدافع مستميت عن الأمريكان وعن نوري مالكي.. فلم أدرك بكل ما أوتيت من الجمع مين المتناقضات والمقارنات بأن عبدالكريم لم يكن طائفي متعصب، ولا عميل لمحتل، وسارق وفاسد مثل نوري مالكي ولم يكن يحمل هوى وإنحياز أمريكي. بما يؤكد أن نأي الوعي العام قد أفرز حالة من النزق في الموقف الذي يجمع النقيض مع النقيض، بحالة لم أجد وسيلة لتبريرها، ويحضرني ما قاله المرحوم علي الوردي (إن العقل البشري قادر أن يخلق الحجج التي يتذرع بها لتبرير أي عمل يقوم به مهما كان سيئا).

كان خطأ عبدالكريم الفادح هو التوقيت الخطأ، فقد جاء بوقت غير مناسب لتستوعب مقاصده العقلية العراقية المنحازة للإستحواذ الشخصي والفئوي، والمتقبلة بترحا لإذلال سلطة غاشمه (كما حدث سنين البعث)، وغير المتفهمة لمركزية القرار السلطوي وإستقلاله، وعدم إدراك مديات الحرية الشخصية والعامة، وعدم الإلتزام بل الإطلاع على ما يدور في كواليس السياسة العالمية..

 فقد ناصبة الأكراد العداء كونه لم يحقق لهم مأربهم بالإنفصال المرفوض شعبيا ويدعوه (الحقوق القومية)، وعادوه أهل الموصل كونه ألغى النصاب السابق حينما كانوا يتبوأون مناصب الدولة السامية بغالبها ويأتون بجماعاتهم للهيمنة على دوائر الدولة والعسكرية، ووجدوا بعبدالناصر وتحريضه لهم وإمدادهم بالسلاح سبب في رفضهم لسلطة الثورة. وناصبه جل التركمان العداء كونه سحب منهم الإمتيازات العصمنلية التي سارت وتصاعدت خلال الحقبة الملكية، فكان لبقايا العصمنلية الحضوة والسبق السلطوي، وإن عبدالكريم لم ينصرهم في نزاعم مع الأكراد الذين يهددون وجودهم، فوجدوا جلهم في التوجهات القومية العروبية ضالتهم، وأقلهم أنحاز للقوميين الأكراد نفاقا وتقية . وناكفه العروبيون والناصريون كون لم ينصاع لهم في الوحدة الفورية التي تكسر هيمنة عبدالناصر على العراق وهو حلم سرمدي منذ زمنة الفراعنة لهيمنة مصر على العراق. وقد كانت شعبية هؤلاء في وسط بغداد والأعظمية وغرب العراق والموصل، ويمتد حتى الفرات الأوسط بإيعاز وغمز من المراجع الشيعية التي أرادت أن تحارب الشيوعية (الملحدة) بهم بإيعاز من المخابرات الأمريكية التي يرتبطون بها وتتحكم بهم، ومنهم حتى أكبرهم محسن الحكيم. وعاداه الشيوعيون كونه لم يلتزم بما يريده السوفيت والمخابرات السوفيتيه المهيمنة على القرار الشيوعي العراقي .وتآمر عليه البعثيون الذين مكث مجالهم المعسكرات التي تعج بالضباط التكارته الذن أصبحت الحمية والتعصب التكريتي يعني ولاء للبعث وعبدالناصر وعداء لعبدالكريم، بل أن هذا الرعيل أتصل بالمخابرات الأمريكية منذ بدايات الخمسينات ومنهم صالح مهدي عماش، وصدام تم تجنيده بالقاهرة عام 1959 رغم أنه مدني.

وكان عبدالكريم يظن أن تأييد الطبقات المسحوقة من الشيعة ولاسيما اهل الجنوب ضمانه لسلطته ومتراس يحميه. وهؤلاء كانوا مخلصين لسلطة ورثت إزدراء العصمنلي ثم كراهية العروبيين الذي ساقهم للعنصرية ضد أهل الجنوب ساطع الحصري ورعيله ممن أتى بهم من الخارج فيصل الأول. ولايمكن أن ننسى أن تطبيق قانون الإصلاح الزراعي في الجنوب كان أكثر فاعلية من الشمال، لذا فقد الإقطاع في الجنوب كل إمتيازاتهم بين ليلة وضحاها، فناصبوا عبدالكريم العداء، وكان هاجسهم غير المعلن : كيف يتساوى الشيخ مع الفلاحن الذي كان بالنسبة لهم طبقة أدنى، حينما طبق عبدالكريم قوانين المواطنة وتساوي الرؤوس.

وفي القراءة الإجتماعية، كان عبدالكريم قاسم مطلع على ما كتبه المرحوم علي الوردي (1913-95)، حيث كان يسعى إلى تكريس الإنتماء للأرض ودرء التعصب البدوي الفطري الكاره للمكان، وتنمية الريف وتقريبه من المدينة والإنطلاق بالتعليم إلى مصاف الدول المتقدمة، لذا فإن كان ثورة 14 تموز موئلها قراءات لأفكار الوردي، فإن الإنقلابيين البعثيين في 8 شباط 1963، إستندوا على قراءات الأمريكان لرجلهم الفلسطيني الأمريكي (حنا بطاطو 1930-2005)، الذي فكك عرى المجتمع العراقي وعرى مجهوله وقدمه تفصيليا إلى المخابرات الأمريكية، ليصيغوا خطنهم على ضوء معطياته. ومن المضحك أن أكثر من قرأ يتبنى طروحات بطاطو هم الشيوعيين، على خلفية خداعه لهم بأنه (ماركسي)، رغم أنه بعيد عن الماركسية، بل كان جاسوس على الشيوعيين العراقيين، رغم علميته العالية في إختصاصه بعلم الإجتماع، لكنه كان أقرب للأمريكان من السوفيت، بل أن ماكتبه عن العراق لم يخدم السوفيت أو هكذا بدى، وأن إختيار صدام وإعداده الأمريكي، كان ضمن سياقات ما ورد في نصوص كشف خفايا المجتمع العراقي. وربما يكمن هنا سر تحول الشيوعيين العراقيين من عملاء للسوفيت خلال الحرب الباردة (1947-92) إلى عملاء للأمريكان وخاصة بعد إحتلال العراق عام 2003.وما يحيرني فعلا هو الحمية التي جملها السوفيت على البعثيين وصدام، رغم أنه أمريكي الإعداد والعدة، ونتذكر بهذا السياق أن من أبطل إنقلاب ناظم كزار على البكر وصدام 1973، كانت المخابرات السوفيتية التي أوعزت لعميلها (جيفكوف) في بلغاريا ان يؤخر وصول البكر، فاضطربت الأمور وفشل الإنقلاب(تابعوا إعترافات حامد الجبوري على اليوتوب).

لم يكن عبدالكريم منحاز ضد فئة أو جهة أو حزب أو طائفة أوجماعة ضد أخرى، وهذا ما جعله يواجه جميع الأطراف بممارسة القيم التي أزيلت خلال قرون من المسخ السلاطيني والإحتلالات.أما توجهه الإقتصادي فكان (إشتراكي –ديمقراطي) اي بتطابق تقريبي مع الأحزاب الإشتراكية التي تبعت الأممية الثانية في الغرب، وربما كان قد أطلع على تجربة السويد في ذلك، اي توسيع نطاق الطبقة الوسطى إلى الحد الضامن لتنمية بشرية شاملة دون تأميمات قسرية على طريقة (الإشتراكية العربية) التي طبقها ببلاهة عبدالناصر وعبدالسلام وحطم على أثرها الإقتصادين المصري والعراقي. ولم يتبع بما أرد الشيوعيون من بناء (إشتراكية علمية )، شمولية ومركزية قسرية، والتي أضاعت بعد عقدين أوربا الشرقية وأوصلتها إلى إفلاس بكل شئ. كان عبدالكريم منتمي للجموع المسحوقة والوطن، حتى أن إنشغاله جعله لم يسافر خلال أربع أعوام ونصف من حكمه خارج العراق . ومن المؤكد بأنه لم يكن عميل لأي جهة خارجية، بشهادة حتى اعداءه وكلهم ندموا على قتلهم له حتى عبدالغني الراوي وصدام الذي حاول إغتياله.وحسبما أن الفرقاء السياسيين والأحزاب العراقية بمجملها سارت بإملاء من المخابرات العالمية.

وحري أن نشير إلى ان البعثيين كان أداة طيعة بيد المخابرات الأمريكية، ولهم و(مسؤول حزبي)هو شاه إيران، ونتذكر كيف ان عبدالغني الراوي وحسن النقيب وناظم كزاز توجهوا لأيران دون تردد حينما فشلت إنقلاباتهم، بل أن عبدالغني الراوي (الأخوانجي العروبي الناصري السني) المتعصب كان يحمل جواز سفر إيراني.وأن شاه إيران كان يعلم كل خفايا السلطة العراقية حتى كتب حسنين هيكل بأنه كان على مكتبه عام 1975 ملف كامل ومفصل عن الجيش العراقي، وحسبي أنه لم يأت بوحي من السماء، وإنما من تخابر هذا الرعيل، الممثل في صلب السلطة العراقية. لذا فالمؤامرة كانت أكبر من عبدالكريم قاسم والعراق كدولة ومجتمع وأحزاب، وكان سقوطه أمر مفروغ منه، بل أن الرئيس الأمريكي كندي قال: أن لم تسقط بغداد في شباط 1963، لكان الجيش الأمريكي قد وصل بغداد على اثرها.

العراق اليوم هو ملكي ببرقع جمهوري، فكل الجهات الملكية تجدها ممثلة في الحكم إبتداءا من أحمد جلبي حتى عادل إبن عبدالمهدي المنتفجي. فقد تحول الولاء من تركيا العصمنلية إلى إيران الصفوية، وتغيرت السلطةن من طائفية سنية إلى شيعية، لكن النصاب هو نفسه يكرس عدم الإنتماء للوطن العراقي .نجد المطابقة بين الملكية واليوم بأن الدولة المركزية معدومة تحت رغبة كهنة الدين وشيوخ العشائر وأغوات الأكراد. والتي لها كل المصلح بضعف المركز كي تمارس ما بدى لها.وهذا سبب كاف بأن حفيد محسن حكيم (عمار) وكل طبقات الساسة المعينين اليوم على أسس عشائرية ومشايخيه ومناطقية وطائفية، يناصبون العداء لتأريخ عبدالكريم ومنجزه، بل ينتقمون منه، كونه أضرهم بالصميم قبل ستة عقود، حينما طردهم من الباب فعادوا من الباب كذلك.وهم اليوم يطبقون النموذج الملكي بحذافيره، لذا ولمن يحن على أيام الملكية فهي اليوم مجسد في سلطة العراق، حتى لو أختفى من إطارها الملك الحجازي المستورد الذي حمل بعض العاطفة للعراق، وأبدلوه برئيس كردي مكث كل عمره يبصق على أسم العراق ويناصبه العداء، واليوم يقوده نحو التهلكة.

 

د.علي ثويني

 

في المثقف اليوم