آراء

ثورة 23 يوليو المصرية 1952.. أيقونة الاستقلال في زمن الاحتلال (1)

محمود محمد عليأمة أتت في فجر الإنسانية بمعجزة الأهرام، لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخري، أو بمعجزات أمة يزعمون أنها ميتة منذ قرون ويرون قلبها العظيم البارز نحو السماء من بين رمال الجيزة، لقد صنعت مصر قلبها بيدها ليعيش إلي الأبد ".

ولقد كان "توفيق الحكيم" صادقاً في التعبير عن خلود وتجدد روح الأمة المصرية، عندما كتب عبارته الأسطورية تعبيراً عن اندلاع الثورة الديمقراطية الشعبية- ثورة 1919 - في روايته الرائدة عن أسطورة البعث " عودة الروح"، والتي صدرت عام 1935، وقرأها جيل الأربعينات المجيد الذي مهد لثورة الضباط الحرار في 1952، وفي طليعتهم مؤسسها وزعيمها جمال عبد الناصر باعترافه، وهو طالب بالكلية الحربية فظل يمجد طوال حياته توفيق الحكيم الذي أهداه قلادة النيل أعلي وسام في الجمهورية.

وهنا يصعب علي المرء أن يتحدث حديثاً موضوعياً، عن ثورة يوليو في ظل رياح الخماسين  الفكرية والإعلامية التي تزيغ الأبصار وتخدع العقول وتضلل الأفهام، كلما جاءت مناسبة لذكر ثورة يوليو ؛ لكنني من المؤمنين أن " التقية" هنا لا تنفع، فهي إن كانت صالحة للوقاية الذاتية، إلا أنها غير صالحة في مواجهة حركة التاريخ، التي تنظر للأحداث الكبرى والتطورات الأساسية، بمنظار أوسع وأعمق، من منظار الأفراد الذين تشدهم عوامل المصلحة، أو أحاسيس الحب والكراهية، أو عواطف التأييد والمعارضة، أو حملات الدعاية والإعلام.

في هذا الإطار نبدأ بالتوقف أمام الأبعاد الحقيقية لثورة 23 يوليو، حيث نتناولها جزئية جزئية بداية من أول أسبابها أو العوامل التي أدت إلي قيامها حتي آخر شئ من إنجازاتها ووفاة جمال عبد الناصر.

نبدأ بعوامل قيامها، حيث توجد عدة عوامل مجتمعة في سبعة عوامل منها : استمرار الاحتلال البريطاني، وحرب فلسطين 1948، وفساد الوضع السياسي في مصر، وسوء حاشية الملك، انحدار سمعة الملك فاروق في مصر والخارج، والأسلحة الفاسدة، سوء توزيع ملكية الأراضي وسيطرة الإقطاع والرأسمالية.

وبالنسبة للعامل الأول وهو يعد من أشهر العوامل التي أدت للثورة؛ حيث يعول علي أن الاحتلال الإنجليزي ما زال موجودا رغم وجود معاهدة تسمي معاهدة 1936م، ولكن أثبتت الأحداث أن معاهدة 1936 لم تحقق الاستقلال، وذلك لأن : جيش مصر ظل مرابطاَ علي الأراضي المصرية، وسياسة مصر يديرها المندوب السامي منذ الاحتلال 1982، وذلك برغم تغيير اسمه من المندوب السامي إلي السفير البريطاني، والحكومة البريطانية تفرض سيطرتها علي الجيش، بالرغم من تمصيره عقب معاهدة 1936، والتخلص من قائده الإنجليزي "سفنكس باشا"، إلا أنها أرسلت بعثتها العسكرية بحجة تحديث الجيش المصري، بينما كانت مهمتها هي العمل عل استمرار صفعه حتي لا يصبح خطرا علي جيش الاحتلال .

من الواضح إذن من النقاط الثلاثة هي أن معاهدة 1936 فعلا لم تحقق الاستقلال؛ فالجيش الإنجليزية ظل موجوداً بمصر، وأن سياسة مصر لا يزال يديرها المندوب السامي البريطاني رغم تغيير اسمه والحكومة البريطانية تفرض سيطرتها علي الجيش المصري .

وإذا انتقلنا إلي النقطة الثانية من العوامل،  وهي حرب فلسطين سنة 1948، إذ من الملاحظ أنه قد أدت تلك الحرب إلي إثارة السخط في نفوس الضباط المصريين، حيث أرسل الملك فاروق جيش مصر إلي فلسطين لتحريرها من اليهود لكنه أرسله للأسف ليحارب بدون استعدادات وبلا أسلحة لكي يلقي الهزيمة، وأكبر تعبير عن نفسه الجيش المصري في فلسطين مقولة الشهيد أحمد عبد العزيز بأن "ميدان الجهاد الحقيقي في مصر " ؛ أي كأن لسان حاله أننا نحارب في فلسطين خطأ،بينما ميدان المعركة الحقيقي في مصر لمحاربة الملك الفاسد والاحتلال الموجود في مصر، فتحرير فلسطين يبدا من تحرير مصر . وهنا نجد أنه بعد عودة الجيش سنة 1949 من حرب فلسطين بدأ يظهر ما يسمي بتنظيم الضباط الأحرار في الجيش المصري بزعامة اللواء محمد نجيب وقيادة البكباشي جمال عبد الناصر.

أما العامل الثالث ويتمثل في فساد الوضع السياسي في مصر؛ حيث بلغ الوضع في مصر أقصي درجات الانحلال والفساد خاصة في الربع الأخير من عهد الملك، والسبب يعود إلي بطش الاحتلال واستبداد الملك وفساد الأحزاب، والتصارع للوصول إلي الحكم. وكذلك سوء حاشية الملك والتي كانت وصمة عار في جبين حكمه، حيث أساءوا التصرف واستعلوا نفوذهم للثراء غير المشروع، وسيطروا علي الشركات ودوائر المال حتي أصبح نفوذهم أقوي من نفوذ الوزراء. فاستغلوا نفوذهم ليزدادوا ثراء وغني بطرق غير مشروعه وبطرق غير قانونية لدرجة سيطروا علي شركات ودوائر المال أصبح لهم نفوذ قوي أقوي من نفوذ الوزراء . كذلك النقطة الخامسة وهي انحدار سمعة الملك فاروق في مصر حيث تناقل الناس أنباء نزواته بالداخل وانحدار سمعته أثناء رحلاته في الخارج .

وأما العامل السادس والخاص بالأسلحة الفاسدة وهي من أشهر القضايا التي ارتبطت بحوادث جسيمة في تاريخ مصر، أهمها هزيمة مصر في حرب فلسطين عام 1948 م و قيام ثورة يوليو عام 1952 م. ؛ حيث يعد هذا العامل من الأسباب الرئيسية للثورة، حيث أثبتت تحقيقات النيابة العامة النيابة العامة اشتراك بعض رجال حاشية الملك فاروق في صفقات تلك الأسلحة ؛ حيث كانت قد تفجرت القضية في أوائل عام 1950 م بسبب تقرير ديوان المحاسبة مثل الجهاز المركزي للمحاسبات الآن الذي ورد فيه مخالفات مالية جسيمة شابت صفقات أسلحة للجيش تمت في عامي 1948 و 1949 م.

ولما حاولت الحكومة برئاسة مصطفي النحاس الضغط علي رئيس الديوان لحذف ما يتعلق بهذه المخالفات من التقرير، رفض وقدم استقالته، فقدم النائب البرلماني مصطفي مرعي من المعارضة استجواب للحكومة عن أسباب الاستقالة وفضح في جلسة مجلس الشعب يوم 29 مايو 1950 للمجلس المخالفات الجسيمة التي شابت صفقات الأسلحة. و للأسف استخدمت الحكومة الوفدية برئاسة مصطفي النحاس و الملك فاروق كل الوسائل المشروعة و غير المشروعة لإسكات أصوات المعارضة التي أرادت فتح ملفات القضية للوصول إلي المتورطين فيها. و يرجع الفضل إلي احسان عبد القدوس و مجلته روزاليوسف أن أوصلت أخبار هذه الصفقات المشبوهة إلي الرأي العام الذي هاله مبلغ الفساد الذي استشري في كل شئ حتي وصل إلي المتاجرة بدماء جنود مصر في أرض المعركة. ونجحت روزليوسف في تكوين ضغط شعبي كبير اضطر معه وزير الحربية مصطفي نصرت في ذلك الوقت أن يقدم بلاغ للنائب العام لفتح تحقيق فيما نشر بصحيفة روزليوسف عدد رقم 149 بتاريخ 20 يونيو 1950م عن صفقات الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين .

أما أخر جزئية من العوامل وهو سوء توزيع الملكية بسبب سيطرة الإقطاع والرأسمالية علي الحكم، حث يمثل الإقطاع ظاهرة خطيرة جدا قبل الثورة، حيث أدي إلي خلل واضح في توزيع الأراضي الزراعية حيث كان هناك : 12 ألف فرد يمتلكون ثلث الأراضي الزراعية، في حين يمتلك حوالي 3 ملايين فرد ثلثي هذه الأراضي، و27 مالكا من الأسرة المالكة يمتلكون وحدهم 143 ألف فدان والأغلبية من الفلاحين معدومين، ولم يكن هناك قوانين تحمي حقوق العمال أو قوانين للمعاشات أو التأمينات، وكان كبار الرأسماليين يستنزفون جهد العمال وعرقهم.

والسؤال الآن: من الذين يقومون بالثورة، الذين يقومون بالثورة فئة الضباط الأحرار، وبالتالي فهم الذين سيخضون غمار العمل السياسي، ولكن كيف ذلك وقوانين الجيش تمنع ؟ لذلك رأي الضباط الأحرار العمل السياسي داخل الجيش لا بد أن يكون ذو طابعا سريا، حتي لا يقع الذين يمارسونه تحت طائلة القانون. وللحديث بقية !

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم