آراء

ثورة 23 يوليو المصرية 1952.. أيقونة الاستقلال في زمن الاحتلال (4)

محمود محمد عليوأخيرا نختم حديثنا في هذا المقال عن إنجازات الثورة، فنبدأ أولاً من الناحية السياسة، حيث نجحت الثورة في إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية في 18 يونيو 1953، وتعيين اللواء محمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر، وإلغاء دستور 1923 م يوم 10 ديسمبر 1952، وحل جميع الأحزاب السياسية ومصادرة جميع اموالها لصالح الشعب في 17 يناير 1953، وتوقيع الجلاء عن مصر في 19 أكتوبر 1954، وتقرر فيها جلاء القوات البريطانية عن مصر خلال عشرين شهراً، وجلاء آخر جندي يوم 13 يونيه 1956، وفي يوم 18 يونيه 1956 رفع جمال عبد الناصر العلم المصري علي مبني البحرية في بورسعيد وأصبح عيدين، يوم 18 يونيو، الأول كان يماثل عيد الجمهورية في 18 يونيو 1953، والثاني يوازي عيد الجلاء 18 يونيو 1956، و آخر إنجاز ثورة 23 سياسيا وهو تأميم الشركة العالمية لقناة السويس في 26 يوليو 1956م .

وأما عن انجازات الثورة في المجال الاقتصادي، ففي مجال الزارعة عملت الثورة علي النهوض بالزراعة، واستصلاح الأراضي الصحراوية في مديرية التحرير والوادي الجديد مع ضرورة الاهتمام الشديد ببناء السد العالي الذي تم إنجازه عام 1970م، وأما من حيث الصناعة، فقد توسعت في الانتاج الصناعي، وعملت علي إنشاء المشروعات الصناعية التي تزيد من الإنتاج القومي، وأهمها :- توليد الكهرباء، والتوسع في استخراج البترول وتكريره، وإقامة مصنع الحديد والصلب بحلوان ومصنع الأسمدة بأسوان، وإنشاء المصانع الحربية التي تمد القوات المسلحة المصرية والعربية بالأسلحة والذخائر، وتدعيم التعليم الصناعي وإنشاء العديد من مراكز التدريب المهني، وإقامة صناعات جديدة والتوسع في الصناعات القائمة. وفي مجال التجارة، فقد تقرر فتح أسواق خارجية للمنتجات المصرية، وتوجيه تجارة مصر الخارجية إلي كافة بلاد العالم، وتمصير البنوك وشركات التأمين ووكالات الاستيراد والتصدير، وتولت العناصر المصرية من رجال الاقتصاد والمال إدارة البنوك والشركات والمؤسسات بعد تمصيرها .

وأما في المجال الاجتماعي، فقد جاءت الثورة لتقضي علي الإقطاع من كافة جوانبه، حيث أصدرت الثورة في 9 سبتمبر 1952 قانون الإصلاح الزراعي، حيث ينص القانون على تحديد الملكية الزراعية للأفراد، وأخذ الأرض من كبار الملاك وتوزيعها على صغار الفلاحين المعدمين. وصدرت تعديلات متتالية حددت ملكية الفرد والأسرة متدرجة من 200 فدان إلى خمسين فدان للملاك القدامى. وعرفت هذه التعديلات بقانون الإصلاح الزراعي الأول والثاني وأنشئت جمعيات الإصلاح الزراعي لتتولى عملية استلام الأرض من الملاك بعد ترك النسبة التي حددها القانون لهم وتوزيع باقي المساحة على الفلاحين الأجراء المعدمين العاملين بنفس الأرض، ليتحولوا من أجراء لملاك. وصاحب هذ القانون تغيرات اجتماعية بمصر ورفع الفلاح المصري قامته واسترد أرضه أرض أجداده التي حرم من تملكها لسنين طويلة. وتوسعت بالإصلاح الزراعي زراعات مثل القطن وبدأ الفلاح يجني ثمار زرعه ويعلم أبنائه ويتولى الفلاحين حكم أنفسهم وانهارت طبقة باشوات مصر ملاك الأرض الزراعية وحكام مصر قبل الثورة.

وأيضا من انجازات الثورة اجتماعيا ضرورة العمل علي تحقيق عدالة اجتماعية من جعل التعليم بالمجال في جميع المراحل بما فيه التعليم الجامعي، والعمل علي إصدار قوانين للتأمينات الاجتماعية والمعاشات للموظفين والعمال، وتم تحديد ساعات العمل بسبع ساعات في اليوم، واشتركت العمال في مجال إدارة الشركات والمصانع وخصصت لهم نسبة من الأرباح، وحثت علي ضرورة الاهتمام بالمرأة فمنحت حقها في الترشيح والانتخابات.

وأما عن الدور الهام الذي قامت به ثورة 23 يوليو في المجال العربي، فقد عملت الثورة علي مساندة الشعوب العربية علي التحرر من الاستعمار من حيث أنها ساعدت السودان وجنوب الغرب العربي، خاصة الجزائر وإمارات الخليج العربي وجنوب اليمن علي نيل استقلالها، كما وقفت إلي جانب ثورة العراق، كما أيدت وما تزال تؤيد الشعب الفلسطيني في استرداد حقوقه المشروعة .

وأما عن أهم مبادئ الثورة في المجال الدولي، فقد سعت إلي محاربة الاستعمار بكل صوره وأشكاله، ومساعدة شعوب آسيا وأفريقيا علي التحرر من الاستعمار، ورفض الانضمام إلي الأحلاف العسكرية الأجنبية التي حاولت الدول الغربية جر مصر والدول العربية إليها؛ مثل : حلف بغداد ذ955 بين العراق وتركيا وبريطانيا وإيران وباكستان، ولكن جمال عبد الناصر قاوم بشدة كل المحاولات (البريطانية والأمريكية) لضم مصر أو أي دولة عربية أخري. كما تبني عبد الناصر سياسة الاتحاد وعدم الانحياز إلي أي من الكتلتين الشرقية أو الغربية وتجلي ذلك في مؤتمر باندونج بإندونيسيا في إبريل 1955 واشتركت فيه 29 دولة .

وفي نهاية حديثي عن ثورة 23 يوليو أود أن أتوقف أمام شيئين أساسيين لا يستطيع عاقل أن ينكرهما، وهما: أن ثورة يوليو قد احدثت تغييرات عميقة في الحياة المصرية والعربية وربما في حياة آخرين ينتمون إلي العالم الثالث . ونحسب أن أهم هذه المتغيرات قد وقعت في الحياة المصرية وعلي سبيل التجديد الوطني، تلك كما يقول صلاح الدين حافظ (في حديثه عن ثورة يوليو والديمقراطية : بين سلبيات التجربة والحملة الإعلامية) التي تبدأ من التحولات الاجتماعية – الاقتصادية إلي الاستقلال الوطني، ومن بناء نموذج التنمية إلي تحدي الاستعمار، ومن التوجه العربي، إلي دعم حركات التحرير في العالم كله. ثانيا : أن ثورة يوليو، قد مضت سريعا في تحقيق مبادئها الستة، لكنها علي وجه اليقين ترددت وتعثرت في واحد من أهم هذه المبادئ، وهو تحقيق الديمقراطية السليمة.

ومن هنا فإن خصوم ثورة يوليو، يدعون بأن خصومتها مع الديمقراطية كانت هي سبب البلاء كله الذي جاءت به خرابا بياتا، بينما أنصار ثورة يوليو يزعمون أنها أقمت ديمقراطية اجتماعية من طراز جديد، فقد استبدلت بالنموذج الليبرالي الغربي، نموذجا جديدا قوامه الإصلاح الاقتصادي الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية بصرف النظر عن الحرية السياسية، فماذا تفيد الديمقراطية النظرية إذا لم يكن الخبز أمامها وورائها .

ونحسب أن في إدعاء الطرفين قدرا كبيرا من المغالاة وفي المقابل نزعم أن ما سبق ذكره، قد أحدث متغيرين رئيسيين هما :

1- أدخل الثورة منذ أيامها الأولي في معارك وصدامات داخلية، سياسية واجتماعية اقتصادية، اعلامية وفكرية، مع قوي مصرية وعربية ودولية، استنزفت قواها، وغيرت من توجهاتها، بل وحرفت مسارها ... فإذا بها في قبضة هزيمة يونيو 1967 المروعة تستيقظ ونستيقظ نحن معها، علي دمار نفسي ومادي، سياسي واقتصادي وعسكري، لم يحدث في التاريخ المصري الحديث، إلا عند هزيمة مشروع محمد علي يد الدول الأوربية في القرن الماضي .. وللمرة الأولي الثانية خلال قرن تنهار التجربة المصرية الحديثة وتدول دولتها .

2- أما المتغير الثاني، فقد انعكست آثاره مباشرة علي طريقة الحكم وآلياته .. لقد ساعد ما جري، علي تحول الثورة نحو حكم الفرد بسرعة ملحوظة، في ظل عوامل عديدة، مثل كاريزما الزعيم وتضخم دور الدولة المركزية بكل أجهزتها البيروقراطية – خاصة الأمنية – ومداهنة المثقفين، ووصولية المفكرين، ومنافقة البيروقراطيين والتكنوقراط، وصولاً لتهاوي دور منظمات المجتمع المدني بكل أنواعها وأشكالها...

وحين أفاق الوطني والزعيم علي دوي هزيمة يونيه 1967، التي كشفت علناً ما كان متداولاً سراً.. كان الوقت قد فات، فانطوت الصفحة، وعليها كل علامات الانكسار. واعتقد أن نجاح أن نجاح التحول الديمقراطي السليم يتوقف علي مجموعة من العوامل المتداخلة والمتكاملة مثل قدرتنا علي إدارة الصراع الاجتماعي الراهن، وحل أزمته المحتقنة والمتفاقمة، وقدرتنا علي فك مأزق التناقض بين الأقوال والأفعال، خاصة ما يتعلق برفع شعارات الديمقراطية قولاً، والتمسك بأفكار وممارسات الشمولية عملاً، ومثل تحديد التوجهات السياسية والاختيارات الاجتماعية الاقتصادية والثقافية، الملائمة لخصوصية أوضاعنا، والقادرة علي إعادة بناء المجتمع وتشكيل مؤسساته من جديد، بعد ان أصابها الفساد والترهل واللامبالاة والسلبية المتقاعسة.

وننتقل إلي نقطة مهمة لا بد من أن نتطرق إليها، وهي أن الرئيس جمال عبد الناصر بالنسبة للمؤيدين والمعادين لثورة يوليو هو الرمز البشري لتلك الثورة المجيدة – كما كان كرمويل هو رمز الثورة الإنجليزية، وروبسبير أو نابليون هما رمز الثورة الفرنسية، وجورج واشنطون هو رمز الثورة الأمريكية، ولينين هو رمز الثورة البلشفية، وماوتسي تونج رمز الثورة الصينية . والناس مغذرون في الخلط بين الثورة وقائدها، فهو الذي يجسم الأحداث والأفكار المجردة، ويضفي عليها بلحمه ودمه وممارساته وأسلوبه وصوته وشكله بعداً بشرياً يمكن التواصل معه بمشاعر الحب أو العداء .

لذلك كان ولا يزال جمال عبد الناصر جزءً لا يتجزأ من الحوار حول ثورة يوليو، والذين لا يستطيعون الهجوم المباشر علي ثورة يوليو – نظراً لفساد وتهرؤ النظام الذي كان في مصر قبلها، أو لعدم القدرة علي إنكار منجزات الثورة البارزة – فإنهم يهاجمون عبد الناصر . والايحاء هنا هو أنهم " لا يعارضون الثورة من حيث المبدأ "، ولكنهم يبغضون عبد الناصر فقط، إما لأنه" سرق الثورة"، أو " أفسدها"، أو كان " دكتاتورا ظالما" أو " جلب إلي مصر الفقر والشقاء"، أو " جلب إلي العرب الخزي والهزيمة والاحتلال"... وهناك بعض من لا يلجأون إلي هذا الأسلوب غير المباشر . فهم يهاجمون ما حدث في يوليو 1952 دون مواربة . ويعتبرونه " انقلابا عسكريا" لإشباع نهم القائمين به في السلطة والثروة . بل إن هناك من اعتبره "مؤامرة أمريكية"، طبخها وأخرجها جهاز وكالة المخابرات المركزية.

هذا التداخل بين الثورة وزعيمها في الواقع، وفي عقول وقلوب المؤيدين والمعادين علي السواء، هو الذي أدي إلي شيوع اصطلاح الناصرين، وهي تسمية لم يحبها عبد الناصر، ولم تستخدم في مصر أثناء حياته . ولكن اللفظ شاع بعد رحيله، واصبحت " الناصرية" تعني ثورة يوليو بميادئها وممارساتها وانتصاراتها واخطائها في الفترة من 1952 إلي 1970، أي منذ صعود عبد الناصر إلي السلطة مع الثورة التي قادها هو وزملاؤه من الضباط الأحرار، إلي يوم رحيله من عالمنا في سبتمبر 1970.

وعلي كل حال سوف تظل ثورة 23 يوليو أحد أبرز المعالم في التطور المعاصر لمصر ووللمنطقة العربية سواء من حيث الأطروحات والممارسات التي دشنتها أو القوي الاجتماعية التي أطلقتها من عقالها، أو التأثيرات التي خلفتها، وما زال تقويم هذه الثورة وتحليل تجربتها ودروسها أحد الموضوعات المثارة في مجال الفكر والعمل السياسيين العربيين، وما زالت أطروحتها موضع جدل ونقاش. إن دراسة صورة يوليو إذن ليست ولعاً بالماضي ولا نوعاً من السلفية التاريخية بل هي محاولة لفهم الحاضر والتطلع إلي المستقبل. فما زالت المشكلات التي واجهتها ثورة يوليو مطروحة علينا في الساحة العربية – قضايا التحر والوحدة والتنمية، وما زالت الحلول التي قدمتها هذه الثورة وممارستها – واردة في العمل العربي . ومن ثم فإن السؤال الذي يثار اليوم هو ما هي الثوابت في ثورة يوليو ؟ وبعبارة أخري ما هي الجوانب التي تمثل مواقف طارئة استدعتها ظروف وضرورات السياسة الداخلية أو الخارجية... وما هي الجوانب التي تعبر عن الخط الاستراتيجي المستمر للثورة؟

ولذلك يخطئ من يحاول تقويم تجربة ماضية في ضوء مفهوم جديد تماما ما زالت معالمه وأدواته محل بحث ودراسة . ومن يريد الحكم علي مكانة ثورة يوليو في تاريخ مصر يتعين عليه – احتراما للعقل والواقع معا – أن ينظر في الأمر بمقاييس الفكر المتقدم في حركة التحرر الوطني لبلدان العالم الثالث في الفترة التالية مباشرة للحرب العالمية الثانية . وأهم معالم ذلك التقدم الفكري هي : إدراك الطبيعة الاقتصادية للظاهرة الاستعمارية من ناحية، والاحساس بحتمية وجود بعد اجتماعي لثورة التحرر الوطني من حيث تحديد الطبقات والفئات الاجتماعية المرتبطة بالاستعمار وكذلك إعلاء المطالب المشروعة لجماهير الشعب التي هي بتعبير الميثاق " وقود الثورة" ولا يجوز أن تصبح " ضحاياها".

ولا يحط من قدر عبد الناصر أنه لم يكن منذ اللحظة الأولي صاحب نظرية معدة سلفا، بل إن قدرة يكتسب كل جلاله من واقع أنه إضافة إلي قدراته الشخصية الفذة التزم طول حياته النضالية بمبدأين لم يحد عنهما مطلقا: الوطنية، بمعني النضال الدؤوب ضد الاستعمار في كل أشكاله ومهما تعددت أساليبه، والانحياز داخليا إلي جانب الجماهير الشعبية في كل منطف حاسم في حياة الثورة . وبهذا الالتزام وبالقدرة علي استيعاب حركة المجتمع وفهم تجارب الشعوب ودروس التاريخ والوعي بمتغيرات العصر أثبت عبد الناصر أنه قائد ثوري ممتازا استمد من النضال عناصر الفكر كما ربط الفكر بالإنجاز المحدد . وقليل ما هم القادة الثوريون الذين صنعوا مثلما صنع .

وبهذا يكون عبد الناصر ابنا لهذا الشعب وليس "زعيماً ملهماً" هبط علينا من حيث لا ندري وتحكم في أمورنا بحكمة لا يدرك كنهها إلا هو، يقول عبد الناصر في الميثاق " إن إرادة الثورة .. لم تكن واحتياجاته، ويضيف: "إن الشعب العظيم الذي كتب المبادئ الستة بدم شهدائه ... مضي بعد ذلك في تعميق نضاله وتوسع مضمونه . لقد كان هذا الشعب العظيم هو المعلم الأكبر".

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم