آراء

الأبعاد الحقيقية للغزو الأمريكي لأفغانستان (2)

محمود محمد علينعود للمرة الثانية نكمل حديثنا عن الاحتلال الأمريكي لأفغانستان في 2001 وأبعاده الحقيقية، وذلك عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وفي هذا يمكن القول: عندما أطيح بشاه إيران في ديسمبر 1979م، فقدت واشنطن أهم خلف لها وأهم موقع متقدم في المنطقة ضد الاتحاد السوفيتي، ناهيك عن المنشآت العسكرية والالكترونية ومحطات الرصد التي أقامتها في إيران لمواجهة موسكو.

وفي السادس والعشرين من ديسمبر عام 1979م، قرر الاتحاد السوفيتي غزو أفغانستان عسكرياً؛ وذلك بهدف دعم الحكومة الأفغانية الصديقة للاتحاد السوفيتي، والتي كانت تعاني من هجمات الثوار المعارضين للسوفييت، والذين حصلوا على دعم من مجموعة من الدول المناوئة للاتحاد السوفييتي من ضمنها الولايات المتحدة الأمريكية، والسعودية، وباكستان، والصين، هذا من ناحية، ومن ناحية أخري التمدد نحو الجنوب والوصول إلى المياه الدافئة. ولهذا عندما أطيح بنظام "شاه إيران" في ديسمبر 1979م وقيام نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، واختلال التوازن السياسي في المنطقة لغير صالح أمريكا، استغل الكرملين هذه الفرصة وأقدم على احتلال أفغانستان عسكرياً .

وهنا قامت الإدارة الأمريكية بتشكيل ائتلاف في الكونجرس الأمريكي سمي بقوات الضربة الأفغانية، وكان الهدف من إنشاء هذه القوات هو الثأر من السوفييت والانتقام منهم على ما فعلوه في فيتنام؛ حيث كانوا قد دعموا ثوار الفيتكونغ Viet Cong الذين ألحقوا الهزيمة بالقوات الأمريكية وكبدوها خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، وحسب وجهة نظر الأمريكيين، فإن أفغانستان تعد أنموذجا للثأر من الشيوعيين .

وقد استخدمت الولايات المتحدة لأول مرة في تاريخها الحرب بالوكالة A proxy war؛ حيث استقطبت المجاهدين الأفغان، وقامت بتسليحهم خلال الحرب، كما قدمت وكالة المخابرات الأمريكية (CIA)، أحدث أنواع الأسلحة التي يمكن للأفراد الأفغان استخدامها ضد الطائرات السوفيتية، واعتبرت الولايات المتحدة أن دعمها لأفغانستان هو أفضل فرصة للانتقام من السوفييت ودورهم في فيتنام. واعتبر قادة الـ " CIA "، أن أفغانستان ستشكل فيتنام الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفيتي؛ خصوصاً وأن الاتحاد السوفيتي كان يضم ست دول مسلمة في آسيا الوسطي، وللعديد منها حدود مع أفغانستان .

وكان "قلب الدين حكمتيار" أحد قادة الأفغان، من الذين يعملون مع المخابرات الباكستانية التى كانت مرتبطة في تلك السنوات بتعاون مع الـ" CIA "، وفي عام 1986 بدأت الـ "CIA " بإرسال صواريخ "ستينغر"، وهي أحدث الصواريخ المضادة للطائرات في ذلك الوقت إلى الأفغان، لإسقاط الطائرات السوفيتية .

وأشارت التقارير العسكرية الأولى إلى الصعوبات التي واجهت السوفييت أثناء القتال في المناطق الجبلية، فالجيش السوفييتي لم يكن معتاداً على ذلك الشكل من القتال، ولم يحظ بتدريب لمواجهة حرب غير نظامية وحرب عصابات، وكانت آلياتهم العسكرية، وخاصة السيارات المصفحة والدبابات ليست ذات كفاءة في كثير من الأحيان، وعرضة للهجمات في البيئة الجبلية، وتم استخدام المدفعية الثقيلة بشكل مكثف أثناء قتال قوات الثوار.

وعلي هذا الأساس عمل " زبجنيو بريجينسكي" Zbigniew Brzezinski (مستشار الأمن الأمريكي للشئون الخارجية في عهد الرئيس جيمي كارتر) مع الإدارة الأمريكية لتوريط الاتحاد السوفيتي عسكرياً في الوحل الأفغاني، ولتغدو أفغانستان بالمقابل بمثابة "فيتنام سوفيتية " تثأر فيها الولايات المتحدة من هزيمتها في "فيتنام الأمريكية" بدعم سوفيتى يومها. وهكذا كانت أفغانستان " الفخ الفيتنامي" للسوفييت فيها، وقد نصبه الأمريكان ببراعة فائقة، كان من الصعب على السوفييت التخلص منه بسهولة بعد وقوعهم فيه .

هكذا تم إعداد أفغانستان من قبل واشنطن لحرب مروعة دامت 12 عاماً ضد الاتحاد السوفيتي، لم يكن الشعب الأفغاني قد طلبها أو أرادها، وقد كانت حكومة كابول في ذلك الوقت تعد البلاد إلى حكم علماني إصلاحي، أما الولايات المتحدة، فكانت تسعي كما سبق القول إلى تحويل أفغانستان إلى فيتنام للسوفييت هذه المرة، لكى تراق دماء الروس فيها، مثلما أريقت دماء الأمريكيين في فيتنامهم، ولم يكن يهم واشنطن كثيراً أن تتحول أفغانستان إلى دولة إسلامية أصولية متطرفة وهو ما كانت تعادي إيران الإسلامية بعد سقوط الشاه بسببه، بقدر ما يهمها أن ينتشر هذا المد الأصولي الإسلامي إلي جمهوريات الاتحاد السوفيتي في آسيا الوسطي ويقلب الأوضاع على موسكو، ولم يكن الأمريكيين يجرؤون على استخدام تعبير"الإرهابيين" في وصف هؤلاء المتمردين الإسلاميين، حين كانوا يسقطون بقذائفهم طائرة مدنية في أفغانستان ويزرعون المتفجرات في المطار .

تمكن المجاهدون الأفغان – وبدعم من قبل الولايات الأمريكية المتحدة، وبريطانيا، ودول أخرى من دحر قوات الاحتلال السوفيتي، وحملها على الانسحاب من أفغانستان؛ حيث تكبدت موسكو خسائر عسكرية كبيرة وعلاقات دولية متوترة. وكان المحاربون غير النظاميون الأفغان يتم تسليحهم وتمويلهم وتدريبهم بشكل رئيسي من قبل الولايات الأمريكية المتحدة، والسعودية، وباكستان.

وفي عام 1992م تولت حكومة المجاهدين السلطة في أفغانستان، وذلك بعد أن تمكنوا من السيطرة على العاصمة كابول، وهنا بدأت هذه الحكومة تعلن عن أهدافها الأيديولوجية التي تقوم عليها تنظيم القاعدة الذي أسسه "أسامة بن لادن" و"أيمن الظواهري"، والذي يتطلع – شأنه شأن تنظيمات أخرى معنية بـ "الجهاد العالمي" – إلى نشر الدين الإسلامي، وإقامة نظام الخلافة الإسلامية؛ أي السلطة القائمة على الشريعة الإسلامية وفرضها على جميع دول المعمورة، ويستند تنظيم القاعدة عقائدياً إلى التيار السلفي السني الذي يعتبر فترة صدر الإسلام عصراً ذهبياً يجب إحياؤه واستعادته في العصر الحالي، وبحسب مفهوم القاعدة يتعين على أي مسلم المشاركة في الجهاد، لاستعادة مركز الإسلام الذي يليق به. ويستهدف الصراع "الكفار" الذين لا ينتمي إليهم "غير المسلمين" فحسب، بل أيضاً الأنظمة العربية والإسلامية التي لا تسير على نهج الإسلام الصحيح؛ بمعنى أنها تميل إلى الغرب (وإسرائيل) وتسعى لاعتماد طريقه. ويعتمد تنظيم القاعدة، مبدأ الحرب الشاملة التي لا هوادة فيها ضد أعدائه، وبالتالي فإنه يرى جواز اللجوء إلى جميع الإجراءات لبلوغ أهدافه، ومنها استخدام الأسلحة غير التقليدية، وإصابة المدنيين بمن فيهم النساء والأطفال.. إلخ .

وحين بدأ هؤلاء المجاهدون يمارسون السلطة في أفغانستان، نجد أنهم عجزوا عن القيام بتشكيل حكومة شرعية وموسعة ومستقرة في كابول، فزيادة طمع أحزاب المجاهدين في السلطة، وقلة تجربة هؤلاء المجاهدين في الحكم، وعدم وجود برنامج لديهم لإدارة الدولة، وعدم تربية كادر سياسي لهذا الأمر، والأكثر من ذلك انفصال القوة البشتونية القوية بقيادة "حكمتيار" عن قوات المجاهدين الطاجيك؛ كل ذلك أدي إلى عدم الاستقرار في أفغانستان، وإضعاف حكومة المجاهدين.

علاوة على أن تركيبة المجاهدين لم تكن تركيبة موحدة ومتجانسة، إنما كانت تمثل خليطاً غير متجانس، فخلال فترة الجهاد ضد الاحتلال السوفيتي تشكلت المجموعات الجهادية، بحيث إن كلاً منها يمثل أو ينتسب إلى شريحة من شرائح المجتمع الأفغاني، تختلف عن بعضها البعض من ناحية الانتماء القومي واللغة. وكانت هذه المجموعات قد اتخذت من باكستان وإيران مقراً لها قبل ذهابها إلى كابول، والمجموعات السنية كانت في باكستان والمجموعات الشيعية كانت في إيران.

وحينما شارفت حكومة "نجيب الله" الشيوعية على السقوط أكد الشيعة على مشاركتهم بنسبة 25% في حكومة المجاهدين، علما بأن المجموعات الشيعية الثمانية كانت قد توحدت في حزب واحد بعد فترة من الصراع والاقتتال فيما بينها، وهو (حزب الوحدة).

حكومة المجاهدين منحت الشيعة عدداً من الوزارات، لكن جناحاً من حزب الوحدة بقيادة "عبد العلي مزاري" قائد حزب الوحدة لم يقبل بهذه الحصة، واتخذ موقفاً معارضاً للحكومة، واستقر في إحدى جهات العاصمة على الرغم من أن حكومة المجاهدين كانت تحظى بالتأييد والدعم الشعبي، إلا أنها بسبب اختلافات المجموعات الجهادية القومية والسياسية، لم تتمكن من وضع برنامج سياسي مشترك لإدارة الدولة، فالمجموعات السنية الشيعية الثمانية، فعلى الرغم من أنهم توحدوا في حزب الوحدة بمساعدة إيران، إلا أنهم لم يتخلوا عن خلافاتهم، فبعض أجنحة (حزب الوحدة) بزعامة "مسعود أكبري زاده" تعاونت مع حكومة المجاهدين، أما البعض الآخر بقيادة (عبد العلي مزاري) فقد امتنع عن التعاون مع هذه الحكومة.

وعليه واجهت حكومة المجاهدين التي كانت ترفض أن تكون أداة بيد باكستان – مشاكل كثيرة، فالحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار، الذي كان يعتبر نفسه ممثلاً عن البشتون أمطر العاصمة كابول بالصواريخ، كما إن الأجهزة الأمنية الباكستانية وبالتعاون مع أمريكا والسعودية وظفت كل قدراتها وإمكاناتها من أجل دفع هذه الحكومة إلى الانهيار من الداخل .

فمع مجئ "برهان الدين رباني" اتخذت الحرب الداخلية أبعاداً أكثر خطورة، ونتيجة لهذه الحرب ولعدم الاستقرار السياسي لم يستطع المجاهدون تشكيل حكومة موسعة، ووطنية، ومستقرة . وإثر هذه الحروب الداخلية – التي استمرت حوالي أربع سنوات والتي شاركت الولايات المتحدة وباكستان في تأجيجيها، فقد المجاهدون شرعيتهم السياسية يوماً بعد آخر، وفي ظل هذا الوضع استشرت حالة انعدام الأمن، والفوضى، وراحت تزداد مظاهر السرقة والاعتداء، على أموال الناس وأعراضهم من قبل بعض الجماعات شبه العسكرية المحسوبة على المجاهدين؛ كما أن الحكام المحليين يفرضون بالقوة ضرائب عالية على الناس في المناطق التي تقع تحت سيطرتهم، والوضع الاقتصادي والتجاري للبلد ازداد تدهوراً وسوءاً . ويمكن أن نلخص العوامل التي أدت إلى الفوضى الداخلية التي عمت البلاد في عهد حكومة المجاهدين في النقاط التالية:

1- عدم وجود حكومة مقتدرة وذات تجربة في كابول.

2- احتدام الحرب الطويلة بين المجموعات الجهادية، وانعدام أمن العاصمة كابول بسبب استمرار الحملات الصاروخية.

3- وجود مشاكل أمنية كثيرة يعانى منها الناس وعدم اتباع رجال الحكومة للقوانين والمقررات الوطنية.

ومن هذا المنطلق أدركت الولايات المتحدة ومعها باكستان بأنه لا بد من التخلص من حكم المجاهدين في أفغانستان؛ فلم يكن وجود دولة إسلامية مستقلة لها أهداف ومحفزات ثورية، إلى جانب الجمهورية الإسلامية في إيران قابلاً للتحمل بالنسبة للولايات المتحدة.

ولهذا فكرت الولايات المتحدة في أفغانستان بمشروع جديد تتمكن فيه من كسر شوكة المجاهدين وإلحاق الهزيمة بهم، لكن تحقيق ذلك ليس بالأمر الهين، لأن هؤلاء ألحقوا الهزيمة بأكبر قوة عالمية على وجه الأرض، وهي الاتحاد السوفيتي، لذلك لجأت الولايات المتحدة إلى ضرورة التخلص من نظام المجاهدين في أفغانستان عن طريق مبدأ فرق تسود، فلجأت إلى بث الفرقة بين نظام الجهاديين والعمل على زعزعة استقرار حكمهم؛ حيث أخذت الولايات المتحدة مع باكستان ينسقان سياساتهما في ذلك الوقت إزاء أفغانستان وكليهما تريدان إضعاف نفوذ الجمهورية الإسلامية الإيرانية في أفغانستان، لأن "برهان الدين ربانى"، و"أحمد شاه مسعود"، كانا من الطاجيك الذين يتكلمون اللغة الفارسية . ثم إن مجموعتين من المجاهدين ترتبطان بعلاقات جيدة مع إيران، وتتمتعان بنفوذ كبير في حكومة كابول هما: الطاجيك وبعض الفصائل الشيعية، وهذا الوضع لم يرق للولايات المتحدة وباكستان والسعودية، ولذلك أقدمت هذه الدول على رصد الأموال الطائلة من أجل إيجاد تيار جديد يمكن أن يتحرك ضد هذا الوضع، ويخالف إيران من الناحية المذهبية والقومية واللغوية .

وكان هذا التيار الجديد هو " حركة طالبان"، وكلمـة "الطالبـان"، تعنى باللغة المحلية الأفغانية طلبة المدارس الشرعية الأهليـة الأفغانيـة، وهـى جمعية دينية تفرعت عن جمعية دينية باكستانية هي جمعية علماء الإسلام، ويطلق لفظ طالـب على المتعلم في هذه المدارس، ولفظ الملا على من يكمل النصاب التعليمي ويتلقـى إجـازة للتدريس، ويعلن أفراد الجماعة أن نشـأتها جاءت كرد فعل تلقائي للاقتتال بـين فصـائل المجاهدين، مما أدخل الـبلاد في دوامـة لا متناهية من الاقتتال .

وأهم المبادئ التي تتبناها الجماعة وتعتبرها تمييزاً لها عن باقي الفصائل هي:

1- إقامة حكومة إسلامية على نهج الخلافة الراشدة.

2- قلع جذور التعصبات الإثنية والقبلية.

3 -التركيز على الحجاب الشرعي للمـرأة والإلزام به ..

4-أسلمة اقتصاد الدولة والاهتمام بالتنميـة في جميع المجالات.

5 -تكوين هيئات للأمر بالمعروف والنهـى عن المنكر.

وقد شـاب ظهـور الحركـة نـوع مـن الغموض، إذ تناقلت الصحف الباكسـتانية فـى سبتمبر 1994م بصورة غامضة أنبـاء إنقـاذ قافلة باكستانية مكونة من 30 شاحنة متوجهـة إلى وسط آسيا على يد مجموعة مـن طـلاب مدارس الشريعة. وفى يناير 1995م أعلن عن أن طلاب تلك المدارس قـد اسـتولوا علـى مقاطعة قازانى فى شرق البلاد . وبحلول مارس 1995م كانت طالبـان تسـيطر علـى ثلـث الأراضي الأفغانية وأصـبحت قواتهـا علـى مشارف كابول وهزمت قوات حزب الوحـدة الشيعي وقتلت قائدهم على مزارى . أما حكمتيار فقد أخلى مواقعه فى جنوب كـابول وهـرب ناحية الشرق . ونجحت قوات شاه مسعود فـى البداية فى إبعاد قوات الطالبان عن العاصـمة إلا أن الطالبان تقـدمت مـرة أخـرى نحـو كابول .. وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم