آراء

الأبعاد الحقيقية للغزو الأمريكي لأفغانستان (5)

محمود محمد عليفي هذا المقال الخامس نعود ونكمل حدثنا عن البعد الحقيقي لعزو الولايات المتحدة لأفغانستان وذلك عقب أحداث 11 سبتمبر مباشرة، وفي هذا نقول: هذه الحقائق جعلت من الصين العائق الاستراتيجي الأكبر أمام مشروع الهيمنة الكونية للولايات المتحدة باعتبار " التحدي الأصعب"، لأن الصين خلافاً للاتحاد السوفيتي، ليست دولة عسكرية جبارة، تقوم على اقتصاد ضعيف، وإنما لها اقتصاد قوي يبنى قوة عسكرية مؤثرة . هذه التحولات الجيوبوليتيكية الهائلة التي بعثها الصعود الصيني في آسيا الوسطي، أثارت قلقاً عميقاً لدي الحكومات الأمريكية، مما دفع إلى تشكيل مفاهيم ثلاثة بين: التشدد، الحل الوسط، واللين في مقاربة العلاقات الصينية – الأمريكية .

وتبرز إلى السطح في خضم النقاشات الدائرة، ضرورة احتواء الصين، ليس بمفهوم الاحتواء السائد في الحرب الباردة، ولكن بالعمل على كبح جماح النفوذ الصيني في المجالات الجيوسياسية في آسيا الوسطي، عن طريق توسيع التحالفات القديمة في الشرق الأقصى مع اليابان، وتطوير العلاقات مع دول آسيا وزيادة الوجود العسكري في مناطق مثل آسيا الوسطي.

وتأتى آسيا الوسطي على رأس المجالات الجيوسياسية المهمة وإحدى مناطق الضغط المهمة في حالة الصراع مع الصين، فهي تشكل قاعدة مهمة وقريبة من أقاليم التوتر الصيني (التبت) مثلاً، وهو إقليم قد يُعد أحد مفاتيح التدخل ضد الصين في المستقبل، وتدخل هذه الاستراتيجية في حسابات سياسة التطويق الأمريكي للصين من الغرب، لمنع التمدد الاستراتيجي الصيني في آسيا الوسطي، كمنطقة مهمة في حسابات أمن الطاقة للصين، التي باعتبارها واحدة من أهم موارد الطاقة للاقتصاد الصيني. فالتواجد الأمريكي عسكرياً في المنطقة يفرض التحكم في خطوط نقل إمدادات الطاقة نحو الصين .

وتتلخص الأهداف الاستراتيجية الأمريكية من احتوائها للصين في نقطتين أساسيتين:

النقطة الأولي: استغلال التماس الجغرافي بين الصين وآسيا الوسطي، لتشكيل نوع من العزل الاستراتيجي لمنع التمدد الصيني نحو الغرب بعدما أحكمت التطويق من الشرق وجنوب شرق، حيث اليابان وكوريا الجنوبية، لتشكيل تحالف استراتيجي مع الصين، لمجابهة أمريكا الخطر المشترك .

النقطة الثانية: باعتبار آسيا الوسطي حسب النظرية الأوراسية – الأمريكية محوراً جيوبوليتيكياً حاجباً للموارد ومعيقاً للتمدد الاستراتيجي للاعبين الاستراتيجيين، فإن الاستراتيجية الأمريكية في آسيا الوسطي، تسعي إلى حجب موارد المنطقة عن الصين، خاصة النفط، والغاز، واليورانيوم المفاتيح الأساسية للاقتصاد الصيني، فالتحكم في النفط والغاز القادم من آسيا الوسطي، عامل أساسي في استكمال حلقات احتواء الصين من الغرب، عن طريق الانتشار العسكري، وتعزيز التحالفات مع الدول المحيطة بالصين.

العنصر الثالث: محاصرة إيران: ما بعد الاحتواء المزدوج:

تهدف الولايات المتحدة الأمريكية من خلال حضورها العسكري المباشر في آسيا الوسطي، والذي أتاحته ترتيبات ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، والحرب العالمية علي الإرهاب إلي استكمال حلقات الاحتواء المزدوج (السياسة التي كانت بدأتها إدارة الرئيس بيل كلينتون لاحتواء إيران والعراق) لمحاصرة إيران من الجهة الشرقية، بعدما أنهت احتواءها للعراق، واحتلاله وإيجاد موطئ قدم للقوات الأمريكية علي حدود إيران الغربية؛ حيث القوات الأمريكية في العراق والخليج العربي، وفي الوقت الذي تسعي فيه الولايات المتحدة إلي دمج مصالحها في الشرق الأوسط بمصالحها في آسيا الوسطي وأوراسيا، من خلال استراتيجية الاحتواء الشامل، ومشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي يمتد علي مساحة جغرافية من المحيط الأطلسي إلي شرق أفغانستان، وتظل إيران الدولة الوحيدة المنتمية إلي المنطقة، والتي تنهج سلوكاً في سياستها وأدوارها الإقليمية مغايراً للمعايير الأمريكية، فحسب بريجينسكي، فإن إيران هي دولة مشاغبة جيو سياسياً ومصدر تشويش استراتيجي، وهي بمثابة القاسم المشترك لكل مشاكل الولايات المتحدة، بالرغم من كونها دولة محورية جيو سياسية في الرؤية الاستراتيجية الأمريكية. ويستدل المسؤولون الأمريكيون علي مدي تهديد إيران للاستراتيجية الأمريكية من سيل الاتهامات الموجهة ضد إيران، والمتمثلة في رعاية الإرهاب ومعارضة العملية السلمية وتخريب الجهود الدولية لإحلال السلام في الشرق الأوسط، علاوة علي سعيها لامتلاك السلاح النووي وتطويرها لأسلحة الدمار الشامل.

وفقا للتصور الاستراتيجية الأمريكي، فإن الولايات المتحدة تسعى إلى تعميق عزلة إيران الخارجية من خلال تحجيم الصلات الاقتصادية بينها وبين دول العالم عن طريق فرض عقوبات اقتصادية ومالية على الأطراف المتعاملة مع النظام الإسلامي في إيران، وقد سنت الولايات المتحدة لهذا الغرض قانون داماتو في 1996م، والذي مدده الكونجرس في عهد إدارة بوش الابن لمدة 5 سنوات أخري، ويقضي بفرض عقوبات على أية شركات تستثمر أو تتعامل مع إيران، وهو ما يمليه التواجد الأمريكي في آسيا الوسطي، فقد عارضت الولايات المتحدة الأمريكية كل مشاريع النفط والغاز التي تمر عبر الأراضي الإيرانية والقادمة من آسيا الوسطي وبحر قزوين، كما تهدف الولايات المتحدة الأمريكية إلي إشغال إيران بنفسها وبمشكلاتها الداخلية من جراء سياسة التطويق والحصار من الشرق والغرب، حتي لا تكون مصدر أذي في الخارج، وعندما نترجم ذلك الي مصطلحات السياسة، فإن ذلك يعني – ضمناً- إنشاء أطراف شريرة مستقلة، وهذا من مصطلحات الحرب الباردة، تتعاون معها الولايات المتحدة لاحتواء الخصوم الأكثر تهديداً، وفي حالة إيران، تسعي الولايات المتحدة إلى إحاطة إيران بخصوم من ذات المصفوفة الحضارية، وهى الدول الإسلامية للجوار الإيراني من الجهات الثلاث: تركيا في الشمال الغربي، والعراق في الغرب، وباكستان، وأفغانستان، ودول آسيا الوسطي في الشرق والشمال الشرقي، وهى كلها دول إسلامية سنية المذهب مقاومة لإيران وهى دولة شيعية المذهب. فالغاية هي أن تكون إيران محاطة بأطراف شريرة سنية، من أجل إثارة الانقسامات، وإثارة حرب أهلية إسلامية، وذات الأمر تقوم به الولايات المتحدة في الخليج عن طريق التهويل من الخطر الإيراني وبرنامجه النووي والهلال الشيعي المتشكل في الشرق الأوسط، وقد أفضي ذلك إلى تشكل ما تسميه السياسة الأمريكية محور الاعتدال العربي في مواجهة محور التطرف الإيراني .

وتتلخص الأهداف الأمريكية من احتوائها لإيران عبر آسيا الوسطي في النقاط التالية:

1- تحجيم الصلات الاقتصادية والتجارية بين الجمهورية الإسلامية في آسيا الوسطي والجمهوريات الإسلامية الإيرانية .

2- استكمال حلقات الطوق الأمريكي على إيران ومحاصرتها من الشرق، بعد ما تم لها ذلك من جهة الغرب والخليج العربي .

3- مراقبة التوجهات الإيرانية نحو آسيا وأوراسيا، من خلال التحرك الإيراني النشط على المحور الصيني- الروسي.

4- نزع ورقة الطاقة ونقل الإمدادات النفطية والغازية من آسيا الوسطي وبحر قزوين عبر إيران، باعتبارها تمثل الممر الجغرافي الأكثر أماناً والأقرب والأقل تكلفة.

5- الاحتواء الفكري لإيران.

بناء على ما سبق يتبين لنا أن ساحة الحرب على الإرهاب تقع في آسيا الوسطي (بالقرب من بحر قزوين)، حيث إن تلك البقعة تشكل أهمية كبري، وعمقاً استراتيجيا للولايات المتحدة لكونها تقع في منطقة تتوسط تقاطع التهديد الثلاثي (الصين، وروسيا، إيران)، ولمنع هذا التهديد من الظهور، تبنت الولايات المتحدة سياسة الحرب الاستباقية، بهدف التواجد المباشر بالقرب من هذه الدول، ومؤشر ذلك التوسع العسكري السريع الذي تقوم به واشنطن على مدي آلاف الأميال التي تمتد من البلقان إلى حدود الصين، هذا التوسع أحاط بالقوقاز ووسط آسيا والشرق الأوسط وشبه القارة الهندية من "كامب بوندستيل" Camp Bondsteel في كوسوفو بعد حملة حلف الأطلسي عام 1999م، إلى قاعدة بيشكك الجوية في قيرغيزستان بعد التواجد الأمريكي في أفغانستان، ويعمل الأمريكيون على إنشاء حضور عسكري في أماكن لم يكونوا فيها من قبل . بالإضافة إلى وجود 13 قاعدة جديدة في تسعة بلدان تحيط بأفغانستان أنشأت بسرعة مما جعل جنوب روسيا مسرحا أمريكيا للمرة الأولى.

بالإضافة إلى دول شرق أوربا التي تشكل حاجزاً أمام احتمال أي توسع روسي مستقبلي، فإن دول وسط آسيا، أو دول القوقاز، وبحر قزوين، تتميز إلى جانب أهميتها كحاجز، بثروة نفطية من شأنها توفير عنصر القوة الاقتصادية لمن يهيمن عليها، وهى قوة لم يقم الاتحاد السوفيتي السابق باستغلالها، أو لم يكن قادراً على ذلك، كذلك فإن هذه الدول الأسيوية الإسلامية الجديدة هي دول ليست متقدمة، وهى مصنفة عالمياً ضمن ما يعرف بالعالم الثالث، وفي هذا المجال ومقارنة مع دول الشرق الأوسط التي تصنف كذلك من دول العالم الثالث، ولذلك أصبحت المنطقتان تنتميان جيوبوليتيكيا إلى مستطيل يمتد من جنوب روسيا مكون من دول غنية بالنفط والغاز، ولا تملك الأموال ولا التكنولوجيا ولا القدرة السياسية والاقتصادية للسيطرة على ثرواتها ومقدراتها، وبهذه الصورة تتكشف خلفيات الأهداف الأمريكية منها ما كانت معلنة وغير معلنة، والتي تسعى من خلالها لتمرير سياساتها وطرح مبررات تدخلها في أماكن كثيرة من العالم وتحديداً في العراق لأحكام السيطرة على منطقة الشرق الأوسط، وأفغانستان بوابة الدخول إلى منطقة آسيا الوسطي والتواجد العسكري بالقرب من الأعداء القائمين أو المحتملين، وبهذه الصورة تكون الولايات المتحدة، قد نفذت أهدافها الاستراتيجية العالمية من المنظور العملي، وذلك تحقيقاً لجانب التخطيط النظري، والتى رسمها المفكر الاستراتيجي " الفرد ماهان" Alfred Maha (1840-1914م)، التي تنص على:" إن من يحكم شرق أوربا، يسيطر على منطقة القلب، ومن يحكم منطقة القلب يسيطر على الجزيرة العالمية، يسيطر على العالم كله ".

فإمساك الولايات المتحدة على هذه المواقع الجغرافية الهامة، وسيطرتها على ثرواتها الواعدة من نفط وغاز وغيرها، تكون قد أنهت سيطرتها العسكرية المباشرة على العالم، بحيث لا تبقي قارة أو إقليم يخلو من الوجود العسكري الأمريكي المباشر، مما يعنى أن مسألة التفكير الروسي، للعودة إلى المياه الدافئة والشرق الأوسط أمر صعب التحقيق حالياً، وأن نهوض المارد الصيني مستقبلاً أصبح بعد التواجد العسكري الأمريكي، بالقرب منه في حكم المهمة الصعبة، كذلك للحد من الدور الهندي الصاعد، وبات الرهان على باكستان رهاناً محفوفاً بالخطر الكبير، بعد أن أصبحت هدفاً تحت السيطرة المباشرة للجيوش الأمريكية.

ولكن وفي ظل هذا الوضع الجديد الذي يحقق للولايات المتحدة حرية التحرك باتجاه استكمال التحكم والسيطرة على أهم مناطق العالم (قلب العالم) والمعرفة بغالبها تقع ضمن أراضِ عربية وإسلامية، والتي لم يكن للولايات المتحدة السيطرة عليها عسكرياً، لولا ظروف استثنائية تمثلت بفرصة أحداث 11 سبتمبر 2001م وانطلقت مع الحرب على الإرهاب.

والسؤال المهم الذي يطرح نفسه هنا هو: هل ستستمر تلك الظروف التي تعانى منها شعوب العالم الإسلامي، نتيجة غطرسة القوة الأمريكية وانفرادها في القرار الدولي، وغزوها للعراق ومن قبلها أفغانستان ودعمها للاحتلال الاسرائيلي وتشريد شعبه، وتدخلاتها المستمرة في الشؤون العربية والإسلامية؛ بمعنى هل من الممكن للإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة "باراك أوباما" Barack Obama بإجراء تبديل أو على الأقل تعديل في استراتيجية أو عقيدة إدارة بوش الابن تجاه قضايا العالم الإسلامي أم ستبقي الأمور على ما هي عليه؟ وهل بالإمكان التكهن بحصول مفاجآت غير متوقعة في الشؤون الداخلية والخارجية للولايات المتحدة؟ .

خلاصة القول إن الهدف الأسمى من غزو الولايات المتحدة لأفغانستان من الناحية العسكرية، يتمثل في وضع موطئ قدم في منطقة آسيا الوسطي، وهو ما يعمد على إفساد طبخة التضامن الروسي – الصيني والعمل على التقارب بين موسكو وواشنطن، خاصة لما لهذه المنطقة من أهمية لروسيا في السيطرة على نصف القارة الأوربية وعلى مد نفوذها إلى أجزاء متعددة من الشرق الأوسط وشرق آسيا، ولم يكن غزو أفغانستان مجرد فعل تلقائي، باعتبار أن منطقة أوراسيا عبارة عن محيط من الثروة النفطية، فاختيرت أفغانستان لتكون نقطة ارتكاز وقاعدة أمريكية لعملياتها العسكرية في أوراسيا، ويبقي الدوافع الخفية لذلك، هو مواجهة تحديات نمو الصين في أوراسيا وتمدد علاقتها النفطية مع دول الجمهوريات الإسلامية، وكذا إبعاد الجار الروسي وتقزيم دوره في المنطقة، وإحكام السيطرة على قواعد اللعبة الدائرة بين شركات متعددة الجنسيات في مجال النفط، والغاز والخدمات البترولية التي تنتمي لعدة دول غربية وروسية وهندية، لكن بالرغم ما خطط له في شن الضربات الاستباقية في إطار" الحرب العادلة "، إلا أنها عجزت عن احتواء ذلك الخطر الذي يمثل تحولاً في منطق الحرب ودلالتها، وعدم التحكم الذكي في الوضع بفتح جبهة جديدة لنفوذ قوي أخري صاعدة خاصة روسيا والصين، لذا عمدت أمريكا في فتح جبهة جديدة في علاقتها مع القوي الإقليمية خاصة تركيا محور القارة الأوراسية فما وراء ذلك التقارب – الأمريكي في المنطقة... وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم