آراء

كيف كان المخطط الأمريكي لاحتلال العراق 2003؟! (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في هذا المقال الثاني عن الأبعاد الحقيقية للغزو الأمريكي على العراق، وفي هذا يمكن القول: بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، اختارت الولايات المتحدة العراق، ليكون منطقة عازلة Buffer Zone بين الخطر القادم من إيران، واحتياطات النفط في دول الخليج، وهذا ما جعل له أهمية استراتيجية لكل من الولايات المتحدة ودول الخليج علي حد سواء، غير أن غياب سياسة واضحة تجاه نظام صدام حسين في هذه الفترة، أدي الي اتخاذ مواقف متضاربة وغير مؤثرة ساهمت في تشجيع صدام حسين علي ممارسة العدوانية .

إن أول ما قامت به الولايات المتحدة هو استنزاف قدرات العراق المادية والعسكرية، بالعمل على خلق الحرب الإيرانية العراقية عام 1980م،والتي يدعوها المؤزخون بــ "الحرب على العراق الاستثنائية"، وعملت على إطالة أمدها حتى عام 1988م،مما أدى إلى دفع طرفي النزاع،لتقديم التضحيات الجسام المادية والبشرية، خلال الحرب الثماني سنوات، والتي لم يكن الهدف منها العراق فقط، بل وحتى إيران. هذه الحرب التي قدم فيها الطرفان خيرة شبابه ورجاله، إضافة إلى المليارات التي صرفت وحرقت لإدامة هذه الحرب، والتي قدرت بمئات المليارات، وملايين الشهداء، والجرحى، والمفقودين، والمعوقين في الطرفين ، والتي كان من المقدر لها أن تصرف لإعمار البلدين .

كانت أمريكا وحلفاؤها يقدمون العون لكلا الطرفين مادياً، وعسكرياً، وسياسياً ، لغرض إدامة أمد هذه الحرب، وإنهاء الطرفين واستنزاف قدراتهما، حتى خرجا من الحرب، منهوكي القوي، مثقلين بالديون، إضافة إلى عرقلة كل خطط التنمية التي كانت قد توقفت تماماً.

وقبل غزو العراق للكويت اشترى العراق حبوباً وسلعاً أخرى من الولايـات المتحـدة بملايـين الدولارات وبشروط تمويلية مناسبة، وفي ربيع 1990م زار بغداد وفد من كبار أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي واجتمعوا مع "صدام حسين" وهدؤوا من روعه إزاء انتقاد الإعلام الأمريكي لنظامه. وفي شهر يوليو 1990م أعطت السفيرة الأمريكية في بغداد (ابريل جيلسبي) في أثناء اجتماعها مع صدام، انطباعاً بأن الولايات المتحدة، سوف تتعامى عن غزو عراقي للكويت، ورغم تبرير هـذا بأنـه سـوء تفـاهم دبلوماسي، فإنه قد شجع صدام حسين بالاعتداء على الكويت .

وفي الثاني من أبريل عام 1990م اجتاحت القوات العراقية الكويت، وسوغ النظام العراقي غزوه لأسباب تاريخية، ثم اقتصادية، واجتماعية احتاجت إلى كثير من الأدلة وتعرضت للنقض، وأن الكويـت تاريخياً جزءاً من العراق، على الرغم أن بعضهم يرى الكويت جغرافياً جزءاً من شبه الجزيرة العربية، وأن الكويت كانت مستقلة عن الباب العالي "مقر الحكومة العثمانية في الأستانة" منذ عام 1913م ناسين خطورة الأخذ بمبدأ الحق التاريخي ، ومن الأسباب الواهية التي أعلنها النظام العراقي، أن ثورة وطنيـة ضد الأسرة الحاكمة في الكويت (آل الصباح)، كانت قد اشتعلت، وأن "الثوار" قـد اسـتنجدوا بالنظـام "القومي- التقدمي" في العراق من أجل المساعدة، فما كان من الجار، إلا أن لبى النداء فهب للمساعدة، وأن الكويت تاريخياً "جزء" من العراق، وهذا غير صحيح من الناحية التاريخية، لأن الكويت لها صفة مستقلة عن "الباب العالي" في الأستانة منذ عام 1913 م، عندما وقع الإنجليز معاهدة تمنح الحكم الذاتي للكويت والاعتراف بحدودها واستقلالها عن الدولة العثمانية، ومن المبررات أيضاً فقد طرح العـراق شـعار "إعادة توزيع الثروة القومية"، وهذا الشعار ببساطة يعني هيمنة النظام العراقي على مصادر الطاقة فـي الخليج من أجل الخروج من مأزقه الاقتصادي الذي وضع نفسه فيه بعـد انتهـاء الحـرب الإيرانيـة العراقية، ووجه صدام حسين منذ بداية الأزمة نداء إلى العرب والمسلمين، طالباً منهم بلغـة دينيـة لا تنسجم مع منطلقاته القومية أن يهبوا لإنقاذ الأماكن المقدسة في مكة والمدينة من الاحتلال .

بعد غزو القوات العراقية الكويت طالب جورج بوش الأب في كلمتـه فـي الخامس من أبريل عـام 1990م العراق بالانسحاب الكامل وغير المشروط من الكويت، واعتقد صدام أنها خدعة من جانب الرئيس بوش، وأنه يسعى إلى كسب الوقت من خلال الدبلوماسية والمناورات السياسية الأخرى، وعندما أدرك صدام حسين أن الولايات المتحدة جادة في استخدام القوة لطرده من الكويت طبقـاً لقـرار مجلـس الأمـن عام 1990م، حاول التفاوض على الانسحاب في ديسمبر 1991م، وكاد ينجح في آخر لحظة بمسـاعدة روسيا، ولكن حساباته الخاطئة، أدت به إلى الجدال والمماطلة، فبدأت الحملة العسكرية فـي 17 يناير 1991م ، ونجحت الولايات المتحدة في تكوين تحالف عسكري دولي لأكثر من 30 دولة ، واستطاعت طرد القوات العراقية من الكويت وتحريرها، وفضلَّت السياسة الأمريكية إبقاء العراق موحداً، والحيلولة دون تقسيمه إلى دولة كردية في الشمال، مراعاة لتركيا أحد الحلفاء في الناتو، وخوفاً من قيـام دولـة شيعية في الجنوب تساندها إيران وكانت إدارة "بوش الأب"، ترى أن الوقت لم يحن بعد لتغييـر النظـام، وتأمل أن يكون حدوث انقلاب عسكري في العراق بمرتبة أفضل حل تتمخض عنه الأحداث .

جرت حرب الخليج الثانية (1990-1991م) الكوارث على الشعبين الكويتي والعراقي، وجلبـت الدمار للشعب العراقي، على أثر الحصار الدولي على العراق بقيادة الولايات المتحدة، وبتسويغ من الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وشاركت فيه معظم دول العالم، والذي دام من عام 1990م ، حتى عـام 2003م.

وهذا الأمر سوغ لقوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة، استخدام اليورانيوم المخصب، والذي كانت له آثـاره الرهيبـة علـى السكان في العراق، فضلاً عن الكارثة البيئية من جراء حرق آبار النفط الكويتية، والتي قدرت كميتها بما يقرب من أربعة إلى خمسة ملايين برميل في اليوم .

كما أدت الحرب إلى موت الآلاف من الشعب العراقي جراء الحرب والمرض في ظـل ظـروف مأساوية في المستشفيات التي شهدت نقصاً في الأدوية، والأجهزة الطبية، وطعام الأطفال، والحليب، حتـى ماء الشرب. وظهرت أمراض السل، والدفتريا، والبلهارسيا، والكوليرا من جراء سوء التغذية.

ودمرت قوات التحالف التي وصل عددها إلى 430 ألف جندي (معظمهم أمريكيون)، معظم البنـى التحتية للعراق، وقصفت الطائرات الأمريكية الملاجئ المدنية "، مثل ملجأ العامرية في بغداد، إذ قتل فيـه 1500 مدنياً من نساء، وأطفال، ومسنين، وأُحكم الحصار على العراق منذ العام 1991م . ومن جراء الحصار أصبح الدخل الشهري للمواطن العراقي عام 1997م مـا بـين 3000 إلـى 6000 دينار عراقي ، ووصل سعر صرف الدولار إلى 1600 دينار مقابل كل دولار أمريكي، وارتفعت الأسعار للمواد الغذائية ارتفاعاً جنونياً في عام 1998م ، فوصل سعر كيلو اللحـم إلـى 1800 دينـار، وعلبة الحليب المجفف للأطفال وصل سعرها إلى 3000 دينار .

استخدمت القوات الأمريكية لأول مرة في حرب الخليج الثانية ذخائر اليورانيوم المخصـب فـي العراق قدرت بـ 40 طناً، وبعض الخبراء العسكريين قدروها بـ 300 طن، أحدثت مواد سامة، أثرت في نصف مليون إنسان أصيب بعضهم بسرطان الدم ، وبشكل خاص الأطفال .

ومع وصول الرئيس "بيل كلينون" للبيت الأبيض عام 1992م، تغيرت النظرة عموماً للملف العراقي ، بحيث لم يكن للديمقراطيين في ظل إدارته سياسة واضحة إزاء ما قد يشكله النظام العراقي من تهديدات في المنطقة ، خصوصاً ما تعلق بالمصالح الأمريكية في مجال النفط، فقد اكتفت واشنطن بسلسلة من الغارات الجوية باستخدام القنابل والصواريخ، مع الملاحظ أن الرئيس كلينتون قد ركز جهوده أكثر على الوضع الداخلي لدولته، وبسعيه للتفوق في الفترة الجديدة التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفيتي، تركيزاً على العولمة، كوسيلة أيديولوجية، تستطيع احتواء كل خطر، يتهدد أمن العالم، وأمريكا بدرجة أولى.

واستمر الإيحاء إلى ضرورة إسقاط النظام العراقي خلال سنوات حكم الرئيس كلينتون، فقد كتب المحافظين الجدد عام 1996م ورقة بعنوان Clean Break مخصصة لإسرائيل ، يقترحون فيها أن تعمل إسرائيل على إزالة جميع أعدائها من السلطة في المنطقة بداية بصدام حسين.

هذا وقد كتب نفس الفريق وهم قادة مشروع القرن الأمريكي الجديد مذكرة إلى الرئيس كلينتون، تطالب بشن الحرب على العراق، والإطاحة بنظام صدام حسين، جاء فيها : الولايات المتحدة لم تعد تستطع الاعتماد على شركائنا في تحالف حرب الخليج، لمواصلة فرض العقوبات، أو معاقبة الرئيس العراقي، حينما يمنع مفتشي الأمم المتحدة، أو يتملص منهم، وأن مقدرة الولايات المتحدة على ضمان، ألا ينتج الرئيس العراقي أسلحة دمار شامل قد تقلص كثيراً، فإذا ما أكسب الرئيس العراقي قدرة إطلاق مثل هذه الأسلحة، فإن سلامة القوات الأمريكية في المنطقة، وسلامة أصدقائنا وحلفائنا ، مثل إسرائيل والدول العربية المعتدلة وقسم كبير من إمدادات النفط العالمية ستصبح كلها في خطر ".

وعلى الرغم من رفض الرئيس كلينتون لهذه المذكرة ، إلا أنها كانت ذات مغزي أكبر، حيث أثبتت الإصرار المتواصل على الرئيس كلينتون لبرهنته الاستعداد للقيام بعمل عسكري ضد الرئيس العراقي، وهذا دليل أكبر على تشكل النزعة الحربية للإدارة الأمريكية تجاه ملف العراق، والتي سرعان ما ظهرت جلية في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر تحت اسم ضرورة تغيير النظام .

وعندما تقلد الرئيس بوش (الابن) الحكم في الولايات المتحدة عام 2000م، استمر في الإيحاء بالرغبة في النظام البعثي بقيادة صدام حسين، وهذا ضمن العديد من المبررات التي أوضحها في سنوات كلينتون فريق المحافظين الجدد، الذين أصبحوا بدورهم أعضاء بارزين في إدارته، حيث تصب كلها في إطار فشل الاحتواء السياسي للنظام العراقي منذ احتلال الكويت عام 1990م، والانتقال بذلك إلى مرحلة الاحتواء العسكري مجسدة في شن حرب مسلحة تقضي على الخطر قبل وقوعه، كما في نظر الإدارة الأمريكية.

وبحدوث هجمات الحادي عشر من سبتمبر على أهم مراكز السيادة الأمريكية العسكرية والاقتصادية ، أبدى الرئيس موقفه ممثلاً في إعلان حرب عالمية على الإرهاب ، قائلاً إنها القضية التي ستحدد سياسته الخارجية وعلاقاته مع العالم الخارجي، وفقا لمبدأ " من ليس معنا فهو ضدنا".

ففي اليوم التالي للهجمات، حصل الرئيس بوش (الابن) على موافقة الكونجرس، كقرار مشترك يجيز له استخدام القوة العسكرية ضد من ساهم أو نفذ الهجمات، واستغلها في قوله بوجود ارتباط بينها وبين النظام العراقي، حيث نجح في خلق ارتباط لا شعوري بين هذه الأحداث وبين النظام العراقي، وفي الحادي عشر من ديسمبر من نفس السنة، حذر الرئيس بوش من أن الدول المارقة التي تملك أسلحة الدمار الشامل، ستكون أولويته التالية في الحرب على الإرهاب، مشيراً بحزم إلى نية استهدافه للعراق؛ حيث قال: " إن الأولوية التالية لأمريكا في الحرب على الإرهاب، هي الحماية ضد انتشار أسلحة الدمار الشامل ووسائل إطلاقها، وتعرف كل دولة الآن، أننا لا نستطيع أن نقبل ولن نقبل دولاً تأوي، أو تمول، أو تدرب، أو تجهز عملاء الإرهاب، سوف نعتبر تلك الدول التي تنتهك هذا المبدأ نظم حكم معادية، ولقد حذرناها، ولسوف نراقبها وتعد مسئولة" .

وقد بدأت تتحدد "عقيدة بوش" حول الهجوم الوقائي بشكل أكبر، خصوصاً في كلمته المشهورة عن حالة الاتحاد في 29 يناير 2002م، عندما أعلن أن العراق ضمن دول محور الشر سيكون الخطوة الثانية للحرب بعد أفغانستان من ناحية مكافحة الإرهاب وانتشار الأسلحة الخطيرة؛ حيث قال:" مثل هذه الدول وحلفائها تشكل محور الشر، فهي تتزود بالأسلحة لأجل تهديد السلم العالمي، بالبحث للحصول على أسلحة الدمار الشامل، هذه الأنظمة تشكل خطراً جسيماً ومتزايداً، حيث إنه بإمكانها تزويد هذه الأسلحة للإرهابيين بإعطائهم وسائل في مستوي كراهيتهم، إمكانهم مهاجمة حلفائنا أو محاولة ممارسة ابتزاز بالتهديد على الولايات المتحدة، وفي كل من هذه الاحتمالات، فإن ثمن اللامبالاة سيكون كارثياً...".

ويشير العديد من المختصين في الأزمة العراقية، إلى أن "العراق أصبح بمثابة الهدف الأول والأقرب في مثلث محور الشر لأسباب عديدة ، فهو يقع في دائرة الحصار السياسي والعسكري بالفعل، ودولته مشلولة ومنكشفة عسكرياً أمام التهديدات الخارجية، وعلاقاته متوترة ببعض دول الجوار" ، وقد صار التهديد العسكري الأمريكي واضحاً ومعلناً بذرائع عديدة، وهو التهديد الأكثر جدية وخطورة منذ حرب 1991م، على الرغم من غياب أي دليل على تورط العراق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وفي حين تقوم السياسة الأمريكية، نحو إيران وكوريا الشمالية على أساس الاحتواء السياسي والردع ، فإن العمل العسكري المباشر لتغيير النظام، يعتبر من أبرز عناصر السياسة الأمريكية تجاه العراق .

وقد أشار "كولن باول" إلى هذه الاستراتيجية في حديثه أمام لجنة الموازنة في مجلس النواب في 8 مارس 2002 م، عندما أكد أن الولايات المتحدة لا تخطط في الوقت الراهن لأى هجوم على دول محور الشر باستثناء العراق، الذي أكد الرئيس بوش (الابن) أنه لن يسمح له بتهديد مستقبل أمريكا .

وعلى الرغم من عدم وجود صلة بين العراق وهجمات سبتمبر، فقد سعت بعض العناصر في الإدارة الأمريكية إلى عقد صلة بين صدام حسين وشبكة القاعدة ، واستطاعت إيهام الشعب الأمريكي من خلال كلمة الرئيس بوش (الابن) في موقع مركز التجارة العالمية في الحادي عشر من سبتمبر، وأمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في اليوم التالي، بأن الهجوم العسكري على العراق يعد أمراً مبرراً لتلك الهجمات .

كما أدي فشل الجهود الأممية في إعادة إيفاد مفتشي الأسلحة إلى العراق عام 2001م، ومطلع عام 2002م، إلى تشجيع نزعة صدام حسين على التصدي، لخطط واشنطن التي سعت منذ البداية لاحتواء العراق، عبر العقوبات الذكية ونظام التفتيش الدولي، وأصبح نظام العقوبات يلقي معارضة متزايدة في أنحاء العالم المختلفة، وأخذت دول عديدة تتعامل مع العراق على أثر ذلك تجارياً خارج هذا الإطار .... وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم