آراء

مَن يدفع حصاد التجربة التركية؟

بليغ حمدي اسماعيلربما يرى أنصار وأعضاء الجماعات والتنظيمات المتطرفة ذات الطبيعة السياسية والدينية المزدوجة فقط أردوغان الرئيس التركي نموذجًا وقدوة، وهم بالقطعية في مظانهم التي بالضرورة تحتاج إلى علاج وتصويب وتعديل، لكن يتفق الجميع من أسوياء التفكير أن ممارسات رجب طيب أردوغان السياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي هي ممارسات تشارف حد الاضطراب النفسي والشعور بالدونية والانتقاص من القدر الذاتي وهي أعراض تدفعه إلى ارتكاب ثمة حماقات طفولية، أو بالأحرى جنونية تجتر ذكرياتنا إلى مطالع الحرب العالمية الثانية حينما هرول بعض الرؤساء إلى إعلان الحرب بغير تفكير عميق أو رؤية صائبة فكانت الخيبات والحسرات كفيلة بدمار العالم آنذاك .

وإذا كان السياسيون الأتراك مازالوا يحذرون أردوغان بالعواقب الاقتصادية والبشرية الوخيمة التي ستحل على الدولة التركية المترنحة سياسيا في وقتنا الراهن جراء إعلان الرئيس التركي الأكثر تهورا بإرسال جنود تركية إلى طرابلس فإن تلك العواقب ستحقق نتيجة شواهد كثيرة معلنة للرائي وليست خفية أو عصية على المشاهدة .

فالليرة التركية لاتزال تواصل سقوطها المستدام أمام الدولار الأمريكي، وفكرة التغلغل التركي السافر في تركيا جاءت بالفشل والدمار على تركيا نفسها وهجرة الآلاف السوريين إلى تركيا التي ضاقت بهم وبجماعة الإخوان الهاربة من مصر وتونس أيضا، وهو الخوف من تحول آلاف الليبيين من ليبيا إلى تركيا وسط تردي اقتصادي يبدو طويلا هذه المرة دون التفات البرلمان التركي لهذه المخاطر .

المقدمة الشهية للدولة التركية:

بعد سقوط الخلافة العثمانية صار لدى الكتاب والمؤرخين هوس لاقتناص أخبار هذه الخلافة المريضة سياسيا لاسيما وأنها أقيمت بفضل السواعد والعقول العربية تحت مظلة أن تلك الخلافة الإسلامية، ولايزال هذا الهوس المعلوماتي قائما بالفعل بعد تغلغل متطفل من قبل الدولة التركية والذي تمثل في مشاهد متعددة قبيل ثورات الربيع العربي وحتى وقتنا الراهن . وتركيا بطبيعة تركيبتها الجغرافية والسياسية ظلت مرهونة ببقاء إعلامي يسلط الضوء عنها وعن مشاركاتها التي دوما تصيبها خيبة المسعى وفشل المأمل والمطمح، لذا كانت تربة خصبة للكتابة وتأويل الحالة التركية التي ظلت متأرجحة عقب سقوطها السياسي بعد الحرب العالمية الأولى . ولعل أشهى ما يمكن تقدمة هذه السطور عن تركيا اليوم هو الحرب الدائرة بين بعض الصحف التركية والرئيس التركي رجب طيب أردوغان بسبب نشرها وثائق وأخبار تفيد تسليح أردوغان بعض جبهات المعارضة في سوريا لكنه لا يستطيع البوح لأنه بالفعل بغير قدرة على مواجهة نظام بشار الأسد العسكري ولا الظهير السياسي الروسي والدعم الإيراني، تلك هي تركيا التي تواصل مسلسل ضعفها السياسي منذ سويعات سقوطها في ذيل الحرب العالمية الأولى .

أ ـ اللعب على عطش العيون العربية الجائعة:

وتركيا ظلت تقاوم حلمها وهاجسها القديم باستعادة زعامة الخلافة التي لم يعد لها وجود قائم عن طريق استقطاب الشعوب العربية فقط وليست الإسلامية مثل إيران عن طريق تقديم نوعية معينة من الدراما التي تم اعتمادها على دراسات تفيد عطش العيون العربية والعقول أيضا إلى مثل هذه النوعية من الدراما فكانت المسلسلات التركية التي تقدم مشاهد استثنائية من الوله والغرام والعشق وتقديم تركيا الجديدة العلمانية التي لا ترى في أعمالها الدرامية آذانا أو صلاة أو قراءة للقرآن في الوقت الذي نرى فيه عشرات المنتمين إلى جماعة وتنظيم الإخوان الذي يسانده أردوغان على شبكات التواصل الاجتماعي وهو يقرأ القرآن بصوته الذي يصفونه بالشجي الخاشع الرائع منافسا في تلاوته أساطين التلاوة المصرية من مثل محمد صديق المنشاوي وعبد الباسط عبد الصمد وغيرهما.

ولأن تركيا استهدفت منذ البداية الدول العربية لاستعادة الخلافة المزعومة التي فشلت بدليل سقوطها المدوي وتنازل مصطفى كمال أتاتورك عن أيديولوجية هذه الخلافة فقد رأت أن تقديم العشق الممنوع والأسود والحرام والصامت والصريح وكل أنواع وصنوف العشق رغم أنها دولة الخلافة الإسلامية التي تدشن لإقامة كيانات وتيارات إسلامية في منطقة الشرق الأوسط ـ هو التمهيد المناسب لعيون متعطشة للحم التركي العاري نسبيا وللأحضان الدافئة والملتهبة والمتشوقة لأنها تظن أن الشعوب العربية مريضة بالفعل كما هي سقطت بفضل المرض السياسي الذي أصابها فضعفت أمام القوة الأوروبية والتي من شأنها لا تزال تبحث تركيا عن زاوية صغيرة تنفذ منها صوب الحياة السياسية الأوروبية.

وبعد هذا التمهيد البصري التركي للشعوب العربية عن طريق دراما باتت رخيصة بعض الشئ، لجأت عقب ثورات الربيع العربي وإن لم تكن بالفعل ثورات حقيقية بل هي انتفاضات شعبية لتحقيق مطالب ومطامح قصيرة النظر تزامنت مع المخطط الصهيو أمريكي لترويج الفوضى الخلاقة والتي استحالت بالفعل سمة رائجة في العراق وليبيا واليمن وثمة مناطق في سوريا، سعت تركيا إلى هيمنة ثقافة جديدة تغزو بها العقول العربية غير متناسية في ذلك نظرية اللحم العاري والصدور الناهدة البارزة وجاء هذا الغزو من طريق سلسلة حلقات حريم السلطان التي روجت للعسكرية العثمانية وقوة السلطان العثماني الذي عزا العالم للتأكيد على عراقة الخلافة من ناحية، وعلى قوة الدولة التركية العسكرية من ناحية أخرى .

ولأن الشعوب العربية أكثر اهتماما بقضاياها الراهنة ولا تهمها بالفعل أن السلطان سليمان أكثر ولها وغراما بالجميلة هيام أو بالجواري الحسان، ولم تعد تكترث حقا بحكايا الصبايا العاشقات الوالهات صبا وشوقا في ظل واقع يتضمن وعيا أكثر بقضايا الأوطان الحقيقية، فكرت الدولة المريضة تركيا حسب توصيف أوروبا لها وليس أنا في مناصرة كافة الحركات والتيارات الدينية في المنطقة لكن لم تقدم أية إشارات حقيقية لمكانة أعرق مؤسسة دينية في العالم وهي مؤسسة الأزهر الشريف الأمر الذي عجل بسقوطها شعبيا في المنطقة العربية .

ب ـ وجوه تركيا : أنف وثلاث عيون:

لكن تركيا مباشر اليوم لم تعد تهتم بالشأن العربي لاسيما المسألة السورية لأنها باختصار وجدت نفسها في مواجهة روسيا وإيران وحزب الله فضلا عن المؤسسة العسكرية السورية وهي في الأصل غير مؤهلة لمساجلات قتالية أو حتى مناوشات سياسية لفظية ضد جهات أربع، فقط تستطيع أن تظهر بوجوه ثلاث فحسب، وجه يناصر من بعيد تنظيم الإخوان الذي كان موجودا في مصر ومعظمه إما هارب أو مقبوض عليه خلف أسوار السجون المصرية أو قرر الهجرة بعيدا إلى قطر أو ماليزيا أو تركيا التي ستضطر لاحقا إلى ضردهم إذا أمر الاتحاد الأوروبي بذلك . ووجه الدراما الذي يقدم تركيا إما على أنها دولة معاصرة جميلة وجديدة ذات نساء فائقات الجمال والروعة والإثارة، أو تركيا دولة الخلافة القوية ذات الجواري والقيان والغلمان . والوجه الأخير هو تركيا العلمانية التي قدمت تقريبا كل فروض الولاء والطاعة والإذعان التام لأوامر وشرائط وضوابط الاتحاد الأوروبي ولا تزال تقدم من أجل البقاء ضمن سياج الحماية الأوروبية .

ورغم الوجوه الثلاث التي تشير إلى ديموقراطية الدولة إلا أن مؤشرات القمع السياسي والفكري داخل تركيا هي الملمح الأكثر بروزا اليوم حينما نقرر أن نعكس المشهد التركي الراهن ولاسيما بعد أن أفصح أردوغان الموهوم بالزعامة والخلافة عن مطامحه الداخلية باقتناص الحكم منفردا بغير شريك أو معارضة .

ج ـ أردوغان: أنا الحاكم ولتسقط الديموقراطية البلهاء:

في الوقت الذي يدغدغ فيه أردوغان أسماع وعقول المحسوبين على تنظيم الإخوان في مصر أو جبهات المعارضة في سوريا بأنه الرجل الذي جاء من أوروبا ليحقق أحلام الديموقراطية في منطقة بلاد العرب هو نفسه الذي قرر أن يسحق الديموقراطية في بلاده معلنا صراحة بأنه الحاكم الفعلي للبلاد والعباد ولتسقط الديموقراطية بغير رجعة .

ففي نهاية العام المنصرم من هذا الشهر اجتمع بمساعديه ورفقاء الحلم التركي المريض معلنا بضرورة اعتماد النظام الرئاسي في الحكم وليس الاشتراط إلى نسبة أغلبية البرلمان لتشكيل الحكومة أو أن يبقى رئيس الحكومة الذي أعلن بالفعل استقالته معترضا على قرارات الرئيس الديكتاتور عدو الديموقراطية أردوغان بتحويل نظام الحكم في تركيا إلا النظام الرئاسي .

وهذا التحول الانقلابي في تركيا يعكس عن الوجه الحقيقي لرجل يطمح في الزعامة والخلافة عن طريق إقصاء الآخر، وهو يشبه في المسلك أوباما حينما كان يعوض فشله الداخلي بإقحام أمريكا في سياسات دول الشرق الأوسط متوهما وشعبه أنه بذلك يحكم العالم، لكنه في الواقع مثله مثل أردوغان يعاني من حالة فصام نفسي تجعله ينأى عن واقع ما يقدمه عن نفسه للعالم، فالأول أوباما قدم نفسه على أنه مُخَلِّص البشرية الجديد، والأخير أردوغان لايزال يقدم نفسه للعالم الإسلامي بأنه رسول الديموقراطية ولأوروبا بأنه النموذج الكامل للعلماني .

د ـ في انتظار محطة الوصول:

واليوم لا يمكننا التنبؤ بمستقبل أردوغان السياسي سوى بأنه على وشك محطة الوصول الأخير للسقوط، فهو على مستوى المشاركة في المشهد العربي الراهن لا دور له في المسألة السورية التي بدت أكبر منه ومن قدراته ومن مؤسسته السياسية، وعلى مستوى المشاركة الأوروبية ربما أنه أدرك دوره الحقيقي كوسيلة تستخدمها أوروبا بعض الوقت من أجل ترويج الفوضى في منطقة الشرق الأوسط، والداخل فبعد إقصاء كبار المفكرين والكتاب، وقهر المعارضة رغم التظاهرات التي لا تنتهي هناك، أصبح اليوم في مسعاه للانفراد بالحكم بغير مشاركة حقيقية، وعلى المواطن التركي أن يستفيق إلى مصيره مع حاكم مثل أردوغان بدا متخليا عن ديموقراطية وطنه وراح يروج لها في الشرق الأوسط مهرولا صوب أوروبا من أجل اعتراف سياسي يضمن بقاءها وسط الكيانات الأوروبية الكبيرة .

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

 

في المثقف اليوم