آراء

التفسير الفلسفي والسياسي لثورة 25 يناير المصرية (1): المقدمات والمنطلقات

محمود محمد علييعيش العالم علي مدي العقود التي تلت نهاية نظام الثنائية القطبية السوفيتية الأمريكية موجة عولمة مصحوبة بما اصطلح علي تسميته الموجة الثالثة للديمقراطية، ويقع عالمنا العربي في صميم تفاعلات تلك الموجتين، بحكم سعي غربي عام، وأمريكي بوجه خاص، لتفكيك صورة نمطية تزعم استعصاءه من بين كل أقاليم العالم العربي علي التحول الديمقراطي، فموجة العولمة معنية بقوة بإحداث ثورة تحول في عالمنا العربي باتجاه تعزيز مفردات النظام الليبرالي الحر، بما فيها الخصخصة واليد الخفية للسوق وتهميش دور الدولة، وفي القلب منها الحكومة لصالح قوي المجتمع المدني والشركات والمشروع الخاص، وهي معنية من جهة أخري بالتمكين لإسرائيل عبر عملية هندسة للشرق الأوسط من مدخل الدمقرطة تارة، وحقوق الإنسان تارة أخري .

وفي الداخل العربي تتفاعل رؤي قوي سياسية مستفيدة من الوضع القائم لتتضافر في إعاقة التغيير والتصدي لرياحه، قوي سياسية تنشد التغيير ؛ ولذلك كانت ثورة 25 يناير المصرية بكل المقاييس تمثل لدي الكثيرين حركة احتجاجية سلمية ضخمة انطلقت في مُعظم الميادين المصرية؛ وبالأخص ميدان التحرير خلال أواخر عام 2010 ومطلع 2011، متأثرة بالثورة التونسية التي اندلعت جراء إحراق الشاب التونسي "محمد البوعزيزي" نفسه، ونجحت في الإطاحة بالرئيس السابق "زين العابدين بن علي"، وكان من أسبابها الأساسية انتشار الفساد والركود الاقتصاديّ وسوء الأحوال المَعيشية، إضافة إلى التضييق السياسيّ والأمني وعدم نزاهة الانتخابات في معظم المحافظات المصرية ؛ فبعدَ الثورة التونسية نجحت ثورة 25 يناير المصرية بإسقاط الرئيس السابق محمد حسني مبارك، والذي أجبرت علي أن يعزل نفسه، وتميزت ثورة 25 يناير المصرية بظهور هتاف مصرية أخذ من ثورة الياسمين وأصبح شهيرًا في ثورة 25 يناير المصرية وهو: "الشعب يريد إسقاط  حسني مبارك ونظامه " .

وهنا يشير البعض إلي ثورة 25 يناير المصرية جاءت كرد فعل من الشعب المصري علي فترة من الركود أصابت المجتمع المصري في مختلف المجالات سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فالسياسة المصرية في أواخر عهد الرئيس حسني مبارك أصيبت بما يشبه تصلب الشرايين، خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة، فالخطاب السياسي لنظام مبارك بات مملاً ومكرراً، وغير مشبع لتطلعات الجماهير المصرية ورغبتها في التغيير في ذلك الوقت، كما أنه بات في نظر معظم الشباب المصرية  تكريساً للأخطاء التي أدت بهم إلي تردي الأحوال علي كافة المستويات، ولعبت الضغوط الاقتصادية المتزايدة علي الشعب المصري دوراً هاماً في تأجيج الغضب بين قطاعات واسعة من المواطنين المصريين، و"جاءت الشرارة التونسية لتثبت للشعب المصرية أنها قادرة علي التغيير، وأن الحل يمكن صنعه بدلا من انتظاره، ومن أجل ذلك انتقلت الثورة من تونس إلي مصر مباشرة".

فلقد تمكن الشعب المصري من خلال ثورة 25 يناير المصرية من أن يطيح بالبديهيات السلطوية للفكر الثوري الكلاسيكي، وأوضح كيف أنه من الممكن مقارعة وهزيمة سلطة هرمية مُسلّحة حتى الأسنان بحركة شعبية لا تُحرّكها أية سلطة. هنا من المهم أن نتذكر كيف أن هذا الشعب الذي يريد الآن إسقاط النظام بنفسه، بدأ كامل الاستعداد في فترات تاريخية مضت لتخويل سلطة مُحددة لتقوم بالعمل التاريخي الثوري المطلوب باسم الشعب وموافقته وبالنيابة عنه.

كما تدخل ثورة 25 يناير من جهة أخري ضمن ما عرف بالثورات الملونة التي ثارت على الاستبداد والفساد وغياب الحريات كما حدث فى جورجيا واوكرانيا وصربيا ودول أوروبا الشرقية وإرهاصات الثورة الخضراء فى إيران، وهذه الثورات الملونة لها سمات محددة منها: أولاً أنها ثورات سلمية، وثانيا أنها ثورات كانت القيادة فيها لنشطاء المجتمع المدني المرتبطين بأمريكا وأوروبا الغربية، وثالثا أنها ثورات مدارة وليست تلقائية، رابعا أن جهات عدة فى أمريكا والغرب حكومية وغير حكومية ساعدت على اشعالها، خامسا أن هذه الثورة استثمر فيها المليارات لإشعالها وتهيئة المجتمعات لتقبلها، سادسا أنه تم تسليط الضوء عليها بكثافة من  قبل الإعلام الأمريكي والغربي لتفعيل نظرية الدومينو، سابعا أنها كانت جزء من خطة غربية لعمل تغيير شامل فى دول الاتحاد السوفيتى السابق وبعد ذلك فى الشرق الأوسط، وثامنا أن بعض القيادات الميدانية فى هذه الثورات كانوا على دراية كبيرة بهذه الخطة وجزء آخر من هذه القيادات كانوا مجرد متدربين على نشاط المجتمع المدنى فى الغرب وجزء ثالث كانوا قيادات خلقتها متطلبات اللحظة الثورية، تاسعا أنه عقب اندلاعها عملت أمريكا والغرب بكل الطرق على أن تسير فى الاتجاه المخطط لها حتى ولو كان ذلك على عكس رغبة الجماهير الواسعة التى قامت بها، وعاشرا أنها نجحت بشكل كبير في بعض الدول ونجحت بشكل جزئى فى دول أخرى وفشلت فى بعض الدول.

والسؤال الآن : لماذا ثار الشعب المصري في 2011  وفي هذا الوقت بالتحديد ؟ ما الذي تغير وجعل هذا الشعب الطيب العظيم يخرج عن صمته ؟

إذا أردنا أن نبسط الإجابة ونختصرها، نقول إن التراكمات التي كانت تعتمل تحت السطح وفوقه قد بلغت مداها، وأن عوامل التفجير وصلت حدها الأقصى الذي لا يقبل مزيداً من التأخير، وصار من المحتم أن تعبر عن نفسها على هذا النحو الذي بدأ في تونس، ثم انتقل بسرعة إلى مصر لينتشر في المنطقة انتشار النار في الهشيم.

أما بخصوص  أهم التفسير الفلسفي والسياسي لثورة 25 يناير المصرية، فأود قبل أن أتطرق لعرض هذا التأصيل، أن أبرز بأن كثير من الباحثين قد حاولوا أن يقدموا لنا تفسيرات مختلفة لثورة 25 يناير المصرية، من منظور ديني واجتماعي وسياسي وسيكولوجي، بيد أن أغلب هذه التفسيرات كانت أحادية الجانب ولم تقدم لنا نظرة شاملة وكاملة لثورة 25 يناير المصرية، ولذا وجدنا أنه لزما علينا أن نطرح قراءة فلسفية وسياسية لثورة 25 يناير المصرية تكون قراءة جامعة ومانعة .

وهنا تتناول في هذه المقالات ثورة 25 يناير المصرية كأزمة سياسية، حيث انطلقت هذه الثورة الشعبية السلمية في الخامس والعشرين من يناير لعام 2011، فقد جاءت ً على الأوضاع المعيشية والسياسية هذه الثورة احتجاجا والاقتصادية السيئة، وعلى الفساد في ظل حكم الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك، ونتج عن هذه الثورة تنحي الرئيس مبارك عن الحكم في الحادي عشر من فبراير لعام 2011، بعد موجة من المظاهرات والاحتجاجات، وسقوط ً، موزعين على مناطق مختلفة من أكثر من 380 شهيدا، موزعين علي مناطق مختلفة من جمهوريه مصر العربية، وبهذا سجل الشباب المصري انعطافه ثورية حادة في مفهوم العمل السياسي.

ويعد الدور الذي قامت به شبكة الإنترنت، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، (كالفيس بوك وتويتر) وغيرها، ً في تنظيم الاحتجاجات والاعتصامات، التي شهدتها معظم المدن المصرية، حيث تم استخدامها في الإعداد والتنظيم لهذه الحركات، وتسيير فعالياتها وشعاراتها، وإتاحتها قنوات جديدة للحوار والنقاش، وتبادل الآراء والمعلومات، بعيدا عن سيطرة الدولة وأجهزتها الرقابية، كما استقطبت هذه الثورة اهتمام وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، سواء كان ذلك على الصعيد الفلسطيني أو العربي والدولي، فتابعت أحداث وتطورات هذه الثورة، إلى جانب تغطيتها للاعتصامات في ميدان التحرير والمظاهرات في مختلف المحافظات المصرية، واستعراضها لمواقف الدول والشعوب من هذه الثورة.

ولذلك هنا نحاول أن نفسر ثورة 25 يناير فلسفياً وسياسياً، وذلك من خلال تفسيرين: التفسير الداخلي – الجواني وهذا التفسير ينظر لتلك الثورة علي أنها نشأت بشكل عفوي وتلقائي، والتفسير الخارجي – البراني وهذا التفسير ينظر للثورة علي أنها كانت بفعل مخطط أمريكي – غربي لتفتيت وإسقاط الدولة المصرية من خلال تنفيذ مشروع سايكس بيكو الثانية والتي هدفها تفتيت الدول القومية إلي مجموعة من الكانتونات، والدويلات العرقية، والدينية، والمذهبية والطائفية لا حول لها ولا قوة بحيث تكون مشتتة وضائعة، وصولاً إلى هدف أن تكون إسرائيل "الدولة" الوحيدة المكتملة، بكل شروط ومواصفات الدولة الحديثة. وذلك من أجل منع قيام الوحدة العربية وإضعاف الأمة العربية، وأن يصبح العالم العربي ساحة تتنازعها الانقسامات الطائفية، والعرقية، والاثنينية، بحيث يصبح من السهل اختراقه، وإضعافه، وإقامة دويلات منفصلة عن الوطن العربي .

وقد لا يكون في الحديث النظري عن الثورة المصرية ما يرضي الفضول، وقد يكون فيه ما يبعث علي الأمل والاستنهاض،بسبب موقع مصر في العالم العربي . غير أن تأمل الممارسة العملية للثوار يفيض علي إرضاء الفضول، وذلك ان فيه ما يرضي العقل والعاطفة معاً، وما يكشف عن شجاعة البسطاء، هؤلاء الذين يصنعون التاريخ بعرقهم ودمائهم، ويذهبون إلي مواقع الصمت بلا صخب ولا إدعاء.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم