آراء

الأبعاد الحقيقية لصفقة القرن الصهيو- أمريكية (2)

محمود محمد علي"الأهداف الغير معلنة"

ذكرنا في المقال السابق تفاصيل صفقة القرن حسب كلام الإسرائيليين والأمريكيين أنفسهم، وهنا أقول لحضرات السادة القراء دعونا ننظر بعيداً عن التلاعب في الكلمات الموجودة في بنود الصفقة، وننظر إلي الأبعاد الحقيقية الغير معلنة للصفقة وذلك علي النحو التالي:

1- البعد الأول: إن هذه الخطة والعالم كله يعلم ذلك من خلال توقيتها وطريقة إخراجها، هو مساعدة رئيس الوزراء الإسرائيلي في الخروج من محنته في بلده، في كونه معرض للمحاكمة، وبالتالي دخوله السجن من 3 سنوات إلي 10 سنوات في تهم له بالفساد وخيانة الأمانة إلي آخره\؛ كما أن نجاح هذه الخطة أو عرضها علي هذا النحو يعزز فرص نتنياهو في أن ينجح كرئيس وزراء في الانتخابات المقبلة في مارس المقبل في إسرائيل، وبالتالي ينجو من عملية المحاكمة.

علاوة علي أن الخطة بشكلها الحالي كما يقول سيد جبيل (في يوتيوب له عن صفقة القرن) تغازل الناخب الصهيوني- المسيحي في أمريكا وتغازل في القاعدة الانتخابية لترامب، وهو الأمر الذي يمكن أن يساعده في تجاوز محنته في الكونجرس، لأن إجراءات عزله قد بدأت، وبالتالي تعزز نجاته من هذا العزل والمحاكمة، كما تُزيد من فرصه للترشيح رئيساً لأمريكا لفترة ثانية .

كل هذا معروف لكن دعاة اليسار الإسرائيلي يعتقدون أن الخطة - أحد أهدافها من جانب المتطرفين اليمنيين الذين قد وضعوها في أن تقطع الفرصة أو الطريق علي أي احتمال لتسوية مقبولة في المستقبل مع الفلسطينيين؛ بمعني أن من وضع الخطة يدرك أن الخطة يدرك جيداً أن الخطة لم تنفذ بعد - نعم -ولكنهم رفعوا السقف عالياً جداً بتوقعات الناخب الإسرائيلي، مما يمكن أن تحققه إسرائيل في أي تسوية، وبالتالي أي زعيم آخر يأتي مستقبلاً إن كان راغبا في السلام، سيجد نفسه في حرج في أن يهبط عن هذا السقف المرتفع، وبالتالي أي سلام سيتم التفكير فيه سوف يكون محكوم عليه بالفشل وعلي الأقل من جانب الأقلية الإسرائيلية.

2- البعد الثاني: إن فشل حل الدولتين من وجهة نظر الفلسطينيين ربما يدفع عدد كبير من الفلسطينيين إلي تبني فكرة الدولة الواحدة، بمعني أن تكون هناك دولة واحدة فلسطينية يعيش فيها العرب مع اليهود، وهذا أمر يمثل خطورة علي الإسرائيليين، لأن التوازن الديمغرافي أو السكاني لا يصب في صالح اليهود، وهذا ما عبر عنه د. عبد المنعم سعيد في أن هذا الحل قد يعني أن يكون رئيس وزراء إسرائيل قد يكون اسمه محمد، وترامب قد تحدث بنفس الصيغة فقال "إنه من غير المقبول أننا نجد في يوم من الأيام أن رئيس وزراء إسرائيل اسمه محمد نتيجة الخلل الديمغرافي لصالح المسلمين.

علاوة علي أن الخطة بهذا الشكل ليس لا تحقق الطموحات الفلسطينية فقط، بل إنها لا تحقق أيضاً السلام ولا مصالح الإسرائيليين، لأن إسرائيل سوف تظل دولة معزولة ومنبوذة، ومعظم دول العالم تعتبرها دولة عنصرية، وبالتالي سوف يظل المواطن الإسرائيلي يعيش في حالة من عدم الأمن، نتيجة وجود ملايين من الفلسطينيين يشعرون بالغبن والظلم، وبالتالي تتولد لديه الرغبة في المقاومة .

3- البعد الثالث: إن عملية الاستدعاء المبالغ فيه جدا للإشارات التوراتية وللإشارات الدينية اليهودية والتي اصطحبت المؤتمر الذي عقده ترامب في الإعلان عن الصفقة، وهم الأحاديث الصحفية والمؤتمرات الأخري التي جاءت عقب الإعلان عن صفقة القرن ... استدعاء التوراة بشدة يستدعي أيضا استدعاء المسيحية واستدعاء نظرة القرآن لليهود، وهذا الأمر في مضمونه وفي مجمله كما يقول سيد جبيل (في يوتيوب له عن صفقة القرن) تكون نتيجته إثارة التطرف الديني، وبالتالي العنف المبني علي القناعات الدينية، وليس هناك عنف أكثر شراسة من العنف الذي يكون مبني علي القناعات الدينية، وهذا خطر شديد يدخلنا في اليمين المتطرف في إسرائيل وفي أمريكا .

فمن خلال الإطار السابق فإن الإشارة المستمرة أو التشبيه المستمر للرئيس الأمريكي ترامب بالملك قورش الكبير - ذلك الملك الفارسي الذي غزا إمبراطورية بابل سنة 600 ق.م، ولما غزاهم وجد لديهم أسري يهود، لأن بابل كانت قد غزت القدس وأخذت أسري يهود هناك، وبالتالي فإنه قد أخذ قراراً في أن يعود الأسري اليهود إلي القدس مرة أخري، وسمح لهم بممارسة شعائرهم وطقوساتهم الدينية، ومن هنا أصبح قورش الكبير بطل قومي بالنسبة لليهود .. ومن وجهة نظر المسيحيين وليس اليهود أن قورش هذا وإن كان ليس من الديانة اليهودية وليس مؤمنا؛ يعني أنه من الممكن أن الله سبحانه وتعالي قد يسخر رجلاً غير مؤمن لخدمة أهداف الرب .

وهنا نسأل: وما علاقة ذلك بترامب؟:"إن هذا من وجهة نظر المسيحيين وليس اليهود في أمريكا، فإن المسيحيين المتعاطفين مع الصهيونية يعتقدون أن الرئيس ترامب رجل ليس مؤمناً، ولديه كثير من الآثام والمعاصي .. لكن الله قد سخره تحقيقاً لإرادة الله، وإرادة الله، ووفقا لرؤية هؤلاء من خلال قراءتهم للتوراة والإنجيل أن يعود كل اليهود مرة أخري إلي أرض الميعاد واليهود السامرة (الضفة الغربية)،وذلك كي تتحقق النبوءات الإنجيلية ويعود المسيح عليه السلام، وبالتالي تبدأ الألفية السعيدة .. كل هذا أيضا في إطار الاستدعاء الخطر جدا جدا للخلفيات الدينية وهو الأمر الذي يستدعيه بعد ذلك استدعاء إسلامي واستدعاء مسيحي وصدام بين الأديان.

4- البعد الثالث: إن الرئيس ترامب خلال المؤتمر الصحفي قال ملحوظة خطيرة يتوقف عندها الكثيرون في معرض استعراضه لما قدمه للدولة اليهودية وأمن إسرائيل .. حيث قال أنه من أجلهم فإنني قد اعترفت بضم الجولان، ومن أجلهم نقلت السفارة الأمريكية.. وأخذ يعدد عدة أمور .. من بينها كما قال ترامب صراحة:"خرجت من الاتفاق النووي مع إيران"، وهذا اعتراف خطير بأن هذا الخروج الذي أحدث كل الأزمات في العامين الماضيين، لم يكن فعلا يمثل خطراً علي الأمن القومي الأمريكي، ولكن فقط من أجل عيون إسرائيل فقط .

5- البعد الخامس: إن الذين صاغوا بنود الصفقة من الأمريكيين ركزوا جدا علي التفاصيل ونسوا أن  الفلسطينيين دائما ما يركزون علي الخطوط الكلية، فلا لا تهمهما تلك التفاصيل لكونها في نظرهم لا محل لها من الإعراب .. شعار كل فلسطيني يقول: قل لي هل استعيد كافة القدس الشرقية أم لا ؟ هل سوف يكون لي حق في عودة اللاجئين أم لا ؟ وما هي كامل الحدود؟ ..الخ ... أي حدثني عن الكليات ولا تدخلني في التفاصيل، وهذا الأمر عندما نستوعبه ونعرفه كما يقول سيد جبيل (في يوتيوب له عن صفقة القرن)، نعرف لماذا بعض الأمريكيين يشعرون بالإحباط من المفاوض الفلسطيني أو العربي ويعتبره أنه ليس ممتنا للوسطاء الأجانب، وهذه القصة تذكرنا بأنه عندما استعانت السعودية ببيت استشارات هندسي غربي وطلبت منه أن يجد حلولا للزحام الشديد في موسم الحج فوضع مكتب الاستشارات مجموعة من الحلول لتخفيف الزحام منها أن يتم الحج علي عدة مرات خلال العام ... وواضح أن المفاوض الأمريكي غير مدرك أو فاهم لطبيعة الحج وأهدافه وبالتالي فإن مقترحاته غير صادقة.

6- البعد السادس: نأتي إلي ملحوظة الـ 50 مليار دولار، فالأمريكيون يعتقدون أنهم أنجزوا بأن التفاصيل التي وضعوها لخطة السلام إنجاز في أن يضعوا تصور يربطوا الدولة الفلسطينية مع بعضها ويوفروا التمويل لعملية البنية التحتية للدولة الوليدة وللمشروعات الصناعية وللموانئ وللمطارات، والحقيقة أن كل هذه الـ 50 مليار والتي لن يستطيع الأمريكيون، حتي وإن وافق الفلسطينيون علي جمعها.. وهذه قصة أخري لأنه لا يوجد أحد قد تعهد كتابة من الأمريكيين، بل إنهم لن يدفعوها، فمن يدفعها - إما الدول الأوربية أو الدول العربية، وربما دول أخري .. ولكن هذه الدول في حدود ما نعلم لم يتعهد أيا منهم حقيقة بأرقام محددة ... وفي كل الأحوال أيضا هذه الأموال تأتي في إطار التفاصيل التي يهتم بها الأمريكيون والتي يرفضها الفلسطينيون .. إن فكرة الـ 50 هي أيضا في إطار الخطة، والخطة تقوم علي الترضية الاقتصادية مقابل التنازل عن الحقوق السياسية.. وهذا هو جوهر صفقة السلام أو صفقة القرن .. نراضيكم اقتصاديا وتتخلون عن حقوقكم.

7- البعد السابع: إن الدول العربية المعنية بصفقة القرن آثرت السلامة وفضلت أن تأخذ مواقف مائعة .. كأن تقول أنا أدعم خيارات الشعب الفلسطيني ... وسوف أدعم ما يختاره الفلسطينيون .. لكن دون أن تعبر عن رفضها للخطة، بل وذهبوا إلي أكثر من ذلك، وهو أن دولة ما عربية، تقول أن هذا يمثل بادرة ونقطة انطلاق جيدة للمفاوضات، أو نشكر الرئيس ترامب علي جهوده ... كل هذا في النهاية تقول أنا لا أريد أغضب أمريكا وأتعرض إلي ما لا يحمد عقباه .. وهذا له سببان: الأول: أن فعلاً فلسطين لم تعد تمثل القضية المركزية للعرب، فكل واحده من الدول المعنية لديها مشاكل بالنسبة لهم أكبر من القضية الفلسطينية- نذكر منها مثلا الخطر الإيراني لدول الخليج، وخطر الجماعات المتطرفة والمسلحة .. الخ، والسبب الثاني وهو أن كثيراً من الزعماء العرب يدرك تماما أن هذه الخطة سوف تفشل، وبالتالي فهم يريدونها أن تفشل من تلقاء نفسها دون يتحملوا عناء مواجهة ترامب. والدولة الوحيدة التي كانت أكثر وضوحاً في رفض الخطة هي الأردن لأنها الأكثر تضررا من هذه الخطة سواء أقرها الفلسطينيون أو لم يقروها فيترتب علي ضم إسرائيل غور الأردن توابع وعقبات كثيرة علي استقرار المملكة الأردنية.

إذن ما هو الحل للتخلص من صفقة القرن؟

اعتقد أنه حان الوقت لوقفة جادة لمنع قيام هذه الصفقة. فبيت القصيد يعول علي أن أي إجراء أمريكي أو إسرائيلي لن يكتب له النجاح على المدى الطويل ما دام الشعب الفلسطيني صامد على أرضه، لأن مثل هذا الصمود سيؤدي في العقود القليلة المقبلة إلى أغلبية واضحة للفلسطينيين داخل الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل اليوم، ويعلمنا التاريخ أن ما من قوة استطاعت أن تفرض حكم الأقلية على الأغلبية إلى أبد الآبدين.

لكن السؤل الذي يطرح ماذا نحن فاعلون لموجهة هذه الصفقة؟ والجواب يتطلب اتخاذ خطوات عديدة كما قال د. ناجي خليفة الدهان في مقاله صفقة القرن حقيقة أم وهم؟ منذ 2019، حيث أكد علي الخطوات التالية:-

1- توحيد مواقف فتح وحماس فورا ودعم صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة الصفقة، وتجاوز كل الخلافات بينهما.

2- وقف أشكال التطبيع كافة مع إسرائيل والتعاون الأمني معها.

3- اتخاذ قرار حكومي ونيابي بعدم تجديد اتفاقية تأجير أراضي الباقورة الأردنية.و"الغمر" اللتين تستأجرهما اسرائيل بموجب اتفاقية السلام الموقعة بين البلدين عام 1994.

4- التنسيق مع الدول العربية لدعم صمود الفلسطينيين على أرضهم ماديا ومعنويا، وليس صعبا إيجاد صندوق عربي يقدم دعما سنويا جادا للسنوات العشرين المقبلة لمنع تهويد الأراضي العربية وإيجاد فرص عمل للفلسطينيين على أرضهم.

5- تنسيق الدول العربية الرافضة مع دول الاتحاد الاوربي والدول الاسلامية وشعوبها لتكوين رأي عام دولي رافض للمشرع الأمريكي الإسرائيلي.

وكذلك أدعم الحل الذي طرحه د. باسم عثمان (في مقاله "خيارات الفلسطينيين في مواجهة صفقة "القرن" بصحيفة المثقف)، حيث قال: لإحباط سياسة الضم والاستيطان الإسرائيلية وصفقة القرن قبل اعلانها، رغم المضي قدما في تطبيقاتها العملية، لا بد من اتخاذ خطوات فلسطينية فورية تبدأ بالاستعداد الفعلي لتغيير كامل المسارات السياسية والدبلوماسية والجماهيرية:

- اعلان دولة فلسطين على كل الأراضي الفلسطينية المحتلة وعاصمتها القدس، ودعوة المجتمع الدولي لتحمل كامل مسؤولياته القانونية تجاه الشعب الفلسطيني وأراضيه المحتلة بالقوة.

- التمسك بهدف إنهاء الاحتلال وطلب توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني وممتلكاته تحت الاحتلال وتوفير شروط الصمود والمواجهة والمقاومة للشعب الفلسطيني فوق أرضيه.

- دعم المقاومات الشعبية الفلسطينية نحو عصيان وطني شامل يعم كل الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس المحتلة.

- دعوة المجتمع الدولي للتحضير لمؤتمر دولي كامل الصلاحيات وعلى أساس القرارات الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية.

- كل الخطوات السياسية والجماهيرية السابقة تختصر بقرار سياسي رسمي وحيد للسلطة الفلسطينية: بتفعيل قرارات وتوصيات المجلسين (الوطني والمركزي).

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

 

في المثقف اليوم