آراء

بول بريمر ومخطط إسقاط الجيش العراقي (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن المخطط الخبيث الذي أداره بول بريمر لإسقاط الجيش العراقي، وفي هذا يمكن القول: إن المرحلة التي جاء بها بريمر كانت كارثية بكل المقاييس؛ إذ جاء الفساد كطوفان يحدث بعد انكسار السد، جاء وكأن الغاية من غزو العراق لم تكن للقضاء علي نظام متخلف وفاسد، وإنما كانت لإسقاط الدولة وتقسيمها من خلال تفكيك الجيش العراقي؛ فالجيش يعنى هوية الدولة، كما يعنى الاستقرار لها ومواجهة أي عمليات داخلية أو خارجية، وحتى لو كان منكسراً بعد حرب لا يمكن أن يتم حله إلا لو كان هناك أسباب تهدف إلى ذلك، وهى اسباب تصب جميعها في مصلحة الولايات المتحدة، وأهمها جعل العراق بلا هوية لإعادة تشكيلها من جديد والعمل على تقسيمها دون أية مقاومة .

وهنا كان قرار بول بريمر بحل الجيش العراقي قراراً لم يجد له مثيل في التاريخ، نتج عنه أن هناك أكثر من 200 ألف شخص أصبحوا بلا عمل وليس لهم ولاء للدولة بعد احتلالها كما انهم مدربون على حمل السلاح والقتال بجانب الوفرة غير المسبوقة في السلاح التي كانت في ذلك الوقت أوجدت تلك الظروف ميليشيات مسلحة مختلفة تحولت فيما بعد الى طائفية ثم تطورت إلى أن اصبحت تنظيمات إرهابية، بل إن أغلب عناصر تنظيم داعش في العراق تقودها تلك المجموعات .

لقد شاب قرار حل الجيش العراقي الكثير من الغموض، والقرار اتخذ في واشنطن ومن قبل مسؤولين أميركيين ولكن في أي سياق ولماذا؟ حتى الآن ليس من السهل الإجابة على هذا السؤال. بل ليس من السهل الإجابة على أي سؤال يتعلق بخطط واشنطن بعد احتلال العراق. لقد عمل الفريق الحاكم إبان إدارة بوش وعمل المحافظون الجدد، بصورة خاصة، على إحباط أي نقاش حول هذه المسألة. ورداً على الذين دعوا إلى حوار حول فوائد الحرب، كتب روبرت كوغان وويليام كريستول، وهما من المحافظين الجدد النافذين ومن الذين قادوا حملة الترويج للحرب مقالاً مشتركاً يقولان فيه إن بقاء النظام في العراق هو أسوأ من أية نتيجة تقود إليها الحرب مثل تفكك العراق وصعوبات انتقاله إلى نظام جديد أو غير ذلك من التحديات.

لم يتوقع الاثنان ظهور «داعش» ولكنهما كانا على علم كاف بتنظيم «القاعدة» وباستعداده للاستفادة من فرصة سقوط النظام السابق لنقل العديد من نشاطاته إلى العراق. على رغم ذلك عارض كوغان وكريستول بحماسة أي نقاش حول عراق ما بعد الحرب. وعندما حذر رئيس أركان الجيش الأميركي اريك شينسكي أعضاء الكونغرس الأميركي من تحديات الحرب وأخطارها وقال إن احتلال العراق يحتاج إلى جيش بمئات الألوف من أجل حفظ الأمن وحماية قوات الاحتلال تعرض إلى الانتقاد العلني من قبل دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي ونائبه بول وولفوفيتز .

وعندما حل الجيش العراقي، قدم بول بريمير ثلاثة تبريرات لذلك بقوله إن الجيش تفكك تلقائياً بعد الحرب، وأن إعادة بنائه سوف تكون صعبة بسبب وجود ضباط من العهد السابق داخل القيادة العسكرية، وأن الجماعات غير العربية وغير السنية لن تقبل باستمرار الجيش السابق. لم تقنع هذه التبريرات الركيكة أحداً. ويقول فرنسيس فوكوياما في كتابه «بناء الوطن: ما وراء أفغانستان والعراق»، أنه بصرف النظر عن صواب أو خطأ هذه التبريرات، فان طريقة تطبيق قرار الحل كانت منافية تماماً للأصول المتبعة في حل الجيوش والميليشيات. فهنا يعتمد أسلوب التدرج ويتقاضى المنتسبون إلى التشكيلات العسكرية تعويضاتهم إلى أن يجدوا عملاً لهم في مجالات أخرى أو داخل المؤسسة العسكرية عندما يعاد تأسيسها. ويتفق السفير جيمس دوبنز الذي عمل مستشاراً للرئيس الأميركي لعدة سنوات مع فوكوياما في ملاحظاته، ويضيف إن إدارة بوش تجاهلت كلياً، بحل الجيش العراقي وبالطريقة التي تم بها، الخبرات الأميركية العريقة وخبرات هيئة الأمم المتحدة في حل وإعادة بناء منظمات وتشكيلات أمنية في جنوب أميركا وكوسوفو وأفغانستان.

ولعل ما جاء في حديث ألقاه فيليب زيليكو الذي عمل في المجلس الاستشاري للرئيس الأميركي من عام 2001 إلى 2003 ما يفسر موقف الأخيرين إذ قال إن العراق عندها لم يكن يشكل خطراً على الولايات المتحدة بل على إسرائيل. من هذه الناحية فإن حرباً تؤدي إلى تدمير العراق جديرة بدعم المحافظين الجدد، كما أن قراراً يضمن استمرار خراب العراق وتفكيكه مثل حل الجيش العراقي جدير بأن يكون هدفاً يسعى المحافظون الجدد إلى تحقيقه وليس محذوراً ينبغي تجنبه.

ولقد كان قرار تفكيك الجيش العراقي أثره السيئ في تغلغل إيران داخل الأراضي العراقية وبخاصة فى مناطق الجنوب التى يقطنها اصحاب المذهب الشيعي، فقد استطاعت أجهزة المخابرات الايرانية من التسلل الى الجنوب وفتح مكاتب لها واستقطبت أعدادا كبيرة من العراقيين اصحاب المذهب الشيعى حتى يكون الولاء أولا واخيرا الى ايران وليس للدولة العراقية التى تهلهلت، وأغدقت عليهم بالمال وبالفعل تكونت تلك الجماعات الموالية لإيران واخذت فى تدعيم عناصر بعينها للوصول الى السلطة، وتنفيذ المخطط الإيراني فى المد الشيعي، ولتكون تلك الخطوة بداية الانطلاق الى دول الخليج الأخرى، وقد أعطت الحرب فرصة ايران الذهبية التى كانت تسعى اليها منذ بداية ثورتها .

ونتج عن ذلك نشر الفوضى وتفكيك المؤسسات العراقية، والأجهزة الأمنية عمدا دون الحاجة لذلك، حيث تؤكد مذكرات بول بريمر علي أنه كان مصمماً علي زرع الطائفية، لتقسيم الشعب العراقي إلي طوائف وقوميات متناحرة لم يألفها ولا تشكل حقيقة لواقعه. ومن ادعاءات بريمر في كتابه: إن الشعب العراقي يتكون من النسب التالية: الشيعة يشكلون نسبة 60% والأكراد 20% أما السنة فيشكلون نسبة 19% والدليل الثابت للرد عليه يتأكد من خلال مؤشر التعداد السكاني لعام 1957 وكذلك التعداد السكاني لعام 1977 حيث لم تكن النسب التي حددها بريمر صحيحة اذ لم يؤشر التعداد السكاني العراقي عبر تأريخه منذ الاستقلال في المسح السكاني إلى الطائفة الدينية إنما كان العنوان البارز دائما هو القومية والدين أما في الدين الإسلامي فلم يحدث تأشير حول المذاهب.

تم تقديم هؤلاء على أنهم نخبة " الدمقرطة " فى العراق، ومنهم قيادات سنية، وقيادات شيعية أصروا على تفكيك الدولة العراقية، وهو ما قاد إلى تفجير متعمد للنعرات الطائفية والعرقية، بناء على دستور طائفي، وكان التفكيك وزرع الطائفية متعمدا، وبداية لتزاوج تنظيم القاعدة مع المفصولين من قيادات الدولة والسنة، لإنتاج " داعش"، أحد أكثر التنظيمات الإرهابية إجراما وأشدها " تلغيزا"

لم يكن قيام داعش بعيدا عن إرادة الولايات المتحدة الأمريكية، فيما بدا أن الغزو لم يكن يهدف إلى إسقاط صدام حسين وحزب البعث، لكن تفكيك الدولة بشكل يجعل من الصعب استعادتها، وهو ما سجله الصحفى الألماني كريستوفر رويتر، مراسل مجلة دير شبيجل الألمانية في كتابه «السلطة السوداء» ويقول: «لا يعود تأسيس تنظيم الدولة الإسلامية إلى فقهاء وعلماء مسلمين، بل إلى جنرالات وضباط استخبارات علمانيين فى حزب البعث العراقي بمساعدة غير مباشرة من الجيش الأمريكي.

وذكر رويتر أن داعش بدا بعد غزو العراق عام 2003 تحت إشراف رئيس الإدارة الأمريكية السابق فى العراق بول بريمر، الذى حل الجيش العراقي، وتم بعده تصفية عدد من ضباط الجيش العراقي، مشيرا إلى أن ليس كل من تمت تصفيتهم كانوا تابعين لصدام حسين، واعتبر داعش تنظيم استخباري، هدفه انتزاع جزء من العراق وسوريا لزرع دولة دينية، ولم يكن الهدف هو تحرير السوريين، ولا «مقرطة» العراقيين.

لم يكن الغزو هو الجريمة الوحيدة، بل أيضا نهب ثروات العراق والذهب والآثار، وزرع الطائفية، والحرب الأهلية، وهى جرائم تمت بتعمد، وبرعاية وتسويق الإعلام الأمريكى والأوروبى، بل السينما التى قدمت الغزاة على أنهم مقدسون.

وهنا تمكن بريمر من أن يحول العراق من دولة ناجحة إلي دولة منهارة؛ أي دولة غير قادرة علي القيام بوظائفها الأساسية، مع انهيار هيكل وسلطة الدولة، وإلى انهيار حكم القانون والنظام السياسي إلى البلد الذي يستلزم إعادة بنائه مرة أخري سواء بالرجوع إلى هيكل ما قبل الانهيار أو تشكيل نظام جديد يتفادي حدوث انتكاسات لعملية البناء، والتي تكون في هذه الحالة أشد حدة في تأثيراتها من الانهيار الأول وتلقي بعب ء أثقل على عملية إعادة البناء مرة أخري.

وهذا الأمر أفرز من وكذلك أفرز من الناحية السياسية:- استشراء الفساد المزمن، واستغلال النخب الحاكمة، و رفض النخب الحاكمة للشفافية، المحاسبة، والتمثيل السياسي، وانعدام الثقة الكبير في الدولة وإجراءاتها: مثل المقاطعة الشاملة للانتخابات، أو المظاهرات الشعبية العارمة، واستمرار العصيان المدني، وعدم مقدرة الدولة على تحصيل الضرائب، ورفض التجنيد الإلزامي، وتصاعد المقاومة المسلحة، ونمو الجرائم المرتبطة بتنظيمات خاضعة للنخب الحاكمة، وغياب الوظائف الأساسية للدولة التي تخدم الشعب، بما في ذلك الفشل في حماية مواطنيها من " الإرهاب والعنف "، وتوفير الخدمات الأساسية، مثل خدمات التعليم والصرف الصحي، والنقل العمومي، و حصر أجهزة الدولة في تلك التي تخدم النخب الحاكمة، مثل القوات المسلحة، والجهاز الرئاسي، البنك المركزي، السلك الدبلوماسي، الجمارك، ووكالات التحصيل، وتعليق أو توقيف تنفيذ الأحكام أو الاستعمال الاعتباطي والاستبدادي في تنفيذ القانون، وانتشار وشيوع ظاهرة انتهاكات حقوق الإنسان: ويتناول مجموعة من المعايير منها،و تفشي العنف ـ المبرر سياسياً ـ ضد الأبرياء (كمواجهة لجرائم العنف)، وتزايد أعداد السجناء السياسيين، أو المثقفين الذين تمنع لهم الإجراءات القانونية المستحقة المتوافقة مع الأعراف والتطبيقات الدولية (حرية الرأي ومحاكمات عادلة وفورية..)، والانتشار الواسع لاستغلال الحقوق القانونية والسياسية والاجتماعية، بما في ذلك حقوق الأفراد أو المجموعات أو المؤسسات الثقافية، ومضايقة الصحافة، وتسييس القضاء، واستخدام الجيش داخليا لأغراض سياسية، والقمع العلني للمناوئين السياسيين والدينيين، والاضطهاد الثقافي، ظهور الميليشيات المدعومة من طرف السلطة، والتي ترعب المخالفين السياسيين، والأعداء "المشتبه" بهم، أو المدنيين المتعاطفين مع المعارضة، .وظهور «جيش داخل الجيش» لخدمة مصالح الجيش المتغلب أو العصبة السياسية الحاكمة، وظهور الميليشيات المتنافسة، أو العصابات المسلحة، أو القوات الخاصة في نزاع مسلح، أو عنف طويل الأمد ضد قوات الدولة المسلحة...الخ.

كما أفرز من الناحية الاقتصادية: عدم التكافؤ الجمعي الملاحظ في التعليم، والوظائف، والوضعية الاقتصادية، والإفقار المتعمّد لمجموعات بعينها، كما هو مقاس بمستويات الفقر، ومعدلات وفيات الأطفال، ومستويات التعليم، وصعود الطائفية الوطنية، بناءً على عدم التساوي الحقيقي أو الملاحظ بين المجموعات، والتراجع الاقتصادي المستفحل للمجتمع ككل، بالقياس بالناتج الإجمالي المحلي، ومعدل دخل الفرد، والديون، ومعدل وفيات الأطفال، ومستويات الفقر، وفشل المقاولات الاقتصادية، والمقاييس الاقتصادية الأخرى، والسقوط المفاجئ لأسعار البضاعة، دخل التجارة، الاستثمار الخارجي، أو دفع الديون، وانهيار أو إعادة تقييم العملة الوطنية، والمعاناة الاجتماعية البالغة والمفروضة من خلال برامج التقشف، ونمو الاقتصاد الخفي: بما في ذلك تجارة المخدرات والتهريب، وهروب رؤوس الأموال، ونمو مستوى الفساد والتبادلات غير الشرعية بين العموم، وفشل الدولة في دفع رواتب موظفي الحكومة، أو القوات المسلحة، أو الوفاء بواجباتها المالية الأخرى لمواطنيها، مثل دفع رواتب التقاعد... الخ.

كذلك أفرز من الناحية الاجتماعية: الأعمال الوحشية المرتكبة ـ بدون عقاب ـ ضد مجموعات عرقية بعينها، وعزل مجموعات معينة ـ من خلال أجهزة الدولة ومجموعات مهيمنة ـ من أجل اضطهادها أو قمعها، وهروب وفرار الناس بشكل مستمر ومزمن من الدولة، وهجرة العقول البشرية: كالمهنيين والمفكرين والمنشقين السياسيين، خوفاً من الاضطهاد أو القمع، نقص الغذاء، وحدوث الأمراض، وقلة الماء الصالح للشرب، تفاوت كبير في الطبقات الاجتماعية لتنحصر في طبقتين إحداهما فاحشة الثراء وأخرى مسحوقة، بالإضافة التي غياب الطبقة الوسطى التي تعتبر علامة التوزيع الجيد للثروة، ولرتفاع اعداد المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر ...الخ.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

.......................

المراجع

1- جيمس بول وسيلين ناهوري: الحرب والاحتلال في العراق تقرير المنظمات غير الحكومية، مركز دراسات الوحدة العربية واللجنة العربية لحقوق الإنسان، بيروت، 2007.

2- إبراهيم حسن الغالبي ونزيهه صالح: مستقبل العراق في خضم التحولات الإقليمية، ط1، مطبعة الساقي، مركز العراق للدراسات، 2013.

3- محمد حسنين هيكل: الإمبراطورية الأمريكية والإغارة علي العراق، دار الشروق، القاهرة، ط3، 2004.

4- بدر حسن شافعي: إشكالية العلاقة بين الجيوش الوطنية والشركات العسكرية الخاصة، بحث منشور ضمن كتاب الجيش والسياسة في مرحلة التحول الديمقراطي في الوطن العربي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، الدوحة، قطر، 2016.

5- بوب وود ورد: خطة الهجوم، تعريب فاضل جنكر، مكتبية العبيكان،1425هـ

6- أكرم القصاص: غزو العراق لم يكن الجريمة الوحيدة.. كيف صنعت أمريكا «داعش»؟

7- رغيد الصلح: مسؤولية تدمير الجيش العراقي بين بوش والمالكي، مقال منشور بمجلة الحياه اللبنانية، عدد 20-8-2014.

8- إبراهيم خليل العلاف: الولايات المتحدة الأمريكية ومحاولة إقلمة وتدويل قضية الأمن في العراق، المؤتمر العلمي السنوي لمركز الدراسات الإقليمية، جامعة الموصل، دار ابن الأثير للطباعة والنشر، جامعة الموصل، 2007، ص 10-12.

9- رغيد الصلح: مسؤولية تدمير الجيش العراقي بين بوش والمالكي، مقال منشور بمجلة الحياه اللبنانية، عدد 20-8-2014.

 

في المثقف اليوم