آراء

كيف زلزلت كورونا عرش الاتحاد الأوربي؟

محمود محمد عليفي الأسبوع الماضي نشرت مجلة «الإيكونوميست» على غلافها صورة لكوكب الأرض ووضعت عليه لافتة مكتوباً عليها كلمة واحدة: «مغلق». بدَا كوكب الأرض فى صورة الغلاف وكأنه أحد المحال التجارية التى توقف العمل بها ووضعت لافتة الإقفال وهي :"سيتغير العالم كثيراً فيما بعد" ؛ لا سيما بعد أن زحف فيروس كورونا بعد الصين وإيران إلى دول الاتحاد الأوربي كالإعصار، جالباً معه ارتفاعاً في عدد المصابين والموتى والضرر الاقتصادي، الأمر الذي بدا فيها قادة الدول الأوروبية غير قادرين على الوصول إلى استجابة مشتركة للكارثة، التي ضربت قطاع الصحة وثقة المستهلك والأسواق المالية في آنٍ واحد.

وقد أدَّت زيادة عدد حالات الإصابة بفيروس كورونا في أوروبا إلى فرض مزيد من السياسات. فطبقاً لبيانات جمعتها مؤسسة بلومبرغ، فإن دولاً مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا تضم أكبر عدد من الحالات المؤكدة للإصابة بكورونا خارج الصين، حيث وصلت إلى 5423 و7753 و24747 حالة على الترتيب. كما زادت سرعة الإصابة والانتشار بالمرض أيضاً، فقد زادت الإصابة به في فرنسا 5 أضعاف في أسبوع واحد، بينما تضاعف عدد الوفيات في إسبانيا بين ليلة وضحاها.

إن وسائل الإعلام الأوربية اليوم ترصد الموت علي مدار الساعة وترصد معه الضعف الأوربي وانحداره درجة السقوط، ذلك السقوط الذي يشبه سقوط الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينات عندما توهم العالم لأكثر من نصف قرن نجاح الإمبراطورية الماركسية اللينينية .. وسائل الإعلام الأوربية اليوم ترصد الموت علي مدار الساعة في أنحاء العالم ... وترصد الانحدار الايديولوجي الأوربية نتيجة للسياسة التي تبرر وضع كبار السن في ممرات المستشفيات وتركهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة .. كما أن الإلقاء بالفرق الطبية في ساحة الحرب والعجز عن توفير أقنعة لهم أو حتي معقمات كحولية لدفع الأذى عنهم لا ينذر بسقوط ولا يعجل به فقط، وإنما يُظهر بشكل كامل الطرق التي يسلكها هذا السقوط .. وسائل الإعلام الأوربية ترصد الموت علي مدار الساعة في أنحاء العالم .. وترصد أيضا تداعي الاقتصاد الليبرالي الذي جعل من الربح غاية لجميع السياسات ومنتهاها .

إن فيروس كورنا بدا أقوي من كل الأسلحة مجتمعة بالعالم، مع أنه ضعيف لكن العالم لم يتوقع هذا النوع من التهديد الفيروسي يوماً من الأيام، ولم يتوقع أن تصبح الحرب اليوم حرب فيروسات قد تكون بيولوجية أكثر منها طبيعية .. كورونا كان أقوي من كل التحالفات الاستراتيجية العسكرية والأمنية والاقتصادية بالعالم .. كورونا أقوي من معاهدات الدفاع المشترك .. كورونا أقوي من اتفاقيات مواجهة الكوارث الطبيعية والغير طبيعية حتي أقوي من كل اتفاقيات العمل الاستخباري المشترك .. لقد سقطت كل التحالفات الاستراتيجية أمام الكورنا ولم يتجرأ أي من زعماء العالم حتي الالتقاء مع الآخر.. توقفت لقاءات القادة ومنتدياتهم السياسية .. توقفت المؤتمرات السياسية حتي اللقاءات السرية باتت ممنوعة .. كورونا كشف لنا أنه أقوي من الاتحاد الاوروبي الذي تهددت بلدانه بشكل كبير فرنسا وإيطاليا وأسبانيا واليونان وبلجيكا وألمانيا .. لقد أجبر كورنا الاتحاد الاوروبي علي أن يغلق الجميع حدوده في وجه الآخر وفرض الإقامة الجبرية والحجر الصحي علي من يصل أي بلد بالعالم ..أُغلقت المطارات .. أوقفت الرحلات الجوية الداخلية وتوقفت حركة المواصلات بكافة اشكالها بين دول الاتحاد.. لم تقدم أي دولة اوربية العون لإيطاليا التي باتت تفقد كل يوم اكثر من 1000 مصاب ولم يرسل أحد اجهزة التنفس الاصطناعي إلي فرنسا أو يقرر الاتحاد الاوروبي استراتيجية موحدة للقضاء علي الفيروس ببلدانهم.. كل دولة مشغولة بمصيبتها وكل دولة أصبح كل ما يهمها سلامة مواطنيها واجتياز هذه الكارثة  التي باتت تهدد العالم، مع أن تطهير أوربا يتطلب تدخل عسكري مشترك لقوات مكافحه الهجوم البيولوجي والفيروسي في حلف شمال الأطلسي إلي جانب القوات البرية والجوية وفرض منع تجول علي كل أوروبا ورشها بالمعقمات المتطورة علي مدار الساعة مع عمل علي الأرض لكشف الحالات الجديدة ونقلها إلي المستشفيات الميدانية التي يفترض أن يكون قد تم انشائها .. حلف شمال الاطلسي تبخر وقد تكون كورونا استطاعت أن تشل قدرة هذا الحلف علي التدخل السريع وكشفت أنه لم يتسارع قادته لوضع الخطط المحتملة لمحاربة هذا الفيروس بمجرد أن ضرب الصين .

والسؤال الآن : ما هو مصير الاتحاد الأوربي بعد هذه الجائحة؟ وهل فشل هذه الاتحاد في أن يكون اتحاد أزمات؟ وهل كشف فيروس كورونا عجز الغرب؟، لماذا تصرفت كل دولة بالاتحاد الأوربي كقطر مختلف عن الآخر؟، لماذا تخلوا عن إيطاليا؟، هل سقطت ألمانيا في اختبار ريادة الاتحاد؟، وهل فعلاً تصرفت بأنانية مفرطة؟، هل نحن أمام تحالفات وتكتلات جديدة، وكيف يُنظر إلي وقوف روسيا إلي جانب هذه الدول؟، هل الدعم الصيني والروسي لأوربا عملاً إنسانياً محض أم لأهداف سياسية واستعراضية؟، ولكن لماذا الهجمة علي أوربا فقط؟، ألا تسير الولايات المتحدة علي ذات النهج الأوربي؟ ألم تثبت هذه الأزمة أن لا دولة كبيرة أمام هذا الفيروس؟، هل نحن أمام ارهاصات تصدع لنظام نيو – ليبرالي وتشظي معسكر الغرب كما كان قبل الحرب العالمية الثانية؟ .

يقال إن مصائب عند قوم فوائد، وفي حال النظام العالمي اليوم تبدو جائحة كورونا العاصفة بإيطاليا مكسباً ومصدراً للاهتزاز السياسي كما أعلن التقرير الذي قدمته قناة أورينت العربية في موضوع بعنوان "هل يطيح كورونا بالاتحاد الأوربي" .. وهذا التقرير أكد لنا أن إيطاليا تعيش منذ أسابيع أسوأ أيامها مع تفشئ وباء كورونا في معظم المدن والبلدات وفي تطور خطير تتصدر الدولة الأوربية قريناتها في إعداد الإصابات بالفيروس التاجي وتسجل حتي ساعة كتابة المقال أكثر من 74 ألف حالة، فيما تتخطي إيطاليا الصين في أعداد الوفيات برقم متسارع يتجاوز 7500 شخص .. أرقام كارثية يضاف لها فرض حالة الطوارئ ومنع التجول ووقف كامل للعجلة الاقتصادية والسياحية ما أدخل إيطاليا الواقعة أساساً تحت احتمال انهيار اقتصادي بديناً اجمالي يصل بنحو ثلاثة تريليون دولار أمام نفق غير واضح المعالم .. وهنا تدخل روسيا والصين علي خط الأحداث المتسارعة في إيطاليا فترسل الأولي 14 طائرة محملة بمساعدات إنسانية وطبية بما فيها طواقم مختصة في علوم الأوبئة ومكافحة فيروس كورونا، فيما ترسل الصين المصدرة لفيروس كورونا إلي الكرة الأرضية فريقاً طبياً مؤلفاً من خبراء مكافحة فيروس كورونا وأجهزة انعاش والعناية المركزية ...

إن التحرك الروسي الصيني تمت قراءته كمحاولة للاصطياد بالمياه العكرة وفرصة لكسب إيطاليا بهدف تمزيق الاتحاد الأوربي لا سيما بعد الاتهامات الموجهة لهذا الاتحاد في التقصير بمساعدة إيطاليا، في حين تقول وسائل إعلام أوربي بأن تفشي فيروس كورونا لا يقتصر علي إيطاليا ويشمل في أضراره وأعداد مصابيه الكبيرة في أسبانيا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها .. الأمر الذي سبب حالة من الإرباك في معظم دول أوربا، وأظهر روسيا والصين كمنقذين لإيطاليا .. في حين ومع الضجة الإعلامية لهبوط الطائرات الروسية والصينية التي تحاول أحزاب إيطالية استغلالها للترويج بالمعسكر الشرقي، تأتي المفارقة من إعلان المعهد الإيطالي للشؤون الدولية في روما أن المساعدات الطبية الروسية – الصينية لا يمكن ذكرها مقارنة بتلك المساعدات التي أعلن عنها البنك المركزي الأوربي من خطط لشراء سندات إيطالية تصل إلي 750 مليار يورو وبين صناديق طبية روسية وعدة خبراء صينيين يبقي المشهد ملقي لذات المعهد بالرأي العام الذي قد لا يمكن اقناعه بتلك الحقائق .

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة نود أن نشير إليها وذلك من خلال هذا التساؤل الذي فرض نفسه على هامش الهجوم الكاسح لفيروس «كورونا»على أوروبا: متى ينهار الاتحاد الأوروبي؟ وهل ينجو النموذج الاقتصادي للاتحاد الأوروبي من وباء «كوفيدـ 19»؟! بعد أن التزمت الدول الأوروبية بما يشبه «الابتعاد الإجباري» عن دول الاتحاد، وأغلقت الحدود لأول مرة في وجه شرعية اتفاقية «شينجن» لفتح الحدود بين الدول الأعضاء في الاتحاد، لتواجه إيطاليا وإسبانيا ـ على سبيل المثال ـ حالة من العجز والاحتياج في مواجهة فيروس كورونا الذي توطن وبلغ ضحاياه عشرات الآلاف من المصابين والموتى، لولا مبادرة المساعدة العاجلة من روسيا والصين للتخفيف من نكبة إيطاليا وإسبانيا، بينما الاتحاد الأوروبي لم يتحرك وبقي في حالة من الانكماش و«الابتعاد الإجباري».. ونفس المعاناة طالت دولاً أوروبية أخرى ـ على انفراد ـ منها بريطانيا وفرنسا وألمانيا، مع غياب التنسيق والدعم المتبادل بين دول الاتحاد الأوروبي وذلك كما قال فتحي خطاب في مقال له بعنوان «كورونا» يطرح سؤالا محيرا: متى ينهار الاتحاد الأوروبي؟!

اعتقد أنه اذا ما استمرت الكارثة الوبائية في التفشي إلي نهاية العام الحالي 2020 وأتوقع كما قال فتحي خطاب (في مقاله السابق) أن يتفكك الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الاطلسي وتنهار كل اتفاقيات الدفاع المشترك بالمنطقة العربية، وقد تلجأ الدول الناجية من الكورنا إلي عقد اتفاقيات وتحالفات أكثر شمولية وأكثر تخصصة وسيكون غالبها اتفاقيات وتحالفات عمل مشترك نحو الحفاظ علي بلدان كل حلف نظيفا من أي فيروسات، بل وسوف يضعوا كل اجراءات الحماية لأي فيروس متوقع، بيولوجي كان أم طبيعياً , وأتوقع أن تسود الصين وتتراس العالم اقتصادياً وعلمياً، وتكون هي رأس كل التحالفات الاستراتيجية الجديدة لما يخدم البشرية بعيداً عن تسابق التسلح وتسابق صناعة الصواريخ التدميرية  ليكون التوجه نحو صناعة الأدوية والاكتشافات الانتي- بيولوجية التي من شانها أن تقضي علي أي فيروس متطور أو متحد مع آخر أو مولد في مهده وقبل تفشيه.. سوف تتغير خارطة التحالفات  الاستراتيجية بالعالم وسوف تتغير مراكزها وقد تندثر دول وتتلاشي وتقوي دول وتضعف أخري بفعل انهيارات اقتصادية كبيرة تسبب فيها الكورونا، وسوف يتغير شكل العالم بعد عهد الكورونا وقد تبرز دول أخري لم يكن لها وزن سياسي، لأن وزن الدول ومركزيتها بعد اليوم سيحدده العلم والتفوق العلمي والطبي والقدرة علي ايجاد كل عوامل الحماية من أي كوارث بيولوجية غامضة ككارثة الكورونا، نعم قد تتحول الحروب بعد اليوم الي حروب بيولوجية سرية يكتشفها الانسان بعد حدوث تدمير شامل وابادة شاملة لكثير من الامم وقد يختفي السلاح التقليدي ويظهر سلاح آخر أكثر فتكا بالبشر سلاح أخطر من الاسلحة النووية  تعمل به وتستخدمه دول ومنظمات واجهزة استخبارات عالمية لأغراض غير إنسانية تتنافي مع كل القوانين والشرائع الدولية التي انتهكت قبل ذلك من كثير من الدول دون ادني خشية ان يتحول العالم يوماً من الأيام إلي عالم مجنون.. وللحديث بقية عن تداعيات كرونا في المقالات المقبلة إن شاء الله!!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

 

في المثقف اليوم