آراء

كيف اجتاح الطاعون الدولة الأموية؟!

محمود محمد عليفي القرن السادس الميلادي اجتاح الطاعون أوربا والشرق الأوسط ، حيث وصل إلي العرب منذ عهد الدولة الأموية حتى عهد الدولة العثمانية، وكان رعب الناس منه طوال هذه القرون يماثل رعب الناس اليوم من فيروس كورونا.. فالطاعون دأب على اجتثاث البشر من دون رحمة أو تمييز، وكان لجهل الناس بأسباب وطرائق الوقاية منه الدور الأكبر في انتشاره وامتداده إلى مساحات شاسعة. وكثيراً ما رصدت دراسة العدوي ظهوره في أقصى جنوب العراق وامتداده إلى بلاد الشام ومصر وشمال افريقيا، مخلفاً وراءه اختلالات ديموغرافية عظيمة، امتدت آثارها سنوات وسنوات بعد حدوثها.

وما ضاعف من آثار الطاعون أن عرب شبه الجزيرة العربية لم يعرفوه قبل الإسلام، لاسيما في بيئتهم الصحراوية الجافة ذات المناخ الجاف المتطرف، الذي لم يوفر بيئة ملائمة لتكاثر القوارض وهي العامل الرئيسي للحشرات الطفيلية الجالبة للطاعون. لكن الكارثة حلت بالعرب عندما دخلوا مناطق السهول الفيضية في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين ومصر فاتحين، واستوطنوا واستطابوا العيش فيها. لكنهم دفعوا الثمن غالياً، إذ سرعان ما أكمل الطاعون ذلك المرض المستوطن في تلك البقاع- المحتاج للمستنقعات والمياه لينمو ويفتك بالبشر- إفناء عشائر وقبائل من الفاتحين عن آخرها. واستغرق الأمر نحو أربعة أجيال حتى توارثت أجسادهم الجينات المقاومة للبكتيريا المسببة للطاعون فتساووا مع أهالي تلك البقاع والمستوطنين فيها منذ القدم في مستوى المناعة، فقلت مع بدايات العصر العباسي على نحو ملحوظ تلك المعدلات المذهلة لفتك المرض بالناس.. أما الدولة الأموية، فكان قدرها أن تحكم العالم الإسلامي في ذروة فتك ذلك الوباء الخطر بالناس، وخصوصاً في القبائل العربية المهاجرة والمستوطنة حديثاً في الأمصار المفتوحة، وأن الطاعون كان النمل الأبيض في الدولة الأموية فصاحبها المرض المزمن تغالبه حيناً بتشجيع مزيد من القبائل على الهجرة من شبه الجزيرة العربية واليمن إلى المناطق الخصبة المنكوبة، أو بتشجيع الناس على الإنجاب أو التهجير القسري لشعوب وقبائل من الأمصار المفتوحة. لكن الطاعون غالبا ما كان يعاود الكرة فيغالب الدولة الأموية باختلالات ديموغرافية جديدة وذلك كما تقول انديرا مطر في مقالها للطاعون تاريخ .. لماذا وكيف فتك الوباء بالدولة الأموية .

في عام 2018 صدر كتاب بعنوان "الطاعون في العصر الأموي: صفحات مجهولة من تاريخ الخلافة الأموية"، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (184 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) للباحث المصري أحمد العدوي صدر قبل أيام عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ؛ (والباحث حائز شهادة دكتوراه في الآداب من جامعة القاهرة – قسم التاريخ بمرتبة الشرف)، وهذا الكتاب يلقي الضوء على حدثٍ تاريخيٍّ لم يحظ كثيرًا باهتمامات الباحثين والمؤرّخين العرب، وهو وباء الطاعون الذي انتشرت موجاته في عهد الخلافة الأمويّة، وشملت مساحاتٍ واسعة من الدولة، ضمّت العراق والشام وأجزاء واسعة من شمال القارّة الأفريقيّة. ويذكر المؤلّف أنّ تلك الموجات كانت كارثيّة على كافة الأصعدة، سياسيّة واجتماعيّة، حيث كان لطاعون مُسلم بن قتيبة دورًا كبيرًا في إنهاء عهد الأمويين.

ويتّخذ أحمد العدوي من دراسة آثار الطاعون في الأوضاع الديموغرافيّة في ذلك العصر، وانعكاساتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة؛ سبيلًا لتبيان آثاره على الدولة الأمويّة. بالإضافة إلى استعراضه في الفصل الأوّل من الكتاب "الطاعون وعالم العصور الوسطى"، لمكانته وقدرته على التأثير في حياة الناس في العصر الوسيط. مقدّمًا في الوقت نفسه نبذةً عن هذا الوباء، وشارحًا أيضًا الأسباب التي وقفت خلف فتكه بالناس بتلك الطريقة المأساوية التي تناولتها المصادر القديمة.

وهذا الكتاب متميز في بابه، لأنه يعالج موضوعاً قلَّ التطرق إليه في التاريخ العربي الإسلامي. فكثرة من المؤرخين كتبوا عن اضمحلال الدولة الأموية وقيام الثوار العباسيين بإسقاطها، وتأسيس دولتهم على أنقاضها. وتناول الباحثون في دراساتهم النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي اعتمدتها الدولة الاموية، كما تناولوا العرب والموالي والعصبية والصراعات القبلية، وعرضوا أيضاً الثورات والفتن التي اندلعت في العصر الأموي، واشتداد شوكة الخوارج وثورات آل البيت.. الخ. هذه العوامل كلها لا ينكر أحمد العدوي أثرها الأساسي في سقوط الدولة الأموية وانهيارها قبل أن تكمل قرناً واحداً من الزمان. بيد أن دراسته هذه تطمح إلى الوقوف على دور عامل خفي كثيراً ما ظهر كظلٍّ باهت في خلفية التاريخ، ومن ثم قلما انتبه إليه أحد: إنه الطاعون، ذلك الوباء الذي يشكل ايقاعاً منتظماً، ضاعت ملامحه في خضم الجلبة التي واكبت قيام الدولة الاموية وانهيارها ولم تروَ قصته بعد. لذا سلط العدوي في دراسته هذه الضوء على جوانب منه جامعاً مادة غزيرة لم يكن جمعها سهلاً على الاطلاق.

يتألف هذا الكتاب من ثلاثة فصول وخاتمة. يُناقش المؤلف في الفصل الأول «الطاعون وعالم العصور الوسطى»، مكانة الطاعون في عالم العصور الوسطى وأسباب فتكه بالناس. كما يشتمل على تعريف بماهية هذا المرض وطبيعته، وتأثيره في أوجه الحياة، ومنزلته في التراث العربي، حيث ترك فيضاً من التساؤلات الدينية والفلسفية والفقهية.. فينقل لنا وجهات نظر المتفقهين في الشأن، حيث بينهم من نهى عن الخروج من أرض ضربها الطاعون، وآخرون أجازوا الخروج منها نجاة بالنفس.

ويستعرض أحمد العَدوي في المحور الأول من هذا الفصل آراء وتوصيفات أهل الاختصاص في ذلك الزمان حول هذا الوباء، فينقل لنا تعريفات حول هذا المرض الفتاك لأبي بكر الرازي وابن حجر العسقلاني وابن النفيس وابن سينا... ولا يغفل نظرة العوام من الناس، الذين اعتبروا الطاعون عقاباً إلهياً يُصيب الناس من جراء انشغالهم بالدنيا وانهماكهم بالملذات وارتكابهم المعاصي وإهمال ما عليهم من فرائض وطاعات. وككل ظاهرة مؤثرة، تكثر الآراء والتكهنات، فشاع بينهم أنّ للحيوانات قدرة على استشعار قرب وقوع هذا الوباء، فإن عوت الكلاب وجاوبتها الذئاب ففي ذلك علامة هي بمثابة نذير شؤم بقرب حدوثه.. وفي المحور الثاني من الفصل نفسه، حديث عن الطاعون الذي احتل مكانة مرموقة في التراث العربي الإسلامي بصفة عامة؛ إذ استدعى بوصفه كارثة إنسانية كبرى، الكثير من التساؤلات الدينية والفلسفية العميقة التي تعدت النطاق الضيق للطب والمرض والوقاية، من قبيل هل كان الوباء الذي يصيب الناس بلا تمييز، عقابًا جماعيًا من الله للبشر على خطاياهم؟ وهل ثمة عدوى؟ فإذا كان هناك عدوى، فهل يُعدي المرض بذاته، أم لعلة خلقها الله فيه؟ وشكَّل الطاعون مبحثًا علميًّا تقاطعت فيه حقول الحديث والفقه والفلسفة والتاريخ، فضلًا عن الطب، وهو مجال الاختصاص الأصيل. وبحسبه، احتوت مسألة العدوى بذاتها على تعقيدات شرعية كبيرة، إذ سوّى الفقهاء والمحدثون بينها وبين عادات وثنية أخرى كان العرب يدينون بها في الجاهلية.

وفي الفصل الثاني «فورات الطواعين في العصر الأموي» حيث يحصي المؤلف الطواعين التي وقعت في عصر بني أمية، ويحدد تعاقبها الكرونولوجي، ويعرض لأخبار الطواعين في صدر الإسلام، كما أثبتها الرواة والمؤرخون، ويناقش الإشكالات المحيطة بها. ويحصي الباحث استناداً إلى المصادر الموثقة تاريخياً نحو 20 فورة من الطاعون في العصر الأموي، حيث دام الوباء في إحدى المرات أكثر من سبعة أعوام أزهقت خلالها أرواح الآلاف.. كما يحصي المؤلف الطواعين الواقعة في عصر بني أمية، ويضبط تعاقبها زمنيًا، تمهيدًا لدراسة آثارها. كما يعرض لأخبار الطواعين في صدر الإسلام عند الرواة والأخباريين والمؤرخين، ويناقش الإشكالات التي تُحيط بها، وأبرزها اضطراب الرواة والأخباريين في إحصاء الطواعين في العصر الأموي، والخلط بينها أحيانًا، وكذلك الاضطراب في التأريخ لها على نحو دقيق. كما أنه يتضمن تقويمًا إحصائيًا لفورات الطواعين في عصر بني أميَّة منذ عهد معاوية بن أبي سفيان إلى عهد مروان بن محمد. يكتب: "شهدت تلك الحقبة من تاريخ العالم الإسلامي نحو 20 طاعونًا، بمعدل طاعون واحد لكل 4 أعوام ونصف تقريبًا، وهو معدل هائل، وتكفي المقارنة بين هذا المعدل ومعدل تجدد الوباء في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا في العصور الوسطى المتأخرة للتدليل على عمق الأثر الذي خلفه الطاعون في العصر الأموي".

ويقف الباحث في الفصل الثالث على الآثار الديموغرافية للطواعين وانعكاساتها على المجتمع والدولة في العصر الأموي؛ فيُشير في سياق هذا الفصل إلى سرعة تفشي هذا المرض نتيجة لجهل الناس بالتعاطي معه في غياب إرشادات الوقاية والحيطة، فقد حصد هذا المرض على سبيل المثال في إحدى جولاته ما نسبته 93300 ضحية لكل 100000 نسمة، فكانت النعوش تتوالى دفعة واحدة ما بين مئة إلى 500 نعش وفي كل نعش ما بين ثلاث إلى أربع جثث.. ويشرح المؤلف أنه تسبب الطاعون أيضاً بخلو القرى والضياع من الناس، مما أثر بشكل مُباشر على موارد الدولة المتمثلة في الجزية والخراج وفقدها الأيدي العاملة، فارتفعت الأسعار من جراء نقص الأيدي العاملة، وبلغت مستويات غير مسبوقة؛ حيث وصل التضخم إلى حد فاق 50 بالمئة. ومما تسبب به الطاعون يذكر الباحث انتهاج الدولة لسياسة التهجير القسري لإعادة التوازن الديموغرافي إلى البقاع الأكثر تضرراً بسبب تفشي هذا المرض الذي أسهم في إحداث هجرات عشوائية، لجأ الناس إليها هرباً من الوباء القاتل.. وهذا ما حدا بالدولة إلى اتخاذ إجراءات صارمة وصلت إلى حد منع الفلاحين من مُغادرة قراهم، ثم لجأت إلى وشم الفلاحين والأكرة على أياديهم بأسماء القرى التي ينتمون إليها حتى يسهل أمر إعادتهم إليها.. ومن نتائج فورات هذه الطواعين المتتالية، تراجع في أعداد العرب، وهم عماد جيوش بني أمية في العراق والشام، تراجعاً حاداً، أصاب الدولة لأموية بالوهن والضعف وأفقدها مقدراتها، فعجزت عن مقاومة الثورة العباسية التي اختار روادها توقيتاً ملائماً لثورتهم بين طاعونين كبيرين أصابا الشام والعراق بين عامي 743 و748 م هما طاعونا مُسلم بن قُتيبة وطاعون غراب.. وقد أسفرا عن خسائر مادية وبشرية هائلة أصابت قلب الدولة الأموية. وانتهت الدراسة إلى تأكيد تراجع دور دمشق وفقدانها الثقل الذي تميزت به في عصر الخلافة الأموية، وكذا الأمر بالنسبة لسلوك خلفائها الذين هجروها ونأوا عنها فراراً من الطاعون.. كما يناقش الفصل هذا أثر الوباء على صعيد الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العصر الأموي". وأهم ما تمخض على توالي فورات الطاعون في العصر الأموي، كان عزوف خلفاء بني أميَّة عن الإقامة في دمشق، فكان الخلفاء قبل هشام بن عبد الملك ينتبذون إلى البرية والصحراء، أو يقيمون في الأماكن المنعزلة كالأديار اتقاءً للوباء. يكتب العدوي: " ساهم الطاعون في تغيرات ديموغرافية مهمة، كان لها استحقاقاتها السياسية لاحقًا؛ إذ قامت الدولة بتهجير عدد كبير من الزنج إلى السَّواد بغرض ملء الفراغ الديموغرافي الذي كان الطاعون يتسبب به في تلك البقاع"..

في خاتمة الكتاب، يرى العَدوي أن من غير الممكن فهم تراجع ثقل دمشق، عاصمة الخلافة في العصر الأموي، وتفسير سلوك خلفاء بني أميَّة الرامي إلى هجرها والنأي عنها إلا في ضوء الطاعون، "إضافةً إلى أن الطاعون حسم معارك كبرى جرت في العصر الأموي، منها الاجتياح المظفر للإمبراطور جستنيان الثاني لأرمينيا في عقب طاعون ابن الزبير الجارف. كما حسم الطاعون معركة مصعب بن الزبير مع عبد الملك بن مروان في البصرة التي مثّلت بداية النهاية لخلافة عبد الله بن الزبير". يضيف أن الطاعون حسم أمر سقوط الأموييين، "إذ أحسن الثوار العباسيون اختيار الوقت الملائم لإعلان ثورتهم بين طاعونين كبيرين أصابا الشام والعراق بين عامي 127 هـ/ 743 م و131 هـ/ 748 م، هما طاعون غراب وطاعون مسلم بن قتيبة. وقام هذان الطاعونان بدور كبير في نجاح العباسيين في إزالة دولة بني أمية، فكان طاعون مُسلم بن قتيبة في عام 131 هـ/ 748 م بمنزلة فصل الختام بالنسبة إلى الخلافة الاموية؛ إذ أسفر عن خسائر مادية وبشرية هائلة، أصابت قلب الدولة في عهد مروان بن محمد بصورة خاصة".

وقد صدق رسول الإسلام حين نصح بأنه إذا ظهر الطاعون فى بلد فلا تغادروه، وإذا ظهر فى بلد آخر فلا تذهبوا إليه، إنها فلسفة العزلة ومنع انتشار الوباء كما رآها النبى محمد «ص»، منذ قرابة خمسة عشر قرنًا، بشهادة الكتابات الغربية الحديثة، التى أشارت إليه مؤخرًا فى هذا السياق احترامًا لبُعد النظرة وعمق الفكرة وصدق الرؤية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم