آراء

سد النهضة والأبعاد الحقيقية للنزاع الأثيوبي المصري (3)

محمود محمد عليفي هذا المقال نعود وننهي كلامنا عن الأبعاد الحقيقية لأزمة سد النهضة الأثيوبي، وفي هذا نقول: وفى دراستين رائعتين لخبير المياه العالمى د. نادر نور الدين والباحث الصحفى الشاب عماد حمدى نكتشف أن سد النهضة الإثيوبى تبلغ قدرته التخزينية بالتقديرات الرسمية نحو 74 مليار متر مكعب من المياه، بينما تظهر صور الأقمار الصناعية أنها تبلغ 96 مليار متر مكعب، وهو ما يعنى أن التخزين وفقاً للمخطط الإثيوبى المقرر الانتهاء منه خلال 3 سنوات، سيحتجز نحو 25 مليار متر مكعب من إيراد النهر سنوياً.. ونظراً لانخفاض حجم الحصة المائية لمصر، فإن المياه لن تصل إلى أطراف الأراضي الزراعية على جانبي الدلتا، ويستمر هذا التآكل باستمرار بوار الأرض، بما يعنى تشريد كل المصريين الذين يعيشون على النشاط الزراعي فى هذه المناطق بعد ضياع أراضيهم، وهذا الخطر يحمل فى حد ذاته تهديدات أخرى، كتهديد الأمن الغذائي، وارتفاع معدلات البطالة، وزيادة رقعة الفقر، وإعاقة التنمية، وغيرها من الآثار الجانبية المترتبة على خروج مساحة لا بأس بها من الأراضي الزراعية الخصبة من الخدمة، الأمر الذى سيخلق اضطراباً اجتماعياً غير مسبوق!.

ولذلك المشكلة في بناء هذا المشروع الضخم تتمثل في تلك الفترة المطلوبة لملء خزان السد، حيث ستحول كميات كبيرة من مياه النيل الأزرق التي تنتهي إلى السودان ثم مصر ستتحول إلى الخزان، إذ يتوقع أن تتقلص حصة البلدين من تدفق النيل بشكل ملحوظ خلال فترة ملء الخزان. وتسعى القاهرة والخرطوم مقابل الموافقة على إنشاء السد، إلى تنظيم عملية ملء الخزان على نحو يقلل من حجم الضرر المائي على البلدين.. وفي يوم 10 يونيه 2014 وجه دكتور مهندس أحمد عبد الخالق الشناوي الخبير الدولي في الموارد المائية وتصميمات بالأمم المتحدة سابقا، رسالة إلي رئيس الوزراء في ذلك الوقت المهندس ابراهيم محلب، وأرفق بها دراسة علمية بعنوان "المشاكل الفنية التي تمنع إنشاء السد الإثيوبي نهائياً والحل المقترح"، وكان ذلك قبل 16 يوما من أول لقاء قمة بين الرئيس عبد الفتاح ورئيس وزراء إثيوبيا علي هامش قمة الاتحاد الافريقي الذي عقد 26 يونية 2014. وحملت الدراسة التي نقلها عضو بارز بمجلس النواب تحذيرات خطيرة من استمرار بناء سد النهضة لأنه يهدد بجفاف النهر الخالد "النيل". وأوضحت أن السد مهدد بالانهيار وتسرب كامل مياه النيل الازرق والنيل الابيض الي المحيط بسبب الظاهرة پالجيولوجية التاريخية المعروفة باسم "الفالق الإفريقي الأعظم"... الذي فصل قارة إفريقيا عن الجزيرة العربية. وأنه نتج عن هذا الفالق الأعظم فوالق أخري عظيمة عمودية عليه في القرن الإفريقي (وذلك حسب قول د. عادل عامر في مقاله سد النهضة والأمن القومي المصري!!)..

وفي عام 2015 كان اتفاق إعلان المبادئ الموقع بين مصر وأثيوبيا والسودان بشأن سد النهضة والموقع فى الخرطوم فى 23 مارس2015.  وتفاهم الدول الثلاث علي أن يكون الحوار هو الوسيلة لحل الخلافات بينها، كانت مصر مصممة علي ألا يتم المساس بحقها في مياه النيل بعد بناء سد أثيوبيا لأن المساس بحقها في المياه سيترتب عليه مشاكل كثيرة تعرض حياة المصريين للخطر.

إن الذى يجعلنى مطمئناً بشأن المفاوضات المصرية حول سد النهضة الإثيوبى، هو أمران مهمان الأول: أن السيسي وهو يتمتع بذكاء شديد يضع أمامه قاعدة راسخة ومتينة تقضى بعدم تأثير السد على حصة مصر المائية. والثانى: أن السيسي لا يمكن بأى حال من الأحوال أن يفرط فى حقوق مصر التاريخية من المياه، هذان الأمران هما الخلاصة فى عملية السد، بالإضافة إلى أمر ثالث وهو أن إعلان المبادئ الذى وقعته مصر لا يتخلى عن ضرورة عدم تأثير بناء السد على حصة مصر المائية ولا التخلى عن الحقوق التاريخية لمصر فى هذا الشأن ( وذلك حسب ما قاله وجدى زين الدين في مقاله حكاوى .. مفاوضات سد النهضة).

وإذا كان موضوع سد النهضة قد وضع ملف مياه النيل فى مقدمة الملفات على مكتب الرئيس السيسي، إلا أن ذلك لا يعنى أن مصر تسعى فقط لحل مشكلة راهنة أو الخروج من أزمة طارئة لأن موقف القاهرة يتأسس على محور مهم يحسن أن نشير إليها وأن نتوقف عنده  كما قال مصطفي الفقي في مقاله  المسكوت عنه فى ملف سد النهضة؛ وهو أن القضية الحقيقية ليست فى بناء سد النهضة من عدمه، ولكنها تتركز حول حصة مصر من مياه النهر، فنحن لا ننكر على الأشقاء فى إثيوبيا السعى نحو إقامة سد يسهم فى تنمية البلاد ، ولكن الذى يدهشنا هو أن ذلك السد الذى يحتجز أربعة وسبعين مليار متر مكعب يتجاوز بكثير الهدف المعلن لتوليد الطاقة الكهربية أو حتى استزراع مناطق جديدة تحت الهضبة، فالمقلق حقًا أن هذا السد له أهداف سياسية واقتصادية أخرى، فهو يؤدى إلى شراكة دول من خارج دول الحوض فى مياه النهر بتدفق المياه على مساحات مزروعة لمصلحة تلك الدول البعيدة عن المجرى والمصب ولكنها تلوح باستثماراتها الزراعية، هناك فى إثيوبيا والسودان بصورة تنقل المياه داخل المحاصيل المستزرعة غير مكترثين بتأثير ذلك على معدل تدفق مياه النهر إلى مصر، وهى عملية التفاف واضحة لنقل مياه النيل لدول ليست داخل حوضه، وهنا يكمن جوهر المشكلة فبناء السد محاولة لتحويل جزء من حصة مصر فى المياه إلى كهرباء ومحاصيل زراعية لدول أخري، أى أنها عملية ملتوية لتصدير مياه النيل من إحدى دول المنبع على حساب دول المجرى والمصب، وذلك إجحاف بحقوق تاريخية فى المياه ومسيرة طبيعية للنهر.

لقد أعلن الرئيس السيسى أكثر من مرة مساندة مصر لحق الشعب الإثيوبى فى التنمية التى من المنتظر أن يكون سد النهضة قاطرتها بما يوفره لها من طاقة كهربائية كبيرة،  لكنه أكد فى الوقت نفسه على ألاَّ يكون ذلك على حساب حق مصر فى الحياة باعتبار نهر النيل مصدرها الوحيد للحصول على المياه العذبة.

تجاهلت أثيوبيا اتفاق إعلان المبادئ الذى وقعته مصر والسودان معها فى مارس 2015 فى الخرطوم، رغم أنه منحها اعترافاً مجانياً بشرعية السد، وجانب التوفيق دولتى المصب لتبعات ذلك الاتفاق الكارثى.. لقد أعلنت أديس أبابا زيادة القدرة الكهربائية للسد من 6 آلاف ميجا وات إلى 6500 ميجا وات الأمر الذى سيتطلب زيادة تخزين المياه وبالتالى زيادة التأثير على حصتنا من المياه..

استمرت أثيوبيا لسنوات طويلة من المماطلة والتعنت في موضوع سد النهضة ومصر والسودان يتعبان معها سياسة النفس الطويل دون أن تفقد شعرة معاوية.. وانخرطت الدول الثلاث: مصر وإثيوبيا والسودان فى مفاوضات منذ أبريل 2015 لإعادة الدراسات الإثيوبية لسد النهضة بهدف التوصل إلى سياسات متفق عليها لملء السد وتشغيله، ولكن للأسف حتى منتصف 2019، لم تنجح المفاوضات المستمرة طوال هذه السنوات إلى بدء أى من الدراسات المطلوبة أو التوافق حول سياسات ملء وتشغيل السد. وفى نفس الوقت استمرت إثيوبيا فى إنشاءات السد وقاربت من انتهائه لفرض أمر واقع غير قابل للتفاوض. فاضطرت مصر إلى الإعلان عن فشل المفاوضات والمطالبة بتدخل وسيط دولى للوصول إلى تفاهمات مقبولة من الأطراف الثلاثة، وذلك تبعاً لإعلان المبادئ الموقع من الدول الثلاث. وبعد محاولات من الصد والرد تم الاتفاق على أن تراقب الولايات المتحدة الأمريكية جولة جديدة من المفاوضات تهدف إلى التوصل إلى اتفاق حول سياسات ملء وتشغيل السد تحت الظروف الهيدرولوجية المختلفة لتدفقات النهر.. وتولت الولايات المتحدة التواجد فى مفاوضات سد النهضة كمراقب، ولكن بحرفية كبيرة تدرك فيها حساسية دول التفاوض ومصالحها مع تفهم كبير لظروفهم الداخلية والخارجية. وجاءت خطوط التفاوض فى 3 شهور بثمرات فشلت الدول الثلاث وحدها فى تحقيقها فى عشر سنوات كاملة. وفى نهاية فترة الـ 3 شهور تبقت عدة مشاكل رئيسية تتمثل فى تعظيم بعض المكاسب الإثيوبية المادية من بيع كهرباء السد ومشاكل حقيقية تتمثل فى أحلام (أوهام) إثيوبية للسيطرة على النيل الأزرق ومياهه لتحقيق مكاسب سياسية إقليمية على حساب مصر والسودان، واستغلالًا للأزمة المائية المصرية..

إلي أن جاء يوم التوقيع النهائي وفي هذا اليوم انسحبت أثيوبيا من التوقيع ملقيه بكل عهودها عرض الحائط ، وعندما تنسحب الحُكومة الإثيوبيّة من الجولة الأخيرة من المُفاوضات الثلاثيّة حول سدّ النهضة التي ترعاها الإدارة الأمريكيّة وصندوق النقد الدولي في واشنطن تهرّبًا من توقيع النّص النّهائي للاتّفاق الذي تبلور من خِلال اجتماعاتها التي عُقِدت على مُستوى وزراء الخارجيّة والرّي في البُلدان الثلاث (مِصر وإثيوبيا والسودان) فهذا يعني أنّها لم تكن جادّةً على الإطلاق في القُبول بأيّ حل سلميّ، وستمضي قُدمًا في خُططها بمَلئ خزّانات السد بالكميّة المطلوبة (74 مِليار متر مكعب) في الفترة الزمنيّة التي تُقرّرها، ودون أيّ مُراعاة للأضرار التي يُمكن أن تلحق بالجانب المِصري، وأبرزها تجويع ملايين الفلّاحين المِصريين وانخِفاض كميّات الكهرباء من السد العالي نتيجة مباشرة لانخِفاض حصّة مِصر من مياه النيل. وذلك حسب قول ستراتفور: مصر وإثيوبيا.. صراع تاريخي مستمر على الماء النفيس، ترجمة: محمد الصباغ)

من الواضح أن إثيوبيا تنتهج المماطلة وسياسة الاستمرار فى المحادثات لكى يكون هناك تحرك فى هذه المشكلة، بينما هى تمضى فى فرض الأمر الواقع باكتمال بناء السد وبدء تخزين المياه، لذلك على الحكومة المصرية وضع سقف زمنى لهذه المفاوضات لا يتعدى الشهور القليلة للتوصل إلى اتفاق، فإذا لم يحدث ذلك يتم الإعلان عن فشل المحادثات والبحث عن وسائل أخرى لمواجهة هذه المشكلة.

السّؤال الذي يطرح نفسه بقوّةٍ هو عمّا يُمكن أن تفعله الحُكومة المِصريّة في ظِل هذا التّآمر الإثيوبيّ ضدّها، والضّرب بعرض الحائط بكُل مصالحها الاستراتيجيّة ومخاطر هذا السّد على أمنها المائيّ؟

هُناك ثلاثة خِيارات أمام الحُكومة المِصريّة: الأوّل: أن تُدافع مِصر عن مصالحها وأمنها المائيّ، بضرب هذا السّد وتدميره وتحمّل النّتائج كاملةً، وهي تملك القوّة والطائرات القادرة على القِيام بهذه المهمّة. الثّاني: أن تُعلن حربًا بالإنابة طويلة الأمد ضِد إثيوبيا، وتدعم أعداءها في القرن الإفريقي. الثّالث: أن تستسلم الحُكومة المِصريّة لأساليب المُناورة الإثيوبيُة، وتخضع للأمر الواقع تَجنُّبًا للحرب وما يُمكن أن يترتّب عليها من خسائرٍ (وهذا لن يكون). وذلك حسب قول ستراتفور: مصر وإثيوبيا.. صراع تاريخي مستمر على الماء النفيس، ترجمة: محمد الصباغ).

خلاصة القول سد النهضة الأثيوبي أصبح حقيقة قائمة وواقعة.. وعلينا أن نتعامل مع هذا الواقع بمقتضي القوانين والأعراف الدولية وحسن العلاقات مع كل من أثيوبيا والسودان من خلال الوثيقة التي وقعها زعماء البلاد الثلاثة واعتبرت بمثابة إطار حاكم بحيث لا تضار مصر في حصتها المقررة من مياه النيل نتيجة لقيام هذا السد.

أما إثيوبيا فيكفى أن أرد عليهم ببقية قصيدة شوقى عن الثعلب التى يختتمها قائلا:

يا عباد الله توبوا فهو كهف التائبينا.. وازهدوا فى الطير إن العيش عيش الزاهدينا.. واطلبوا الديك يؤذن لصلاة الصبح فينا.. فأتى الديك رسول من أمام الناسكينا.. عرض الأمر عليه وهو يرجو أن يلينا.. فأجاب الديك عذرا يا أضل المهتدينا.. بلّغ الثعلب عنى عن جدودى الصالحينا.. عن ذوى التيجان ممن دخل البطن اللعينا.. أنهم قالوا وخير القول قول العارفينا: مخطئ من ظن يوما أن للثعلب دينا.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم