آراء

الاتجاه المعاكس بين النقد والنقض (1)

محمود محمد عليقبل زمن « قناة الجزيرة الفضائية » كان الخبر يكتسب أهميته من صانعه، وليس من قربه من دائرة اهتمام الناس، وعلى رغم تحقيقها هذا الإنجاز المهني الذي يعد سابقة في الإعلام التلفزيوني العربي، إلا أن برنامج «الاتجاه المعاكس» الذي بدأت قناة "الجزيرة" بثّه منذ نهاية العام 1996م، ظهر في أول عهده بأنه نموذج ناجح للبرامج الحوارية التي كانت تمثل ظاهرة إعلامية يتدارسها الطلبة والباحثون في الجامعات، كونه استطاع من خلال الإعلامي السوري الدكتور فيصل القاسمي  التأسيس لنمط جديد من البرامج القادرة على الغوص في عمق الأشياء واستنطاق الواقع المعيش بكل تناقضاته ومرارته، وتمكن من مقابلة المتناقضين في الأفكار والتيارات وجها لوجه وإرغامهم على محاججة بعضهم بعضا بالأدلة والبرهان بعيداً عن الإقصاء واحتكار الحقيقة..

وبرنامج  الاتجاه المعاكس هو برنامج تلفزيوني أسبوعي [على أنه يعاد بثه] يدير فيه النقاش الدكتور فيصل القاسم بين محاورين اثنين لهما رأيان مختلفان ومضادان، كلاهما يحاول الدفاع عن رأيه، إما بنقض رأي الخصم، وإما بإحضار حجج ملموسة: بيانات، صور، منشورات صحفية.. الخ.

وإذا كان الرأي العام يتشكل من مواقف، أو ردود فعل لقسم هام من المجتمع الذي يواجه أحداثاً معينة من زاوية نظر المجتمع ذاته؛ فإن المتلقي بدوره يدخل في معمعة النقاش بطريقة غير مباشرة؛ وذلك عند صياغته في صمت، وجهة نظر عامة كوسيلة نظرية في الحكم حيادية، ومع ذلك فهي تختلف اختلافاً مع الرأي العام المتميز بالحركية، وتشكيل الضغوط. وهكذا تتكون الخطوة الأولى في الاستبيانة، قبل أن يفاجئ المذيع أحد الخصمين المعاند، والمشاهدين الذين يعلم أغلبهم مقدماً بالحدس، نتائج التصويت.

أما أحد الخصمين، فيلتزم بالصمت؛ وهذا يشكل ضغطاً على المخالف للرأي الآخر، في حين يتصاعد الرأي الغالب بالرغم من خروج أحد الأطراف عن قانون اللعبة. وهنا نجد برنامج الاتجاه المعاكس صنع لها بعداً آخر مهماً، حيث أشعل ناراً ملتهبة، ومثيرة في برامج الحوار، ونقل الكلام من الصدور إلى العلن، وتمكن من أن يكسر حواجز التابوهات، ويفتح ملفات ثقافية وسياسية ودينية ساخنة وممنوعة، من خلال استضافة شخصيات مثيرة للجدل في أغلب الأحيان.

لكن كما يقول المثل العربي "الزين ما بيكملش"، فرغم بدايته المدويّة كبرنامج مختلف على ساحة الشاشات العربية، باعتباره حوارياً وجريئاً، إلا أنه وفيما بعد، بدأ يتخذ طابعاً مختلفاً تبعاً للأحداث السياسية الكبرى في المنطقة العربية منذ أحداث 11 سبتمبر 2001م وما بعدها، ومع مرور الزمن على البرنامج الذي ما يزال يقدمه الدكتور فيصل القاسم كل ثلاثاء، تحولت سمته الأساسية إلى الصراخ والتحريض الممنهج، بعد أن كان في بداياته الأولى، ولسنوات طوال، إلى جانب المقاومة، وساندها، سواء في أفغانستان، أو العراق، أو لبنان، أو غزة، وكان نصيراً لانتفاضة الأقصى ومناهضاً للمشروع الصهيو-أمريكي في المنطقة العربية.

علاوة علي أن برنامج الاتجاه المعاكس قد شهد أيضاً في بداياته مناظرات فكرية رائعة وشهيرة؛ مثل المناظرة الفكرية الشهيرة بين المفكر الراحل الدكتور "نصر حامد أبو زيد" والدكتور "محمد عمارة" حول المحاكمة الشهيرة التي تعرض لها "أبو زيد" بسبب بعض آرائه الجدلية في بعض كتبه، مثل "نقد الخطاب الديني" وكتاب "الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية" وغيرها. وأيضا المناظرة بين الشيخ "يوسف القرضاوي" والدكتور "صادق جلال العظم"، والمناظرة بين العقيد الليبي الراحل "معمر القذافي" وبين المفكر المصري "سعد الدين إبراهيم" حول القومية العربية، وغيرها.

ولكن سنة بعد أخرى بدأت لهجة قناة الجزيرة تتغير ومعها بطبيعة الحال هذا البرنامج، وتتجه إلى مسار آخر تتوافق بشكل كامل مع رؤية الدولة التي تحتضن القناة، وتقف ضد كل رؤية تخالف ذلك؛  علاوة علي أسلوب الإثارة الذي يستخدمه الدكتور فيصل القاسم في برنامجه أشبه بتلك الأساليب التي تقدم فيها حلقات مصارعة الثيران أو مباريات المصارعة الحرة المتفق على نتائجها مسبقًا، وهذا الأسلوب بكل تأكيد ليس الأسلوب الذي ينبغي أن تطرح من خلاله قضايانا المصيرية والمحورية، وإنني لأشفق في كل مرة على بعض المفكرين الجادين القلائل الذين ذهبوا للمشاركة في ذلك البرنامج ليكتشفوا وقد دارت الكاميرا أنهم قد استُخدموا من دون أن يدروا في حلقة من صراع "الديكة" حكمها لا ينقصه سوى أن يحضر الطبل والزمر وأن يقلبها «عشرة بلدي».

لقد تخلى كليا الدكتور فيصل القاسم منذ 2001م وحتي الآن عن مبدأ الحياد الذي يفترض أن يتحلى به صحفي لامع  في برنامج مثل ” الاتجاه المعاكس”. أصبح طرفاً مباشراً في السجال الدائر بين ضيفيه. إنه دائما إلى جانب الضيف الذي يهاجم النظام السوري، والنظام المصري، والنظام السعودي، والنظام الإماراتي، بحيث يعاضده ويستحثه على المزيد من الكلام وتقديم ما يكفي من البراهين على صحة رأيه، في حين يقاطع الضيف الذي يساند النظام ويمنعه من الاسترسال في الحديث، ويعمل جاهداً من أجل إرباكه، وإظهاره في موقف الخاسر في الحلقة. وهنا يقوم فيصل القاسم بالخلط بين موقفه الشخصي من النظام، وموقفه المهني المفترض التقيد به أثناء إدارته لبرنامجه التلفزيوني.

في حين أن المهنية الإعلامية تقتضي من معد ” الاتجاه المعاكس” - الدكتور فيصل القاسم وضع حد فاصل بين ما هو رأي شخصي، وما هو تصرف مهني. الرأي الشخصي يجوز التعبير عنه في الأماكن الخاصة، مثل المقرات الحزبية، أو النقابية، أو الجمعيات الأهلية، أو في مقالات صحافية.. أما التصرف المهني في برنامج حواري تلفزيوني يتواجه فيه ضيفان، فإنه يقتضي من صاحب البرنامج أن يكون محايداً، ولا يناصر جهة على أخرى، وأن يعامل ضيفيه سواسية، حتى في الوقت المخصص لكل منهما.

للأسف، على هذا المستوى لا يتصرف فيصل القاسم بعدل، من خلال المشاهدة والمعاينة، بل يمكن القول: إن ثلثي الوقت المخصص للبرنامج تقريباً يعطيهما "فيصل القاسم" للضيف المناوئ للنظام، والثلث الباقي يتكرم به على من يدافع عن النظام ويؤازره، وخلال تدخل هذا الأخير يشرع القاسم في معارضته ومناكفته، وأحياناً يقوم بتوقيفه ومنعه عن الكلام. حق الموالين للنظام السوري والمصري والسعودي في إبداء رأيهم في ” الاتجاه المعاكس” لم يعد مضموناً، وإنما صار شبه مصادر تماماً في ” الاتجاه المعاكس” من طرف مقدمه.

وهنا وجدنا الكثير من المفكرين والصحفيين المهنيين يهاجمون هذا البرنامج الذي افتقد بالفعل الصفة الموضوعية، فوجدنا الأستاذ "راسم المدهون" كتب في صحيفة " الحياة" مقالاً بعنوان «الاتجاه المعاكس برنامج من الماضي»، وتساءل: هل لا يزال البرنامج يمتلك جاذبيته الأولى؟ وانتقد لغته، وقال إنها «سوقية»، فضلاً عن أنه وصف استفتاء البرنامج بأنه «غوغائي»، استناداً إلى أن «لكل قناة جمهورها الذي يؤيد ما تبثه». وهذا الرأي فيه تقليل من دور المشاهدين، فضلاً عن أنه يتجاهل قاعدة إعلامية معروفة، هي أن «الجمهور هو الذي يطور المرسل». واتهم الكاتب، فيصل القاسم، بالانحياز إلى أحد المتحاورين، وهذا الاتهام فاته أن الحياد في الإعلام كذب. ليس في الإعلام حياد، هناك موضوعية. الحياد ليس فرضاً من فروض الإعلام. وفيصل القاسم يُلام على العبث بالموضوعية، وليس على إهمال الحياد، ناهيك بأن الحياد في ظروف منطقتنا ضرب من المستحيل. هل يستطيع مواطن سوري أن يكون محايداً في حوار حول ممارسات نظام الأسد ضد مواطنيه؟

وذهب أحد الصحفيين فأكد قائلاً: لا أدري هل يحق لي نقد برنامج الاتجاه المعاكس الذي يذاع ليلة الثلاثاء من كل أسبوع علي قناة الجزيرة القطرية، ذلك البرنامج الذي أتابعه منذ مراهقتي الفكري، لقد أصبح هذا البرنامج نموذجاً الانفلات الفكري الذي يعتمد علي مبدأ الرغبة، والمناكفة، ومقايضة المواقف بالمواقف...

ومن الملاحظات على البرنامج أيضا أنه يطرح أحيانًا قضايا تحتمل آراءً كثيرة؛ وخاصة في السياسة؛ التي لا تعرف الثابت؛ وإنما تدور جميع قضاياها في دائرة المتحول، ولكنه يطرحها أمام المشاهدين بحيث تبدو وكأنها تحتمل رأيين فقط لا ثالث لهما.. ولا أدري ما هي الرسالة التي يريد فيصل القاسم توصيلها إلى المشاهدين من وراء هذه العملية التشويهية المتعمدة في برنامج الاتجاه المعاكس؟.. فهل هذه هي الحيادية والمهنية التي يتحدث  هو عنها؟.. وللحديث بقية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقل بجامعة أسيوط

.........................

المراجع

1- راسم المدهون: «الاتجاه المعاكس برنامج من الماضي»،(مقال).

2- محمد الإحسايني: سوسيلوجيا المناقشات في برنامج: -الاتجاه المعاكس- الحوار المتمدن-العدد: 2071 - 2007 / 10 / 17 - 11:28

3- إبراهيم بوعدي: حول " برنامج الاتجاه المعاكس " (مقال).

4- صالح البلوشي: برنامج "الاتجاه المعاكس"(مقال).

5- د. طارق المالكي: برنامج الاتجاه المعاكس والاهداف المخفية (مقال).

6- عبدالسلام بنعيسي: محزن ان يصبح "الاتجاه المعاكس" معاديا (مقال).

 

في المثقف اليوم