آراء

ثورة 23 يوليو.. والذكري الثامنة والستون

محمود محمد عليفي عام 1952 قبل ثمانية وستين عاماً من اليوم وبعد ساعة ومن الآن العاشرة مساءً في هذه اللحظة، وفي الساعة الحادية عشرة مساءً تحرك أول الضباط الأحرار العقيد "يوسف صديق" بقواته، متقدماً ساعة عن الموعد الذي كان محدداً في منتصف الليل، لكي تبدأ قصة ثورة 23 يوليو بقيادة الزعيم الراحل "جمال عبد الناصر"، فبعد ساعة من هذا التوقيت تغير التاريخ ليس في مصر فقط، ولكن في منطقتنا العربية كلها، وفي العالم الثالث بالكامل .

بدأت قصة 23 يوليو التي أصبحت تمثل الثورة الأم، والتي بداها الجيش المصري بقيادة تنظيم الضباط الأحرار، والذي كان يضم العشرات من الضباط، والذي وضع في تاريخ مصر دوراً جديداً للجيوش الوطنية، ففي هذه الثورة، والتي يمكن أن نسميها بالحركة المباركة كما سُميت في بدايتها بدأ تاريخ جديد يُكتب في المنطقة .

في ذكري هذه الثورة المصرية سنحاول أن نناقش بعض من محاورها، ومن أثارها، وممن تبقي منها إذا كان قد تبقي منها الكثير أو القليل، هذا ما سنحاول أن نتعرف عليه ..

ثمانية وستون عاما لم ينسي فيها التاريخ أن ثورة الثالث والعشرين من يوليو لم تكن حكاية للشعب المصري فحسب، بل كانت قصة شعوب ثائرة، رفضت القهر والظلم، وتمردت علي الاستعمار ..  حركة مباركة تحولت إلي ثورة بيضاء، لم ترق فيها دماء، لتصبح بوتقة تنصهر فيها حركات التحرر  الوطني في العالم العربي والإفريقي.. تحول مصر إلي قاعدة للنضال والدفاع عن الحقوق المسلوبة .. فبما قدمته من إنجازات وما أحدثته من تحولات جذرية .. لا تزال ثورة 23 يوليو هي العلامة البارزة في تاريخ مصر .. ونقطة تحول أساسية في مسارها الوطني .. فلم تحكن تحويلاً لنظام الحكم من ملكي إلي جمهوري، بقدر ما كانت شرارة للتغيرات الاجتماعية .. ورسخت مفهوم التحرر الوطني، وتحقيق استقلال البلاد .

لم تطح الثورة بالاستعمار والأوضاع السياسية فحسب، بل إنها غيرت المعادلة الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية في مصر تغيراً جذرياً، بانحيازها لصالح الطبقة العاملة التي عانت من الظلم والتهميش والحرمان طوال سنوات عديدة .. إسقاط النظام الملكي وإقامة حكم جمهوري، كان هدف الثورة منذ اللحظات الأولي، فيما جاءت مبادئ ستة لتمثل خريطة طريقها، وهي القضاء علي الإقطاع، والاستعمار، وسيطرة رأس المال، وإقامة عدالة اجتماعية، وبناء حياة ديمقراطية، وجيش وطني .. فتحل تلك الذكري كل عام وتطفو خلالها معالم الوطنية  الخالصة لأبناء الشعب المصري، ورجال القوات المسلحة، الذين تجد صدي أعمالهم تصدح في الأفق، أينما يمر التاريخ.

لقد أعادت الثورة للمصري حريته وكرامته التي سلبت من قبل الطبقة الحاكمة والمالكة للثروة. وأيضاً من الاستعمار.. لقد كان شعار الثورة: "ارفع رأسك يا أخي. فقد مضي عهد الاستعمار".. ولمن يقرأون تاريخ مصر وبالأخص تاريخ ثورة يوليو. والذين يستقون معلوماتهم من أعداء مصر والمتربصين بها.

وثورة يوليو قام بها ضباط جيش مصريون ضد الحكم الملكي في 23 يوليو 1952، عرفت في البداية بالحركة المباركة، ثم أطلق عليها البعض فيما بعد لفظ ثورة 23 يوليو. وقامت الثورة على مبادئ ستة كانت هي عماد سياسة الثورة هي: القضاء على الإقطاع، والقضاء على الاستعمار، والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، وإقامة جيش وطني قوي، وإقامة عدالة اجتماعية.

علاوة علي أن  ثورة 23 يوليو 1952 أضحت بشهادة الكثيرين تمثل لحظة فاصلة في تاريخ الشعب المصري.. لحظة مسكونة بفيض المشاعر ومشحونة بملايين الأحاسيس الحية المختلطة بدم ودموع وعرق وتضحيات وآمال أجيال كثيرة كافحت من أجل أن تراها وتعيشها أجيال أخري تأتي من بعدها . 23 يوليو ثورة شعب أراد أن يعيد صياغة تاريخه ومستقبله لصالحه فجاءت صناعة مصرية خالصة وملكية مصرية مائة في المائة حتى بعد أن امتد تأثيرها إلي خارج حدودها بكثير. ونحن على أبواب العام الثامن والأربعين لقيامها هل أحطنا بكل ملامح هذه الثورة.. وهل عرف الأبناء والأحفاد وتاريخها الحقيقي أم أن تاريخها مازال مجهولا في خضم سيل من الذكريات والمذكرات والمشاعر المحبة والكارهة والكتابات السياسية النزيهة أو الملونة أو ذات الغرض.

وقد بدأت الثورة بقادة تنظيم الضباط الأحرار الذى ضم طليعة من شباب ضباط الجيش المصري بزعامة جمال عبد الناصر وقوبلت باستجابة شعبية عارمة وتحولت إلى ثورة شاملة عبر مجموعة من الإجراءات بدأت بالإصلاح الزراعي ثم التخلص من النظام الملكي وإعلان الجمهورية، وصولاً إلى معاهدة الجلاء وكسر احتكار السلاح حتى وصلنا إلى قرار الرئيس عبد الناصر بتأميم شركة قناة السويس والصمود أمام العدوان الثلاثي حتى خرجت مصر منتصرة واستردت قناتها، وبذلك اكتملت كل معالم ثورة 23 يوليو 1952 وهو ما تجلى واضحًا فى الفترة من عام 1956 حتى نهاية حرب أكتوبر 1973 .

فى تلك الفترة استردت مصر استقلالها سياسيًا وبعد فشل العدوان الثلاثي بدأت استرداد اقتصادها من الأجانب واليهود وتغير شكل المجتمع المصري تمامًا عن الفترة السابقة على الثورة فى كل المجالات، شهدت تلك الفترة ذروة النهوض الاقتصادي والاجتماعي والأدبي والفني والفكري المصري، كما شهدت بروز دور مصر الإقليمي والدولي كإحدى القوى المؤثرة فى العالم ولا يمكن لأحد أن ينسى الدور المصري فى الوطن العربى وفى العالم الثالث وفى حركة عدم الانحياز .

وقد حققت مصر فى تلك الفترة معدلات نمو اقتصادي غير مسبوقة وغير ملحوقة حتى الآن، وتلك الفترة هى التى شهدت بناء السد العالى و1200 مصنع صناعات استراتيجية وثقيلة وتحويلية، كما شهدت توسعًا زراعيًا غير مسبوق وأحسن معدلات إنتاج للمحاصيل الزراعية .

كانت تلك الفترة هى التى شهدت أوسع عملية للحراك الاجتماعي فى مصر عبر مجانية التعليم وبواسطة تكافؤ الفرص بين الأغنياء والفقراء.

تغيرت صورة مصر تمامًا خلال تلك الفترة، لذا فقد شكل هذا الصعود المتنامى للقوة المصرية ونجاح تجربة التنمية التى كان يقودها جمال عبد الناصر فزع لدى القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية فتم نصب فخ 5 يونيو 1967 للقضاء على مشروع النهضة العربى ولكن الجماهير العربية فى مصر، وعلى امتداد الوطن العربي، رفضت الهزيمة وطلبت من الرئيس عبد الناصر البقاء فى موقعه وجلب النصر.

وقد شهدت الأعوام الأخيرة من حكم الرئيس عبد الناصر أفضل إنجازاته، فقد تم إعادة بناء الجيش المصرى من جديد على أحدث النظم العلمية فى العالم، وتم بناء حائط الصواريخ المنيع على حافة الضفة الغربية لقناة السويس، وتم وضع خطط العبور وتحرير الأرض العربية المحتلة كل الأرض العربية المحتلة وليس سيناء فقط، فقد رفض الرئيس عبد الناصر أكثر من عرض أمريكي وإسرائيلي ينص على عودة سيناء فقط لمصر دون شروط وقال كلمته الشهيرة “القدس والضفة الغربية والجولان قبل سيناء”، ولم يقبل بحل جزئى منفرد لقضية النزاع العربي الإسرائيلي .

صعدت روح الرئيس عبد الناصر إلى بارئها بعد ثلاثة أعوام من النكسة، واقتصاد مصر أقوى من اقتصاد كوريا الجنوبية، ولدى مصر فائض من العملة الصعبة تجاوز المائتين والخمسين مليون دولار بشهادة البنك الدولي.

لا تزال ثورة يوليو تشكل علامة بارزة في تاريخ الوطن ونقطة تحول أساسية في مساره الوطني، بما قدمته من إنجازات مهمة وما أجرته من تحولات جذرية في جميع جوانب الحياة.

إنني أتمنى أن ننظر إلى تاريخنا إلى باحترام.. ونتعلم منه، وهذا يجمعنا ولا يفرقنا كالدول المتحضرة... وتحيا مصر.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم