آراء

ليبيا: من صندوق الرمال إلى صندوق الذهب

محمود محمد عليذكر عالمتا الكبير الراحل جمال حمدان (1928- 1993) في كتابه الرائع والذي يحمل عنوان " الجماهيرية العربية الليبية: دراسة فى الجغرافيا السياسية" ، والمنشور بمكتبة «مدبولى» المصرية  وذلك عام 1996، فمن خلال مقدمة مركزة وبابين (300 صفحة)، تناول «حمدان» «المسألة الليبية» فى ضوء «علم الجغرافيا السياسية»؛ حيث تتبع «التطور الجيوبوليتيكى - الجغرافي السياسي لليبيا» فى الباب الأول. وقام بجهد مبدع بما أطلق عليه "تحليل القوة" الليبية؛ فى الباب الثانى.

بداية يشرح حمدان أهمية الجغرافيا السياسية باعتبارها: "ذلك الفرع من العلم الذى يحلل الجوهر الكامن والدفين فى كيان الدولة، ويمارس التشريح الموضوعي للجسم السياسي، من الجلد إلى العظم وحتى النخاع.

وهنا نجد جمال حمدان يدرس تفاصيل «المسألة الليبية» من حيث الآتى: أولا: التاريخ القديم والوسيط الجغرافى ـ السياسي لليبيا، وثانيا: ما أسماه »«حمدان» دراسة جغرافية الاستعمار الإيطالي الليبي ومن ثم جغرافية التحرير، وثالثا: دراسة أداءات ليبيا المستقلة تجاه جغرافيتها السياسية.

ولتوضيح ذلك يقول جمال حمدان، قد تكون ليبيا كدولة «ظاهرة حديثة جدا فى السياسة الدولية. بنت القرن العشرين على الأكثر، ولكنها فى حكم الجغرافيا السياسية، وبمقاييسها دولة قديمة للغاية، عمرها عشرون قرنا على الأقل».

فمنذ عرف الإغريق القدماء الأرض التى ذكرها لنا «هيرودوت باسم ليبيا، والعالم مضطر إلى أن يفردها كوحدة جغرافية متميزة». فبين «كتلة جزيرة المغرب» غربا، ووادى النيل بمصر» شرقا، وإلى «الجنوب من الحوض الأوسط للبحر المتوسط، تمتد مساحة شاسعة»، لا مفر من اعتبارها منطقة جغرافية قائمة بذاتها.

ويستطرد جمال حمدان، فيقول: ثم هى فى الوقت نفسه وإن اشتركت معهما فى القطاع الأكبر من الصحراء، التى هى بحد ذاتها عامل فصل أولى، تختلف بقطاعها الفعال عن كل منهما اختلافات متفاوتة ولكنها أساسية، سواء فى البنية أو البيئة، الطبيعية والبشرية... ومن هذين العاملين: أولا: مطلق الامتداد المترامى؛ وثانيا: الاختلاف الطبيعى والبشرى المطلق والنسبى؛... تستمد ليبيا قوتها؛ من الموقع والثروة الطبيعية والبشرية.

ثم بؤكد جمال حمدان فيقول: "ومن الناحية الأخرى فإنها كما تتألف فى الداخل من نطاق متوسطى وقطاع صحراوى، تقع بين البحر المتوسط ومن خلفه أوروبا شمالا وبين الصحراء الكبرى ومن ورائها السودان الإفريقى وإفريقيا المدارية جنوبا".

وهنا يصل جمدان حمدان إلي حقيقة هامة وهي موقع ليبيا استطاع أن يكتسب عبر التاريخ قيمة كبيرة؛ حيث تبين عمليا وفى أوقات الحروب - تحديدا - الأهمية الاستراتيجية لليبيا حيث يمكن أن يتم «تهديد شرايين مواصلات البحر المتوسط، كما يمكن منه الزحف يمينا إلى الشرق الأوسط ويسارا إلى شمال إفريقيا»... ومن ثم تعد ليبيا «قوة بينية صغيرة تقع بين قوتين قطبيتين» مصر من الشرق. والمغرب العربى من الغرب. ونضيف من خلفها إفريقيا وأمامها المتوسط وأوروبا: إيطاليا واليونان تحديدا...

ولهذا السبب أضحت ليبيا مطمعاً لكل الغزاة لكون أن موقعها الجغرافي أضحي يقدمها كنموذج مثالي للاستعمار الاستراتيجي. ويشرح جمال حمدان ذلك فيقول: "هي لا تتوسط ساحل البحر المتوسط الجنوبي في مواجهة إيطاليا فحسب، لكنها كذلك تقع بين قوسي الاستعمار البريطاني في شمال شرق إفريقيا والفرنسي في شمالها الغربي. وهي بذلك خشبة قفز من القاعدة الأم، وموطئ قدم على اليابس الإفريقي، ورأس حربة داخل محيط الاستعمار القديم".

ويشير جمال حمدان إلى أنه في عهد الفاشية اتسعت أحلام إيطاليا إلى إمبراطورية عظيمة "أفريقية" أو "إسلامية"، تبدأ من تونس وليبيا فلا تنتهي إلا في الصومال واليمن، وبذلك يبتلع جسمها كل الاستعمار البريطاني في حوض النيل، سواء مصر والسودان، إلى جانب القرن الإفريقي، كما يرتكز هيكلها على البحرين المتوسط والأحمر.

وفق هذا المنظور، يؤكد "حمدان" على أن ليبيا كانت بالنسبة لإيطاليا عتبة أو مفتاح الإمبراطورية المأمولة، لافتا إلى أن ما حدث كان بمثابة استعمار استراتيجي في الدرجة الأولى، استعمار مواقع وقواعد عسكرية وموقعا جغرافيا لا موضعا عمرانيا.

لكنه يؤكد أن مشروع الإمبراطورية الإيطالية الخيالي كان يمت إلى منطق الماضي أكثر منه إلى حقائق الحاضر والعصر، إذ تبدد المشروع برمته بصورة ساخرة حقا أثناء الحرب الثانية، لكنه يستدرك أن "هذه التجربة أثبتت على الأقل قيمة ليبيا البالغة كموقع استراتيجي دقيق وكموقعة حربية هامة".

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة أود أن أؤد عليها من خلال ما توصلت إليه من كلام جمال حمدان ومن تاريخ ليبيا الحالي وهو أن ليبيا لديها احتياطي نفط بلغ 41 مليار برميل، وتنتج، قبل إيقاف الضخ، 2 مليون برميل يومياً، وتعد سواحلها -حتى الآن- باحتياطي غاز لا يقل عن 2 تريليون أمام سواحلها الممتدة على ساحل المتوسط.

وهناك ثروات من نقد وذهب غير معلومة من زمن نظام حكم معمر القذافي لا أحد يعلم مكانها بالضبط، لكن يدرك أنها سوف تظهر ويتم استعادتها، تقدر بـ350 مليار دولار على الأقل..

يضاف لذلك احتياطي الصندوق السيادي الليبي «يقدر بقرابة 90 مليار دولار» الذى يمكن أن ينتعش، فى حال الاستقرار السياسي والأمنى، إذا بدأت عوائد النفط واستكشاف الغاز الجديد تدر مداخيلها..

ولذلك وجدنا الغرب وأردوغان لا يخفى تلهفه على النفط الليبى الذى تقول تقديرات إن عائداته تصل إلى 180 مليار دولار سنويا، إضافة إلى أن أردوغان يسعى إلى تحويل ليبيا لورقة يهدد بها أوروبا بإغراقها بالمهاجرين غير الشرعيين، وكذلك إزعاج ومناكفة مصر، عقابا لها على ما فعلته بضرب مشروعه عام 2013 .

ولهذا السبب أصبح أردوغان لا يهددنا فقط من الحدود الغربية، ولكن يهددنا أيضا من الحدود الشمالية، حينما وقع مذكرة تفاهم مع حكومة الوفاق والميليشيات فى طرابلس يعتقد أنها تعطيه الحق فى الحصول على جزء من ثروة الغاز فى شرق البحر المتوسط؛  وما يهم مصر الآن في المقام الأول ألا تصل القوات التركية إلى شرق ليبيا، لأن ذلك يعنى تهديداً مباشراً للأمن القومى المصري، أي يصل التهديد التركى إلى أرض مصر مباشرة..

بينما يستقر النفوذ التركى في غرب ليبيا ليكون تجمعاً مع تونس وتهديداً للجزائر وكل باقى شمال إفريقيا العربى.. من هنا يجىء أردوغان لمنع سقوط- أو تحرير- طرابلس وليس هزيمة الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر.. ليس من أجل عيون الجانب الوطنى، ولكن لترسيخ فكرة انفصال الغرب عن الشرق.. أي تقسيم ليبيا.. وبالمناسبة يتنامى الوجود التركى في طرابلس منذ سنوات فالشركات التركية يزداد نفوذها.. تستثمر هناك عشرات المليارات.

ويستهدف المخطط التركي سحب الجيش المصري إلى معركة في طرابلس، وبسبب تصاعد الوجود التركى هناك يمكن أن تندفع مصر بقواتها الجوية لقصف مناطق تواجد الميليشيات الإرهابية فيها.. وهنا يتعرض سكان طرابلس ومصراتة وغيرهما للضرر.. وبذلك تحدث القطيعة بين مصر وأبناء غرب ليبيا وبالذات في طرابلس حيث الكثافة السكانية العالية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

............................

المراجع

1- جمال حمدان: الجماهيرية العربية الليبية: دراسة فى الجغرافيا السياسية، مكتبة مدبولي ، القاهرة، 1996م.

2-عماد الدين حسين: ليبيا.. والمشروعات المتنافسة على المنطقة (مقال).

3-  عباس الطرابيلى: تقسيم ليبيا.. هدف تركي(مقال).

4- سمير مرقص: ليبيا.. الميزان والذهب (مقال).

5- عماد الدين اديب: عشرة أسباب للصراع على ليبيا (مقال).

 

في المثقف اليوم